-1-

منذ سنوات طويلة، والصدامات متتالية بين فئة من المسلمين المتشددين والمتطرفين وفئة من الأقباط في الصعيد المصري، حيث يقطن غالبية الأقباط، وكذلك في الإسكندرية. وفي ظني أن مثل هذه الصدامات لن تنتهي كليةً، حتى وأن قامت الدولة المصرية بمنح الأقباط كافة ما يطالبون به الآن. فمشكلة الأقباط ndash; في رأيي المتواضع ndash; ليست مع الدولة المصرية، ولكنها مع الشارع المصري.

فبدون حدوث تطبيع للعلاقات بين المسلم المصري والقبطي تطبيعاً كلياً وواقعياً، لن ينعم الأقباط بحياة هانئة في مصر، حتى ولو تحقق التالي:

1- فزيادة عدد الكنائس القبطية، لن يضع حداً للصدامات بين المتشددين الدينيين من الطرفين.
2- ومعاقبة مسببي هذه الصدامات معاقبة قاسية من خلال قوانين وأنظمة تحمي الأقلية القبطية المصرية، لن تضع حداً لهذه الصدامات.
3- وفتح أبواب التوظيف المغلقة أمام الأقباط، ومساواتهم بالمصريين المسلمين بموجب قانون ونظام معلن، وإعطائهم حق المواطنة الكاملة والمساواة التامة، لن يحمي الأقباط المصريين من اعتداءات المتشددين الإسلامويين.
4- وكتابة المقالات، والبكاء على جدران الصحف الورقية والاليكترونية، وإنشاء المنتديات الخاصة للدفاع عن القضية القبطية، وعقد المؤتمرات في المهجر، ودعوة كبار المسئولين الأوروبيين لحضور هذه المؤتمرات وسماع البكاء القبطي، لن يحلُّ مشكلة الأقلية والأكثرية والصدامات الدموية المتكررة في مصر.
5- والهجوم البذيء والطفولي والسطحي على الإسلام من قبل بعض الكتبة الأغرار الأقباط (الذين يخطئون كثيراً بالإملاء والنحو)، ورمي الإسلام باتهامات كاذبة، وعدم التفريق بين الإسلام كدين ورسالة إنسانية سامية، وبين بعض المسلمين والمتشددين الأصوليين المتطرفين، لن يخفف من هذه الصراعات الدموية، بل العكس سوف يزيد منها كما قرأنا وسمعنا في المدة الأخيرة.

إذن ما هو الحل؟
الحل المُلخَّص تلخيصاً شديداً هو في quot;التطبيعquot;.
يجب أن يتم quot;التطبيعquot; بين الشارع المصري والأقباط، كما تم بين السود والبيض في أمريكا، وجنوب افريقيا.
أما كيف سيتم هذا، فسنشرحه كالتالي:

-2-
1-لاحظنا في السنوات الماضية، وخاصة منذ العام 1970 إلى الآن، أن الزعامة الدينية القبطية ndash; حيث لا زعامة سياسية قبطية الآن، وانتهى عصر مكرم عبيد وآل غالي ndash; تنتهج في السياسة رأي الدولة المصرية، وتتبنى خطها السياسي. فهي تؤيد السلام مع إسرائيل، وهي مع انتخاب حسني مبارك في كل دورة. وأخيراً أطلقت الزعامة القبطية موافقتها وبركتها على توريث جمال مبارك الحكم. ومن هنا، فقد انخرطت الزعامة الدينية القبطية في السياسة المصرية العليا انخراطاً تاماً، مما سيمكن الدولة مستقبلاً من حماية رعاياها الأقباط من عسف وإرهاب بعض المتأسلمين.
وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا ينتسب الأقباط بشكل كثيف في quot;الحزب الوطني الديمقراطيquot; الحاكم ، ويشكلون جبهة واحدة مع هذا الحزب، لتقف في وجه الإخوان المسلمين، الذين يثيرون الغبار الكثيف من وقت لآخر في وجه الأقباط، وهم الأعداء الحقيقيون للأقباط في مصر؟

2- ولماذا لا ينغمس الأقباط في الحياة السياسية المصرية حتى آذانهم، ولا يكتفون بالاشتغال والنجاح في الأعمال التجارية، وتقلُّد بعض المناصب التعليمية في بعض الجامعات والمعاهد المصرية؟
إن شهرة بطرس غالي باشا (رئيس وزراء مصر 1908-1910) ومكرم عبيد (1889-1961) أحد زعماء حزب الوفد المشهورين، لم تأتِ من فراغ، بل جاءت من انغماس كليهما في السياسة المصرية وشجونها، وهو ما يفتقده الأقباط الآن، حيث لم يبقَ لهم من أصوات سياسية خافتة غير بطرس بطرس غالي رئيس المجلس الأعلى لحقوق الإنسان الحالي، ويوسف غالي وزير المالية المصري الحالي.
ففي عام 1924 وهو العام الذي بدأ فيه الأقباط المشاركة الفعلية في الحياة السياسية المصرية، كان عدد النواب الأقباط المنتخبين 16 نائباً من مجموع 214 نائباً، ويشكلون نسبة 8 بالمائة تقريباً من مجلس النواب المصري، وهي نفس نسبتهم تقريباً إلى عدد السكان. وفي عام 1926 أصبح عدد نوابهم 23 نائباً، وبنسبة حوالي 10 بالمائة من مجموع عدد مجلس النواب المصري. وفي عهد الثورة وفي السنوات 1957، 1964، و 1969 كانت تمثيل الأقباط في مجلس النواب المصري هزيلاً، ومشاركتهم في الحياة السياسية صفراً، أو تكاد تقترب من الصفر (2 بالمائة). وفي عهد السادات ارتفع تمثيلهم إلى 3 بالمائة، وهو تمثيل هزيل نسبة إلى ما كان عليه في العهد الملكي. وفي فترة (1984- 2000 ) وفي عهد مبارك انخفض تمثيلهم إلى 1.65 بالمائة. وهو أقل وأدني تمثيل من أي عهد سابق. وليس لهم في مجلس النواب الحالي غير نائب واحد منتخب، وعدة نواب قلائل معينين. وكأن الأقباط قفلوا أو (صكّوا) الأبواب السياسية، واعتصموا بالكنيسة، ينظرون من خلال شبابيكها الضيقة إلى الحياة السياسية المصرية، ويطالبون في الوقت نفسه بالمساواة وبحقوق المواطنة الكاملة.

-3-
في ظني ndash; وربما أكون على خطأ ولكني أجتهد - إن وضع الأقباط في مصر الآن، كوضع السود في أمريكا قبل السبعينات من القرن الماضي. ونسبتهم إلى عدد السكان تكاد تكون واحدة.

فماذا فعل السود في أمريكا لكي يصل واحد منهم إلى البيت الأبيض كرئيس لأمريكا؟
1-شاركوا في الحياة السياسية الأمريكية، ووصلوا بالانتخاب، وليس بالتعيين إلى مجلس النواب، ومجلس الشيوخ.
2-اهتموا بالرياضة اهتماماً كبيراً، وبرز منهم أبطال في معظم الأنشطة الرياضية.
3-اهتموا بالفن السينمائي والغنائي والموسيقي والأدبي، فبرز منهم نجوم وأعلام في هذه الفنون.
4-اهتموا بالتعليم العالي، فكانوا أساتذة في أكثر الجامعات شهرة في أمريكا، كما وصلوا إلى المحكمة العليا كقضاة مشهورين.
وبعد هذا، لم يجد البيض في أمريكا بُداً من الاعتراف الكامل بحقوق السود الوطنية، وبمساواتهم مع باقي السكان في الصلاحيات والمسؤوليات، بعد أن كانوا يعاملونهم معاملة الكلاب، حيث كانت المطاعم الأمريكية تُعلِّق لافتة تقول: (ممنوع دخول الكلاب والسود). ولو انغلق السود في أمريكا كما ينغلق الأقباط الآن على أنفسهم في مصر، وطالبوا بحقوق المواطنة الكاملة من خلال المؤتمرات، والندوات، والاعتصامات، والمقالات، والنداءات التي تهاجم البيض، وتشتمهم، لما حققوا عُشر ما حققوه الآن من مكاسب وطنية، ووصول أحد أبنائهم إلى سدة البيت الأبيض.
فالسود في أمريكا أصبحوا بيضاً بإنجازاتهم المختلفة، بل إن بعضهم أصبح أكثر بياضاً من البيض أنفسهم!

-4-
إن درس وظاهرة السود في أمريكا درس رشيد ومفيد، لكل الأقليات في العالم العربي، التي تسعى إلى نيل حقوق المواطنة الكاملة، ومنهم الأقباط في مصر.
إن على الأقباط، إذا أرادوا أن ينالوا حقوقهم الوطنية كاملة غير منقوصة أن ينتزعوها انتزاعاً، وليس استجداءً، أو منحةً، أو مكرُمةً، وإنما انتزاعاً بقوة المعرفة، وقوة المال، وقوة الحضور السياسي، وقوة النجومية في الرياضة والفن والأدب. ولن يتم حصول الأقباط على حق المساواة والمواطنة الكاملة هذه، إلا عندما تشعر الأكثرية المصرية، أن الأقباط في كافة المجلات هم من بين بُناة مصر الفاعلين، وهم ركن مكين في بناء أهرام مصر الحديث، وليسوا هامشيين، أو عالة من عالات مصر الكثيرة الآن.
والأقباط إن فعلوا ذلك كله، فسوف يصبحون أكثر مصرية من الإسلامويين المصريين، وأكثر انتماءً لمصر من إسلامويها المتنطعين.
السلام عليكم.