-1-
ما زال معظم الحكام العرب يعتبرون شعوبهم عبارة عن قطعان من الماشية. وما زال هؤلاء الحُكَّام، يعتبرون البلاد التي يحكموها عبارة عن مزارع خاصة، وهم مالكوها، يفعلون بها ما يشاءون. ويرددون دائماً بأن quot;من حَكَمَ بماله ما ظَلمْquot;. لذا، فإن كل الظلم والعسف والطغيان الواقع على شعوب هؤلاء الحُكَّام، لا يعتبره هؤلاء الحُكَّام ظلماً، ما داموا يحكمون أموالهم ورعاياهم.
من ناحية أخرى، يعتبر معظم الحكام العرب، بأننا ما زلنا نعيش في العصر العباسي، حيث يحقُّ لخليفة كالمنصور (مؤسس الدولة العباسية) من أن يذبح معارضيه من الأمويين، الذين كانوا يحضرون مجلسه، ويقتلهم واحداً تلو الآخر، ويأمر بالأنطاع التي بُسطت عليهم، ثم يجلس المنصور فوقهم، ويطلب الغداء فيتغدى. وأثناء ذلك، كان بعض الأمويين القتلى يتحرك، وفيهم من يُسمع أنينه. فلما فرغ المنصور من غدائه، قيل له: هلاّ أمرت بهم، فدفنوا، أو حوّلوا إلى مكان آخر، فإن رائحتهم تؤذيك؟
فقال: والله إن هذه الرائحة لأطيب عندي من رائحة المسك والعنبر، فالآن سكن غليلي!
ولم يُحاسب أو يُعاقب الخليفة المنصور على فعلته تلك، لأن الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يكونا قد وجدا في ذلك الوقت. ولأن منظمة حقوق الإنسان لم تكن قد نشأت. ولأن الضمير العالمي والإعلام العالمي لم يكن موجوداً في ذلك الوقت. ولم تكن هناك محكمة جنايات دولية في لاهاي. ولكن معظم الحُكاَّم العرب الآن، ينكرون كل هذه الهيئات، ويبطشون بمواطنيهم بطشاً غير محسوب عقابه، وعندما تصدر الأحكام ضدهم يهيجون ويحملون عصي المارشالية، ويقول لمحكمة الجنايات الدولية:
quot;طز فيكمquot;!
ويضيفون انطلاقاً من وحشيتهم وجرائمهم:
لتبلَّّ المحكمة الدولية ورقة الاستدعاء ولتشرب ميَّتها!
فهؤلاء هم حُكَّامنا الهمج والمتوحشون.
-2-
في العام الماضي وتحديداً في 20/7/2008 كتبت مقالاً هنا في quot;إيلافquot; وعلى هذه الصفحة بعنوان (خذوهم.. فغلوهم.. وفي الجحيم ألقوهم). وكان مما قلته، أن العالم العربي هاج وماج بقرار المدعي العام مورينو أوكامبو، إلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر حسن البشير، للتحقيق معه، ومع عصابته في ثبوت جرائمه البشعة في دارفور. وكان الحزن والحيرة والدهشة، التي تلبّست البعض من أصحاب الضمير الحي، تتلخص في هذا الهيجان والميجان، الذي ظهر في العالم العربي، في حين التزم معظم العرب من حكام، وأحزاب سياسية ودينية، ونقابات، وهيئات، واتحادات، وروابط، بما فيها نقابة العاهرات، ورابطة بائعي ومروجي المخدرات، واتحاد المفسدين العرب، وجمعيات الحشاشين، وأصحاب ميثاق الدعارة الإعلامي، وغيرها من الهيئات العربية.. كل هؤلاء التزموا الصمت التام المطبق، وأغلقوا أفواههم بقفول ضخمة، ومنهم من قطع لسانه، ورماه للكلاب، خوفاً على حياته ndash; ومنهم أنا الذي يتفلسف اليوم، ويتكلم لأول مرة عن مأساة دارفور وجرائم البشير، وكذلك كل الذين يكتبون اليوم عن مأساة دارفور لأول مرة، حتى لا تفوتهم زفة الزول البشير - كل هؤلاء التزموا الصمت، حيال ما كان يجري يومياً من مذابح في دارفور المنكوبة، كما التزموا الصمت ذاته، على ما كان يجري كردستان وجنوب العراق أيام صدام، وما كان يجري في البوسنة والهرسك، ومناطق منكوبة أخرى من العالم، بينما كان ضمير العالم يتحرك ويصرخ، ويحاسب ويعاقب، وإن كان حتى الآن لم يحاسب ويعاقب جميع المجرمين في العالم.
فلكل ساعته، ولكل ميقاته.
-3-
وعمر البشير، الذي يتباكي عليه بعض الزعماء العرب اليوم، كما تتباكى عليه مجموعة من الإعلاميين، من بائعي فجل الكلام في سوق الخضار العربي، وتتباكي عليه بعض الفضائيات التي تتبنى الإرهاب في العالم العربي بكل أشكاله وألوانه، باسم المقاومة الشريفة، سواء في دارفور، أو في العراق، أو في أفغانستان، أو في أي مكان أخر من العالم العربي.. هذا البشير هو الجلاد الأحمق، الذي لم يرعوِِ، ولم يرتدع، لا من تحذير الشرعية الدولية، ولا من الرأي العام العالمي، الذي كان ينظر إلى مذابح دارفور كأكبر الكوارث الإنسانية التي حلت بالإنسانية، بعد الكوارث النازية والفاشية.
فالبشير، هو من حوّل الفرد السوداني الوديع، والطيب، والرقيق، والبسيط، والنبيل، إلى مجرم ووحش وكاسر، في صورة شيطان، يسرق، وينهب، ويقتل، ويغتصب نساء دارفور، دون خوف أو خشية، من وعد أو وعيد، أو من حساب وعقاب.
والمضحك المبكي، أن أكثر السياسيين المتحمسين لخطة هروب البشير من قبضة العدالة، هم الذي يمثلون حكومات طاغية، ومستبدة، ومجرمة كحكومة البشير.
فهؤلاء يخشون على رؤسائهم من مصير تعيس كمصير البشير. كما خشوا في السابق على مصير تعيس كمصير صدام حسين، فحاربوا العراق وشعب العراق بشتى الوسائل، وأرسلوا له قوافل الإرهاب.
ولكن العدالة قادمة، وإن كانت تأتي بطيئة، وتتأخر بعض الوقت، حتى ليحسب المجرمون، أنها لن تطالهم، وهم كاذبون وواهمون.
-4-
لو كان في العالم العربي شرفٌ، وذمةٌ، وفضيلةٌ، وعدالةٌ، وكل قيم الخير والمحبة والسلام، لبادر هذا العالم إلى محاكمة البشير في quot;محكمة العدل العربية العلياquot;، التي نحلم بها منذ سنوات، على جرائمه في دارفور، بدل هذه الفضيحة المدوية والبهدلة الدولية. ولحاكم العرب آخرين على جرائمهم في لوكربي، وفي السجون السورية، والعراقية، وفي كل السجون العربية المليئة بالمعارضة، وأصحاب الرأي والرأي الآخر. ولما كنا بحاجة إلى قاض كمورينو أوكامبو.
أما وقد خلا العالم العربي من العدل والعادلين، ومن الحق وأهله، ومن الشجاعة والشجعان، وامتلأ بالجبناء، والمزورين للحقيقة، فمن حق المحاكم الجنائية الشرعية الدولية وقضاتها، أن يتحركوا، ويضعوا نهاية لإلحاق الموت والكوارث بالبشر والبشرية، ونحن نتفرج عليهم، ولا نملك غير تهريب، وتغييب، وتبرئة المجرمين من جرائمهم، كما حصل في السابق لصدام حسين، والقذافي، والأسد الغائب، والأسد الحاضر، وغيرهم من أصحاب فضائل الإجرام في العرب الأغنام.
-5-
سوف يثير بعض القراء، من الذين شربوا حليب السباع الناصرية والأسدية والصدامية والنصراوية والحمساوية وغيرهم، من جحافل المناضلين والمناضلات في مشارق العروبة ومغاربها، مقولة أن الغرب يكيل بمكيالين. فلماذا لم تتم محاسبة القادة الصهاينة عما فعلوه بالشعب الفلسطيني في غزة وقبل غزة ومنذ الأربعينات حتى الآن؟
وهم على الحق، كل الحق في ذلك.
لقد سأل صحافي فضائية quot;العربيةquot; القاضي أوكامبو، عن اتهامات quot;الكيل بمكيالينquot;، التي وجهها البعض إلى المحكمة، خاصة أنها لم تتحرك في قضايا كبرى، كاجتياح العراق، والحرب على غزة، وما جرى في معتقل أبوغريب، ومذبحة سجن أبو سليم في ليبيا عام 1996، التي قتل فيها 1200 سجيناً في ليلة واحدة داخل زنزاناتهم. كما أن هذه المحكمة لم تُطالَب باعتقال الرئيس الصيني للجرائم الصين في التيبت، وهو ما أثار شعوراً باقتصار تطبيق القانون على الضعيف.
وكان ردّ أوكامبو بنفي المعايير المزدوجة، مؤكداً أنها تحقيقات ذات طابع قانوني محض، وترتبط بالسلطات القضائية للبلدان. وعلى المعنيين في كل بلد وبكل قضية، أن يتقدموا للمحكمة بطلبات تحقيق في هذه الجرائم، والأدلة اللازمة.
وأضاف:
وأضاف:
quot;السلطة الفلسطينية قدمت طلباً للتحقيق في جرائم الحرب على غزة، ونحن ننتظر الأدلة التي يمكن أن توفرها لها، مع الجامعة العربية، للمضي قدماً في التحقيقات وتقييم الوضع؛ لأن جرائم الحرب في غزة كانت فظيعةquot;.
فعلى العرب أن يتحركوا سريعاً، ويقدموا طلبات المحاكمة، والأدلة على هذه الجرائم، قبل أن تضيع حقوقهم، ويبدأوا باللطم والصراخ والعويل قائلين:
الغرب يكيل بمكيالين. في حين أن لا طلبات عربية للمحكمة الجنائية لمحاكمة من اقترفوا جرائم بشعة، ولا من أدلة يقدمها العرب النائمون في العسل، والضائعة حقوقهم لعدم المطالبة لها.
السلام عليكم.
التعليقات