لم يكن فولتير فيلسوفاً فقط، ولكنه كان فيلسوفاً مناضلاً. لم يحمل سيفاً أو سكيناً أو بندقية، ولكنه كان يحمل في رأسه أقوى من كل هذا، وهو الكلمة، التي فجّر بها ثورة 1789 الفرنسية، بعد أن رحل مع روسو قبل الثورة بعشر سنوات عام 1778 . وما كان غير فكره وآرائه يمكن أن يفجِّر تلك الثورة المجيدة.
لا إيمان دون عقل
كان فولتير يحب الجدل والحوار. وبالحوار استطاع أن يغلِبَ كل أعدائه، وعلى رأسهم الكنيسة وخرافاتها وتعصبها، كما يقول مؤرخه اندريه كريسون. والسبب في ذلك أن فولتير كان رسول التسامح في أوروبا، وكانت الكنيسة معقل التعصب والحقد. وكان فولتير يضع العقل فوق الإيمان، لأنه بدون عقل لا يتم الإيمان العميق. في حين أن الكنيسة كانت تضع الإيمان فوق العقل. وكان فولتير لا يريد من المؤمن أن يُسلِّم دون تفكير عميق أمره إلى كتابين مقدسين، دون سؤال، وجواب مقنع. وكان فولتير يسخر من بعض الأحداث والأخبار ذات القدسية المزيفة، التي لا تتعدى أن تكون خرافة من الخرافات، لا يصدقها العقل.
أقوم المسالك وأقصر الطرق
ويوسف أبا الخيل المفكر التنويري السعودي، له من كل هذا نصيب كبير. فهو لا يملك ليرد به على من هددوه بالقتل، وأهدروا دمه، غير قلمه وفكره وحججه. وهو يؤمن أن الحوار أسلك السُبل، وأكثر الطرق قصراً وسلامة للوصول إلى الغايات. وأن لغة الحوار شجرة في أرض التسامح. وشجرة الحوار لا تنبت في أرض التعصب والبغضاء. والحوار يحتاج إلى حريةٍ، وهواءٍ، وشمسٍ، وفضاءٍ مفتوحٍ، طَلقٍ.
فالأشجار لا تنبت وراء الجدران، وفي الغُرفات المظلمة.
التسامح يعني التحمُّل
ويقول أبا الخيل: quot; التسامح لا يمكن أن يكون فعالاً وناجعاً إلا عندما يكون خياراً اضطرارياً، ليس أمام الفرد من حيلة إلا بدفعه، وإلا فقد حقه في ثمرة التسامح نفسه.quot; والتسامح معناه التحمُّل. فكما أن الشجرة تتحمل تقلبات الطقس القاسية، في الشتاء القارص، والصيف القائظ، والرياح المقتلِعة العاتية، فكذلك التسامح. فأبا الخيل يردُّ جذر التسامح إلى التحمُّل، وهو الجذر اللاتيني Tolerare. والتحمُّل جهاد مع النفس ومشقة كبيرة، لا يقدر عليها إلا القلة. وجهاد التحمُّل، هو ما نفتقده في مجتمعاتنا العربية اليوم وبالأمس. ويشرح أبا الخيل ذلك بقوله: quot;فالمسلم التقليدي مثلا، لا يريد - لو ترك الأمر لإرادته الخاصة - أن يعيش إلا في بيئة إسلامية خالصة. وحتى داخل الديانة الواحدة، فإن المتمذهب بمذهب معين داخلها، لا يسره أن يعيش مع من يتمذهب بمذاهب أخرى.quot;
لا خروج من الشرانق
ويضيف: quot;أن السُنّي لا يريد أن يعيش إلا في بيئة سُنيَّة خالصة، والشيعي لا يريد أن يعيش إلا في بيئة شيعية خالصة هي الأخرى. ولو تدرجنا أفقياً، مع الفسيفساء المذهبية، لقلنا أن السلفي لا يريد - لو أتيح له الأمر- أن يعطي الفرصة للاتجاهات السُنيَّة الأخرى، كالأشعرية مثلاً، أن تشاركه العيش في بيئته ومجتمعه، مثلما أن الشيعي الإثناعشري، لا يسره أن يعيش في مجتمع يشاركه العيش فيه شيعي آخر، إسماعيلي أو زيدي مثلاً، والعكس صحيح أيضاً.quot;
استبعاد الاستشهادات الدينية
يشير أبا الخيل في إحدى مقالاته عن (التسامح والتعصب: القاعدة والاستثناء) إلى نقطة هامة جداً، وهي إذا كنا نريد أن تنجح حواراتنا مع الآخر، وهو الغرب المسيحي، أو الشرق اليهودي، أو المذاهب الإسلامية الأخرى، أو أية ديانة أخرى يضمها أي مؤتمر للحوار الديني مستقبلاً، فمن الضروري أن يستبعد المتحاورون جميعاً الاستشهادات بالنصوص الدينية المختلفة. وهذا ما جعل الحوار بين مختلف الأديان في القرنين الثالث والرابع الهجريين (العاشر والحادي عشر الميلاديين) ناجحاً ومثمراً للجميع.
الاكتفاء بالمحاجَّات العقلية
فقد كان المتحاورن بمختلف أطيافهم ndash; كما يقول أبا الخيل - يشترطون على بعضهم quot;عدم الاستشهاد بالنصوص المقدسة الخاصة بديانة كل منهم، والاكتفاء بالمحاجَّات العقلية فقط. ولم تكن تلك الشروط تثير أية حساسيات أو تساؤلات، بل كان المجتمع الحاضن لتلك الحوارات يتعامل معها بشكل طبيعي. ورغم خلو الجو الثقافي في المغرب والأندلس من إشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة، الأمر الذي مكَّن الفلسفة الأندلسية، خاصة مع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، من تبني المنظومة الأرسطية كاملة، بما هي عليه من خلو من إشكاليات اللاهوت، واعتماد كامل على منتجات العقل وحده، إلا أن الأمر لم يكن يخلو في المشرق كذلك من حوارات عقلانية بحتة.quot;
quot;المقاصديةquot; هي القراءة السليمة
العالم في الخارج، شرقاً وغرباً، لا يعرف عن دعاة التسامح والتعصب، إلا أولئك الفئة المتشددة من رجال الدين الأصوليين، الذين يرفضون الحوار مع الآخر، ويعادون قيم العصر في الحرية، والديمقراطية، والسلام. ويحاولون تفسير بعض آيات القرآن الكريم، بما يخدم إيديولوجيتهم فقط. فالقرآن حمّال أوجه. وكلما طلبتَ منه وجهاً أعطاك إياه، وأعطى غيرك غيره. ولكن المهم أن quot;المقاصديةquot; والتفسير quot;المقاصديquot; للقرآن الكريم - وهي دائماً إلى صف الإنسان ولصالحه- غائب عن فهوم (جمع فَهْم) كثير من رجال الدين الأصوليين المتشددين، الذي يفسرون الآيات تفسيراً حرفياً، دون تأويلها مجازياً ومقاصدياً. وهي المقاصدية التي ينادي بالأخذ بها أبا الخيل، والتي سبق وأسس لها ونادى بالأخذ بها، المفكر والمصلح الديني الأندلسي الإمام إبراهيم الشاطبي (؟- 1388م)، والتي سنأتي على ذكرها وشرحها، فيما بعد.
ثقافتنا نصيّة
وسبق أن قال لنا الشاعر والكاتب السعودي الحداثي محمد العلي: quot;أن ثقافتنا ثقافة نصيّة. ومعنى النصيّة هنا، سجن النص في دلالة واحدة. وهذه الدلالة الواحدة حددها فرد بشري. وكانت العصا كفيلة بسوق الناس إلى اعتناق هذه الدلالة، وكما فهمها هو. وليست هناك حرية لتفجير ملكة الأفراد في التفكير.quot; (quot;كلمات مائيةquot;، ص 489، 493).
ثقافتنا تقوم على الإخضاع لا الإقناع
ليس أبا الخيل وحده في السعودية هو الصوت التنويري الليبرالي الذي ينادي بقوة بقيم التسامح والحوار، ولكن هناك أصوات أخرى إلى جانبه لا تقل عنه شجاعة، وقوة، وإيمان بالحق، الذي نتوخاه. ومن هذه الأصوات المفكر التنويري الليبرالي الآخر إبراهيم البليهي، الذي يقول عن قيم التسامح والحوار: quot;إن العلاقات في الثقافة العربية لا تقوم على التفاهم والإقناع، وإنما تقوم على القوة والإخضاع. لذلك، لم نحاول إفهام العالم بقضايانا، خلافاً للمبدأ العظيم الذي أرشدنا الله إليه. فهذا المبدأ العظيم شديد الوضوح في القرآن الكريم، لكننا أضعناه، وأعلنا الخصومة العنيفة، والمنابذة الفجَّة لكل من يخالفنا الرأي، فتفاقمت الخسائر، والانتكاسات، والكوارث.quot; (quot;البليهي في حوارات الفكر والثقافةquot;، ص 77).
الحوار يفتح الأقفال المغلقة
ويقول البليهي أيضاً : quot;إن للحوار فاعلية عظيمة في تخفيف التعصب وفتح الأقفال الذهنية المغلقة، وتقريب الاتجاهات المتنافرة، وتحريك المواقف المتحجِّرة. كما أن له فاعلية مهمة في فهم الذات وفهم الآخر، وفي تأسيس ثقافة الإقناع والإقلاع عن ثقافة الإخضاع، واكتشاف خرافة دعاوى امتلاك الحقيقة المطلقة.quot; (quot;البليهي في حوارات الفكر والثقافةquot;، ص 132). والمتأمل في هذه الكلمات يرى أن البليهي يرفض كل فتاوى رجال الدين الأصوليين المتشددين ضد أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى، الذين يشعلون دائماً نار الفتنة بين هذه الفئات، لكي تبقى كلمتهم هي العليا، وسيفهم هو المُسلَّط فوق رقاب الآخرين.
هوس الإقصاء
وتضمُّ الكاتبة السعودية الليبرالية حِصَّة آل الشيخ سهمها إلى حُزمة سهام يوسف أبا الخيل، وإبراهيم البليهي، ومحمد العلي، وتُطلق سهمها بجرأة وإقدام قائلة: quot;إن رفض التعددية ناشئ أصلاً من التعصب المولِّد للكراهية، وبالتالي العداء، الذي جعل المختلف مستحقاً للدعاء عليه، وفق هوس الإتباع المذهبي الإقصائي، وتغييب التسامح والانفتاح.quot; (جريدة quot;الوطنquot;، 30/7/2009).
اسمعوهم فهُم المستقبل
كل هذه الأصوات الليبرالية التنويرية وغيرها، التي تعجُّ بها الصحافة السعودية اليوم معلنةً quot;ربيع الرياضquot; الهادئ، لا يسمعها معظم العالم، المشغول بسماع غيرها من الأصوات السعودية المنتشرة - كنبات الفطر - على الانترنت، والتي هي ndash; في معظمها - صدىً لأصوات عظام في القبور، ترسل كل يوم الفتاوى المثيرة للضحك والسخرية والباعثة على الهُزء.
اسمعوا الليبراليين فهم المستقبل، وهم سعودية الغد الممكن!
* غُرف وغُرفات جمع غرفة. وطه حسين يجمع دائماً غُرفة بغُرفات، على وزن شُرفة وشُرفات.
(ولنا عودة).
السلام عليكم.
التعليقات