-1-
في كل شهر رمضان من كل عام، وفي المناسبات الدينية الأخرى خلال العام، يظهر لنا الكثير من الفقهاء المسلمين على شاشات الفضائيات، يكررون على مسامعنا كلاماً معاداً لا جديد فيه. وهو ما نطلق عليهم اجترار التاريخ، واجترار التراث الديني والاجتماعي، دون الإتيان بتفسير جديد وإيجابي لوقائع التاريخ، ودون النظر في هذه الوقائع من داخلها، وليس من خارجها، أو من فوقها.
وفي الفترة الأخيرة ظهرت لنا مجموعة من الدعاة الدينيين الشباب ndash; خاصة في مصر ndash; وظيفتهم إبكاء الحضور، وإشعارهم بأنهم قد ارتكبوا ذنوباً لا تقدر على حملها حتى الجبال الرواسي. فعليهم أن يستغفروا، وأن يتوبوا، وأن يبكوا بحرقة على ما اقترفوه من ذنوب وآثام. ومثل هذه الدعوات من شأنها أن تُبعد الشباب عن الاجتهاد والخلق والإبداع الجديد، وترمي بهم في مهاوي اليأس والإحباط السحيقة. ومثل هذه التيارات ليست قاصرة على العرب والمسلمين، ولكنها تنساق أيضاً على المسيحية واليهودية. ففي أمريكا ndash; مثالاً لا حصراً ndash; أصبح بعض الدعاة الدينيين الأمريكيين من أصحاب الملايين من وراء المتاجرة بالدين، واستعمال بعض النصوص الدينية لشفاء المرضى من أمراض مستعصية، وكأن الأديان أصبحت عيادات طبية متخصصة، لأشهر أطباء العالم المتخصصين!

-2-
في العالم العربي، لم تُعد المعاهد الدينية المتخصصة تُخرّج لنا علماء وفقهاء من وزن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والطاهر حداد، والطاهر عاشور، ومحمد الفاضل عاشور، وعلي ومصطفى عبد الرازق، وأمين الخولي، وعائشة عبد الرحمن، وغيرهم. والسبب واضح في ذلك، وهو تغيير المناهج الدينية المنفتحة إلى مناهج دينية متشددة ومؤدلجة، وهذه التي تُدرَّس هذه الأيام. فهي شبيهة بالغذاء، الذي ينمو عليه الأطفال وينشئون.
فكما نتعلَّم نُعلِّم.


-3-
من ناحية أخرى، قام معظم فقهائنا وخاصة فقهاء الخليج ومصر، بإصدار و(فرقعة) كمٍ هائل من الفتاوى الدينية الشخصية، التي لا تلزم غير صغار العقول والدهماء من سواد الناس، من ذوي التدين الشعبي المكوَّن من الصوفية الطرقية الشعبية، وبعض الخرافات والأساطير والعادات والتقاليد المتوارثة، والغرض منها:
1- اظهار العداوة الشرسة للغرب وقيمه الثقافية والسياسية.
2- إثبات عدم الحاجة لهذه المفاهيم. فالإسلام ndash; كما يقولون - يجُبُّ ما قبله وما بعده. والإسلام فيه كل ما يحتاجه الإنسان من قوانين وتشريعات كما يقول الأصوليون.
3- لفت الأنظار إليهم، وجلب الشهرة والنجومية. فالشيخ فركوس الجزائري الذي حرّم أكل quot;الزلابياquot; في رمضان الفائت، أصبح أكثر شهرة من quot;الشاب خالدquot; أو أحمد بن بيلا. والشيخ المصري عزت عطية، رئيس قسم الحديث بالجامع الأزهر، حين أفتى بإرضاع الكبير، أصبح أكثرة شهرة من أم كلثوم وعادل إمام ومنصور فهمي. والشيخ السعودي فوزان الفوزان حين حرّم المظاهرات والانتخابات كآليتين من آليات الديمقراطية، أصبح أكثر شهرة من جان جاك روسو وتوم بين. وفي عام 2006، وفي معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، تمَّ بيع بول البعير بتسعة جنيهات في زجاجات، من إنتاج شركة استثمارية مصرية - سعودية في مصر، تبيع بول البعير كعلاج للسرطان والالتهاب الكبدى، وأُضيف أخيراً أن بول البعير يقي من إنفلونزا الطيور. كل هذا وغيره حصل، بدل أن ينشغل معظم فقهائنا بالمسائل الكبرى كالليبرالية والعَْلمانية والحداثة والعولمة وغيرها من مفاهيم العصر الحديث، ويرفعوا من قدر الإنسان ودوره في بناء الحضارة، ويضعوا عقل الإنسان في المرتبة الأولى في الحكم على الوقائع والحقائق، والفصل فيها، كما فعل مفكرو الأنوار في أوروبا، وحاولوا التقريب بين هذه المفاهيم وبين الإسلام، كما فعلت المسيحية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وحتى اليوم. كما لم يحاولوا استيعاب الإسلام لهذه المفاهيم الجديدة، وتجديد الإسلام على ضوء هذه المفاهيم الحديثة.
4- الاسترزاق والتجارة بالدين. فبعض الفقهاء في منطقة الخليج، يتقاضون الملايين سنوياً مقابل تقديمهم برامج دينية مكررة ورتيبة في رمضان، أو المصادقة على بعض ميزانيات البنوك الإسلامية، وختمها بخاتم الشرعية الإسلامية. أو العمل في الدعوة الإسلامية. فقد علمتُ أن بعض الدعاة الشباب من مصر يتقاضون في الليلة الدعوية الواحدة في الخليج مائة ألف ريال، وهو المبلغ نفسه الذي كان يتقاضاه المطرب السعودي طلال المداح، أو محمد عبده. كما يتلقى بعض الفقهاء الكثير من الهدايا والعطايا والمطايا والرعاية الصحية والاجتماعية في مناسبات دينية مختلفة، من رجال المال والأعمال والسياسة في الخليج خاصة.
5- الانتفاع من الدين في اكتساب سلطة سياسية. ففي كثير من الأحيان وخاصة منذ 1990 بعد أزمة الخليج العراقية ndash; الكويتية، أصبح كثير من فقهاء الخليج والجامع الأزهر في مصر من نجوم السياسة العربية. وبعد كارثة التاسع من سبتمبر 2001 وبروز الجماعات الإسلامية ذات المليشيات المسلحة، أصبح فقهاء الدين أكثر سطوعاً سياسياً خاصة عندما أصدروا الفتاوى الدينية الشخصية في تحليل أو تحريم الجهاد ضد القوات الأجنبية في العراق وأفغانستان. فقد حرّم ndash; مثالاً لا حصراً ndash; الشيخ جمال البنا عام 2003 مقاومة القوات الأجنبية التي جاءت إلى العراق لتحرير الشعب العراقي من الطغيان والديكتاتورية، وقال إن الكافر العادل خير من المسلم الظالم. وأن العدل يُفضَّلُ على التدين في هذه الحالة. واعتُبر البنا من فقهاء الأنوار علماً بأنه لم يدرس في الأزهر، ولم يتخرّج منه. في حين حلّلَ الشيخ يوسف القرضاوي الجهاد، ضد هذه القوات ودعا إلى تدفق المجاهدين بغض النظر عن سبب مجيء هذه القوات وهدفها. وقال بفتاواه الكثير من فقهاء الخليج وخاصة من فقهاء السعودية. وهذا هو ما أطلقت عليه السلطات الأمنية السعودية، الإرهاب المُحرِّض. وقالت بثلاثة أنواع من الإرهاب:
1- الإرهاب القاتل، وهو ما يقوم به الانتحاريون.
2- الإرهاب المُحرِّض، وهو ما يقوم به فقهاء الاجترار.
3- الإرهاب المُثبِّت، وهو أخطر أنواع الإرهاب، حيث يقوم بعض الفقهاء والدعاة بمتابعة من قرر الإرهاب، ويدفعونه، ويشجعونه، ويتلون عليهم الأحاديث النبوية المُلفَّقة، ويحثُّونه ويستعجلونه للسفر إلى أرض الجهاد، التي أصبحت مُشاعة للجهاد في معظم البلدان العربية، في مطلع القرن الحادي والعشرين.

-4-
ليس بمستغرب أن يصبح فقهاء الاجترار، سبباً من أسباب:
1- ارتفاع نسبة البطالة في العالم العربي نتيجة لمخرجات العدد الكبير من الكليات والمعاهد الدينية. وهؤلاء الخريجون لا يجدون وظائف كافية، وإن كان يعمل معظمهم في الإرهاب التحريضي والإرهاب التثبيتي كما سبق وشرحنا. وهم يتقاضون رواتبهم ليس من الدولة، ولكن من بعض رجال المال والأعمال والجمعيات الإرهابية، التي تعمل تحت غطاء quot;الجمعيات الخيريةquot;.
2- زيادة نسبة الفقراء وزيادة نسبة الفقر في العالم العربي، نتيجة التركيز على التعليم الديني، وتخريج أكبر عدد من الفقهاء وليس الخبراء والعلماء (علماء العلوم الطبيعية، التي اعتبرت قبل قرن من الزمان علوماً دخيلة!) الذين ينتجون الصناعة والتكنولوجيا. فكل بلد يزيد فيها عدد الفقهاء على عدد علماء الطبيعة - في السعودية يُطلق على رجال الدين العلماء، حيث لا علماء هناك غير فقهاء الدين- بلد متخلف وفقير، ولن يصمد في وجه تحديات العصر الحديث، خاصة عندما يُرفع عنه غطاء الثروة البترولية، ويصبح بحاجة إلى الغرب، لكي يعرف كيف يزرع غذاءه، وينسج ثوبه، ويُشفي أمراضه.
3- زيادة كراهية الآخرين وعدائهم للإسلام من جرَّاء تلك الفتاوى الشخصية الحمقاء، التي يطلقها فقهاء الاجترار، والتي ألّبت الآخرين في الغرب والشرق على الإسلام، ودعتهم للسخرية الحمقاء من الإسلام. واعتبرت هذه الفتاوى الحمقاء من صُلب الإسلام، ومن محتوى دعوته.
4- تحوّل الشارع العربي إلى شارع ديني لا يسمع ولا يقتنع ولا ينقاد إلا لبعض الفقهاء، وبمساعدة الأحزاب الدينية ndash; السياسية، وعلى رأسها quot;جماعة الإخوان المسلمينquot;، وquot;حزب اللهquot;، وquot;حماسquot;، وغيرها. وأصبح هذا الشارع سنداً وسلاحاً فعالاً بيد الأحزاب الدينية ndash; السياسية تحركه متى شاءت، ومتى رأت في ذلك منفعتها. وقد بدا هذا واضحاً في الشارع المصري خاصة.
5- زيادة نسبة الدعارة، والاعتداء على النساء في الأسواق التجارية والمدارس، نتيجة للتشدد والتطرف الديني لعزل الذكور عن الإناث بدءاًٍ من مرحلة الطفولة، واعتبار النساء من التابوهات المحرمة التي لا يجوز للرجال الاقتراب منها، وتضييق سبل العمل والزواج الشرعي. وقد تمثلت زيادة نسبة الدعارة هذه، في تشريع quot;زواج المسيارquot; وquot;زواج الاصطيافquot; وquot;زواج البيزنسquot; وquot;زواج الفرندزquot; وغيرها من طرق الزواج التي شرّعها بعض الأصوليين، والتي تهدف التخفيف من حدة الحرمان الجنسي، وقضاء المتعة الجنسية للجنسين فقط. وهي عين الدعارة وجوهرها. فالزواج هو بناء العائلة، وليس قضاء المتعة الجنسية فقط. وهذه الطرق الجديدة - القديمة من الزواج لم يظهر مشرِّعوها إلا بعد أن تزايدت حوادث العنف في العالم العربي ضد المرأة، بغية الاعتداء عليها واغتصابها.