كثير من القراء سيسخرون من هذا العنوان، ويتساءلون:
هل هناك ليبرالية سعودية الآن، لكي تكون ثقيلة الخطوات، ومتباطئة في سيرها ومسيرتها؟
نعم يا سادة، هناك ليبرالية واضحة، وفاعلة، ومؤثرة، في السعودية، ولكن سواد الجمهور السعودي والعربي يجهلها لبطء خطواتها، وخوفها، وترددها، منها أن الإعلام الرسمي السعودي، لا يُسلّط الأضواء على التيار الليبرالي السعودي. وإن حصل ذلك في مناسبة من المناسبات، فإن أضواء هذا الإعلام تُسلَّط على التيار الليبرالي للسخرية منه، ولتأليب رجال الدين عليه، وكذلك بعض المثقفين الدينيين السعوديين، الذين يضمرون لهذا التيار كل الكراهية وكل العداء.
الليبرالية السعودية في الأدب
أن الليبرالية السعودية منتشرة في الأدب بفرعيه: النثر والشعر. فالشعر الحداثي السعودي ndash; وما أكثره - مليء بالأفكار الليبرالية التي هي بالتالي أفكار حداثية تحمل الكثير من معطيات الحداثة. وقد بيّنا ذلك في كتابنا (نَبْتُ الصمت: دراسة في الشعر السعودي الحديث، 1992). كذلك، فإن الرواية السعودية من الذكور والإناث خاصة، تعجُّ بالكثير من الأفكار والمعطيات الليبرالية. ومن هنا جاء ضيق وعداوة بعض رجال الدين المتشددين والمتطرفين السعوديين للشعر والرواية السعوديين الجديدين، واستنفارهم للجامعات السعودية الدينية وغير الدينية، ومنها quot;جامعة الإمام محمد بن سعودquot; لحثِّ طلبة الدكتوراه والماجستير على كتابة بحوث ضد الليبرالية، والحداثة، وضد المفاهيم الفكرية المعاصرة، بطريقة عدائية وهجومية فيها من القدح السطحي، أكثر مما فيها من النقد العلمي الموضوعي.
عداء الجامعات السعودية لليبرالية
فقرأنا المجلد الضخم الذي تجاوز 2200 صفحة بأجزائه الثلاثة (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) عام 2003، الذي كتبه الباحث سعيد بن ناصر الغامدي كرسالة دكتوراه مقدمة لـ quot;جامعة الأمام محمد بن سعودquot;. وفي هذا المجلد الضخم، طالب الغامدي بإهدار دماء أكثر من مائتي مثقف حداثي في العالم العربي، مذكورين في هذا البحث بالاسم. وقد اتخذ هذا الكتاب طابع البحث الأكاديمي المدموغ بالخاتم الأكاديمي الديني الشرعي والرسمي، في quot;جامعة الإمام محمد بن سعودquot; بالرياض، ومن هنا تأتي الخطورة. فليس لهذا البحث طابع الرأي الشخصي الخاص، كما كان عليه الحال مع كتاب عوض القرني (quot;الحداثة في ميزان الإسلامquot;، 1988). وإن كان كتاب القرني قد دُمغ أيضاً بخاتم مفتي الديار السعودية، والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية، والإفتاء، والدعوة، والإرشاد، الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز، ونال تقديره، وبركته، ورضاه.
هل كانت رسالة الغامدي إرهابية المضمون؟
وقد جاء كتاب الغامدي، في عام 2003، في أجواء من الترقّب والتصيّد، من قبل الغرب والشرق، لكل هفوة، أو خطأ، أو خطوة غير محسوبة، تدلُّ على تبرير إرهاب الإرهابيين، وتشجّع من قريب أو بعيد الإرهابيين على ارتكاب جرائمهم. ومن المحتمل، أن يُستعمل هذا الكتاب من قبل الإعلام الغربي المتحفّز، كدليل واضح على الوقوف إلى جانب موقدي نار الإرهاب، من قبل المؤسسة الدينية السعودية، المرتبطة برباط قوي مع المؤسسة الأكاديمية الدينية السعودية، في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وبجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. وفي هذا ضرر كبير لكل الجهود التي تقوم بها السعودية، لإبعاد شبح تهم التحفيز الديني على الإرهاب عن مؤسساتها الدينية والتعليمية.
رد فعل الليبراليين السعوديين
وقد احتج الليبراليون السعوديون على جامعة الإمام محمد سعود. وقال الكاتب السعودي اسحق الشيخ يعقوب في مقاله quot;إنفلونزا الإرهابquot; الذي هاجم فيه هجوماً شديداً جامعة الإمام محمد بن سعود، قائلاً:
quot;أما ثقافة التربية، والإرشاد، والتعليم، في التطرف، والتكفير، والإقصاء، وغلوائية المذهب، والتحوّط بالفرقة الناجية من النار، وإقصاء الآخرين في جهنم وبئس المصير، فإني أحسب في ذلك إساءة كبيرة ليس للقيمة العلمية والإنسانية، التي ترتبط بالاسم الأكاديمي للجامعة في حقيقة ما تحمل من معنى ومبنى في توثبها العلمي التاريخي في حياة الشعوب، وإنما إساءة لسماحة الدين الإسلامي الحنيف.
وأضاف اسحق الشيخ يعقوب قائلاً: quot;إن جامعة تلوّح أمام القاصي والداني بثقافة التكفير، والإقصاء وتكريس مفاهيم التشدد والتطرف، وتفريخ دعاة الظلام والإرهاب في نشر جراثيم إنفلونزا الإرهاب داخل الوطن وخارجه، جديرة بوصد أبوابها اليوم قبل بكره!quot; (جريدة quot;الأيامquot; البحرينية، 8/12/2005).
وفي واقع الأمر، فهذه ليست جراثيم quot;انفلونزا الإرهابquot; ولكنها جراثيم quot;سرطان الإرهابquot;. ونحن بحاجة إلى مزيد من هذه الأصوات القارعة، لكي يصحوا النائمون، وينتبه الغافلون، ويفيق المخدّرون.
سياط أخرى لجلد الليبرالية
كذلك فقد كتب الباحث وليد الرميزان رسالة ماجستير مُقدمة لجامعة الملك سعود بالرياض بعنوان quot;الليبرالية في السعودية والخليجquot;، وقام الشيخ عبد الرحيم السلمي (تلميذ سفر الحوالي) و quot;عضو مركز الدعوة والإرشاد في جدهquot; بكتابة رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة أم القرى بمكة المكرمة، تحت عنوان quot;حقيقة الليبرالية وموقفها من الإسلامquot;. وقد سبق هذه الكتب كتاب عوض القرني quot;الحداثة في ميزان الإسلامquot; عام 1988، وفيه أهدر القرني دماء العشرات من شعراء وكتاب ومفكري وباحثي العالم العربي الحداثيين، وقد توّجه الراحل الشيخ عبد العزيز الباز مفتي السعودية السابق بمقدمة تبجيلية وترحيبية، واعتبر الحداثيين السعوديين في مقدمته في هذا الكتاب بأنهم quot; فئة تكيد للأمةquot; وقال كذلك: quot;أحمد الله أن يسّرَ الإسلام للشيخ القرني الذي فضح هذه الفئة التي تندس بيننا، وتكيد لنا.quot; وقال الكاتب الحداثي والناقد الأدبي سعيد السريحي تعليقاً على كلام الشيخ عبد العزيز بن باز: quot;عندما يتحدث مفتي المملكة عن الحداثيين، أنهم فئة تكيد للأمة، أعتقد أننا كنا نواجه محرقة، كما أن عزلنا كان قاسياً. وكان هناك نوع من التطهير للحداثيين.quot; (لقاء في فضائية quot;العربيةquot;، برنامج quot;اضاءاتquot;، 8/4/2007).
افتقاد كفتي الميزان الأكاديمي
لقد كُتبت في جامعات الغرب بحوث ودراسات ضد الحداثة، وما بعد الحداثة، وضد الليبرالية، والعلمانية، والعولمة، من قبل طلبة الماجستير والدكتوراه، ولكن هذه الجامعات كانت تفسح المجال للرأي الآخر، ليقول رأيه ونظرته المخالفة للرأي الأول، والنظرة الأولى، وبذلك تتساوي كفتي ميزان الرأي والرأي الآخر. أما الجامعات السعودية الرسمية، فلا وجود لديها لمثل هذا الميزان، ولو تمَّ أو حصل من أحد الطلبة quot;جنوحquot;.. مجرد جنوح نحو الرأي الآخر، لتمَّ تدمير مستقبله بسحب شهادة الماجستير أو الدكتوراه منه، كما حصل مع الكاتب والشاعر والناقد الأدبي السعودي سعيد السريحي في جامعة quot;أم القرىquot; بمكة المكرمة، ومع طلبة آخرين من أمثاله. فقد قامت جامعة quot;أم القرىquot; بسحب شهادة الدكتوراه من سعيد السريحي في 1989 بحجة quot;غموض المنهج فيها، ومخالفته للقيم التي تسير عليها الجامعةquot;. حسب ما جاء في خطاب الجامعة للسريحي.
لا دخول إلا للفضائحية الإعلامية
ما نريد أن نقوله من هذا الاستعراض السريع للجهد الأكاديمي، ضد المفاهيم العصرية الجديدة، الذي تقوم به بعض الجامعات السعودية الرسمية، يشير إلى حجم الحملة الإعلامية ndash; وليست الأكاديمية العريقة - الفضائحية والحرب الشعواء التي تُشنُّ على المفاهيم الفكرية العصرية الجديدة. وأن الجامعات السعودية، لا تقوم بفتح البوابة الأكاديمية إلا لمن أراد شتم وسبَّ وقدح هذه المفاهيم. وكان من الواجب العلمي والنهج الأكاديمي القويم لهذه الجامعات، أن تفتح بواباتها لطلبة الماجستير والدكتوراه الذين يريدون رصد مسيرة الحداثة الأدبية، والليبرالية الاقتصادية والثقافية التي تخطو في السعودية بحياء شديد، وبتردد خائف، وتلبس فوق جسمها عباءة سوداء سميكة، وتلبس قفازات سوداء، وتضع على وجهها ليس الحجاب فقط، ولكن النقاب كذلك، بحيث لا يظهر من كل جسمها غير عينيها.
ففي الوقت الذي يسرح ويمرح الجانب الآخر من المتشددين والمتطرفين الدينيين في الإعلام الرسمي السعودية، ويقيمون المواقع الإليكترونية بلا عدد، وموقعاً وراء الآخر، دون حجب أو شطب، وفي الوقت الذي يجري فيه غضُّ النظر الرسمي عن المواقع الدينية المتشددة والمتطرفة الهجومية، وبقيادة رجال الدين بسطاء، وذوي ثقافة سلفية خالصة وسطحية، دون معرفة عميقة بالدين ورسالته، يجري بالمقابل التشديد والتضييق سراً وعلانية على مواقع الانترنت الليبرالية السعودية، كما يجري منع أي بحث يمكن أن يُنصف المفاهيم العصرية المطروحة في السياسة والفكر والفلسفة. وهذه الإجراءات تشجع المزيد من رجال الدين المتشددين والمتطرفين من مهاجمة وعداوة معظم المفاهيم السياسية والفكرية والفلسفية المعاصرة.
فهل عرفنا الآن أسباب تباطؤ الليبرالية السعودية؟
السلام عليكم.
التعليقات