-1-

عجبت أشد العجب، وعتبت أكبر العتب على الكتّاب والمعلقين اليوميين والأسبوعيين الذين ndash; حسب ظني ومعرفتي ndash; لم يلتفتوا إلى تصريح سياسي وتاريخي ليبرالي مهم أشد الأهمية للأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودية، حين قال في لقاء في الأسبوع الماضي لـ quot;مورين دوودquot; الكاتبة والصحافية في جريدة quot;نيويورك تايمزquot; من أن quot;السعودية الآن تتحرر من أغلال الماضي، وتسير في مجتمع ليبرالي.quot;

فهل هناك تصريح واعتراف من مسئول كبير كسعود الفيصل الذي قضى مهندساً للسياسة الخارجية السعودية طيلة 35 سنة (1975-2010)؟

وهل يعتبر هذا التصريح رداً مفعماً وتاريخياً على منكري المسيرة الليبرالية السعودية من رجال الدين المتشددين، ومن الوسطيين المهرجين، ومن كذلك بعض من يدَّعون الليبرالية ويلبسون لبوسها في المناسبات؟

هل هذا التصريح من وزير الخارجية السعودي رداً على منكري وجود تيار ليبرالي سعودي ناشيء، يأخذ طريقة الآن في السعودية، بهمة ونشاط، رغم كل التحديات المعاكسة له من عدة أطراف؟

-2-

لقد شعرت بالعزاء الكبير، والراحة التامة، لتصريح سعود الفيصل من أن quot;السعودية الآن تتحرر من أغلال الماضي، وتسير في مجتمع ليبرالي.quot; فقد كنت أشعر بالإحباط والخيبة في بعض الأحيان، ومنذ أن بدأت البحث، والحفر، والتفكيك، والكتابة، عن الليبرالية السعودية في جريدة quot;الوطنquot; السعودية، ثم هنا في quot;إيلافquot;، عبر عشرات المقالات، التي آمل أن تنتهي إلى كتاب بعنوان quot;الليبرالية السعودية بين الوهم والحقيقةquot;، والذي سأرد فيه ndash; بالأدلة الواقعية - على الواهمين والمنكرين بعدم وجود ليبرالية سعودية، بأن الليبرالية السعودية هناك، ولكنها تنتظر منا منظَّاراً حداثياً لرؤيتها، وحفراً صبوراً للتنقيب عنها. وسوف يتبين خطأ من يقول ndash; بخفة دم سقيمة - أن الليبرالية السعودية عبارة عن مجموعة من المثقفين السعوديين المتناثرين هنا وهناك، من دعاة العلمانية، والعولمة، والفوضى، المعادين للدين والوطن. وزاد بعض رجال الدين المتشددين، وأطلقوا عليهم بافتئات غاشم quot;الطابور الخامسquot;، والزنادقة والخونة والجواسيس للسفارات الأجنبية، إلى آخر هذا النمط البذيء والوبيء من التُهم الباطلة والمضحكة، التي تمتلئ بها مواقع الأصولية المتشددة على الانترنت.

-3-

لقد كان الهجوم غير المباشر على سلسلة المقالات تلك، في quot;الوطنquot;، وهنا في quot;إيلافquot;، عنيفاً وشرساً، ومنكراً بوجود تيار ليبرالي سعودي، رغم هذا العدد الهائل من الليبراليين الكتّاب، والمثقفين، والشعراء، والصحافيين، والإعلاميين، والأكاديميين، ورجال الأعمال، والناشطين في مختلف الحقول في السعودية. ورغم هذا الكم الكبير، من النتاج الثقافي الليبرالي السعودي في الشعر والنثر، وفي التاريخ، والسياسة، والاجتماع، والدين. وجاء تصريح سعود الفيصل في quot;نيويورك تايمزquot;، ليؤكد هذه الحقيقة، التي سعيتُ منذ أشهر على إبرازها وإضاءتها، ولقيتُ ما لقيت من عنت وإنكار شرسين، وسباب وشتائم مُعيبة، من الكافرين بها والحاقدين عليها.

-4-

تصريح سعود الفيصل التاريخي، من أن quot;السعودية الآن تتحرر من أغلال الماضي، وتسير في مجتمع ليبرالي.quot; يأتي كأول اعتراف رسمي سعودي شجاع وتاريخي، من أن السعودية في الماضي كان ترسف في quot;أغلالquot;. وأنها الآن، تتحرر من هذه الأغلال، وتسير في مجتمع ليبرالي. وهذا الاعتراف يجب أن نحفظه جيداً، ونؤرخ له، وندرسه، ونحلله.

أما تحليله المبدئي فيتلخَّص في:

1- الاعتراف الرسمي الشجاع، بأن السعودية كانت فيها أغلال الماضي.. أغلال اجتماعية وثقافية وتراثية، قيدتها أشد التقييد، وإعاقة سيرها ومسيرتها نحو العصرنة والحداثة. فالسعودية ndash; كباقي العرب الآخرين - لم تدخل هذا العصر بعد ndash; بكل منجزاته - وإنما هي تعاصره زمنياً فقط، نتيجة quot;لعدم تحقيق الثورة الفكرية الجذرية، التي ستفصلهم عن عصر الانحطاط، ولم ينتقلوا من مرحلة الاعتماد على الدليل النقلي إلى مرحلة الاعتماد على الدليل العقلي والتجريبي. وهكذا، فالعرب يعيشون في عالم لا يفهمونه، ولا يملكون المفاتيح التي تمكنهم من فك رموزه على جميع المستويات.quot; كما قال المفكر المغربي محمد سبيلا، في كتابه quot;مدارات الحداثة، ص174quot;.

2- الاعتراف الرسمي الشجاع، بأن السعودية تتحرر ndash; ولم يقل الفيصل تحررت إنصافاً للحقيقة ndash; من أغلال الماضي، التي قيدتها، وأعاقت مسيرتها. وفي رأيي المتواضع، فإن السعودية لا تسلك في تحررها من أغلال الماضي مسلك الشعارات البرَّاقة، والخُطب الشعبوية المُهيّجة للعواطف والغرائز، وإنما تعمل بصمت وتدرُّج، للتحرر من أغلال الماضي كما قال الفيصل. وهذا التدرُّج في التحرر، سوف يُجنّبها الفيضانات الغامرة والمدمرة، نتيجة للسرعة في إذابة جبال الجليد المتراكمة، منذ زمن طويل. إذن، فالسعودية في مرحلة تحرير دقيقة. وهذه المرحلة تستدعي الحذر الشديد، والعلاج الهادئ، والحكمة المتأنية، حتى يتمَّ العلاج (التحرير) ويبرُؤ الوطن.

3- وأخيراً، التسليم بأن السعودية تسير نحو مجتمع ليبرالي. وهذا التسليم يعني أنها بدأت مسيرة الليبرالية، وأنها تسير نحو الليبرالية الكاملة. والليبرالية التي يعنيها الفيصل هنا، هي الليبرالية التي لا تتعارض مع اليقينيات الدينية والاجتماعية والتاريخية السعودية. فالفزع والفوبيا اللتان انتابتا البعض من الليبرالية السعودية، مردهما إلى المفهوم الغربي لليبرالية، المنطلق من موقفه من المسيحية، التي سيطرت كنيستها في معظم أوروبا على كل مقدرات الحياة، بكل تعصب، وعسف، وشمولية. فعندما نقول بموقف الليبرالية الغربية أو الماركسية أو الحداثة الغربية من الدين، فيجب علينا أن نُحدد الدين بالمسيحية، لأن المسيحية كانت ndash; دون غيرها - هي المستهدفة من هجوم هذه التيارات عليها. فعندما قال ماركس ndash; مثالاً لا حصراً - أن quot;الدين أفيون الشعوبquot;، كان يقصد بالدرجة الأولى المسيحية، وليس الإسلام. فماركس لم يقرأ، ولم يفهم الإسلام تماماً، وكذلك جون لوك وفلاسفة الحداثة. ولكن المتطرفين الجهلاء في العالم العربي، من اليمين واليسار، كانوا يشملون الإسلام بهذا العداء والسلبية، سبَّاً في الليبرالية، ونيلاً من الماركسية، وحطَّاً من الحداثة. كما أن هؤلاء (فلاسفة الليبرالية، والماركسية، والحداثة) لم يُفرِّقوا بين الإسلام كجوهر، وبين تراث فقهاء الإسلام، ورجال المؤسسة الدينية المنتفعين والمتكسبين من هذا الدين، على مرِّ العصور.

-5-

إن تصريح الفيصل التاريخي هذا، جدير جداً بالاحتفاء من قبل المثقفين العرب في داخل السعودية وخارجها، وخاصة من مجموعة المثقفين العرب في المغرب العربي وفي فرنسا، وهم الذين يُعتبرون الآن رئة الثقافة العربية التنويرية، وشريانها الأورطي المهم.

إن تصريح الفيصل، يُنير معاني كثير من القصائد، والروايات، وأعمدة الصحف اليومية والأسبوعية، التي تحرث في الليبرالية السعودية.

إن هذا التصريح، يردُّ رداً حاسماً على منكري المسيرة الليبرالية السعودية من رجال الدين المتشددين خاصة، الذين ما زالوا يحلمون بعودة الخليفة العباسي المتوكل على الله (847-861م)، والخليفة العباسي الآخر (القادر بالله) (أحمد بن إسحاق) (991-1031م)، وأحياء نص quot;الاعتقاد القادريquot; الذي كتبه للخليفة قبل أن يلي الخلافة الشيخ أبو أحمد الكرخي، والذي سحق الإسلام العقلي، وأحرق كتبه، وأهدر دمَّ دعاته ndash; كما يتمُّ في هذه الأيام، ولكن دون سلطان - ورفع من شأن القراءة الحرفية، والتشدد الديني.

السلام عليكم.