كان فولتير الفيلسوف العقلاني يقول:
quot;إن القسَّ يُعلِّم الأولاد أن الله موجود،
ولكن نيوتن كان يُثبت وجود الله لذوي الألباب.quot;
وكان فولتير يريد أن يقول لنا هنا:
أن العلماء أكثر أهمية للدين من رجال الدين.
وأن العلم لا ينفي الدين، ولكنه يؤكده ويقويه أكثر من تأكيد وقوة الكهنة له.
وأن دين العلماء، أقوى بكثير من دين الكهنة.
وأن الله يخرج من مختبرات العلم، أكثر جلاءً وتعالياً مما يخرج من المعابد.
وأن العقل الذي يعرف الله أقوى بكثير من القلب الذي يعرفه وحده.
وأن دين الفلاسفة، أكثر صلابة ومتانة من دين دراويش التكايا والزوايا.

كيف لعبتها أوروبا؟
يتساءل المفكر الديني التنويري السعودي يوسف أبا الخيل، في مقاله quot;الغزو الفكري: إيديولوجيا الثقافات المغلقةquot;:
- كيف قُدِّر لتلك العصور الوسطى، التي كانت الأصولية المسيحية تمسك من خلالها بتلابيب المجتمع الأوروبي، أن تتزحزح، وأن تحلَّ محلها العصور الحديثة، التي تميزت بأنها عصور العقل، والفلسفة، والعلم، وعلوم الإنسان؟
ويجيب أبا الخيل عن هذا السؤال فيما بعد، ولكنه قبل ذلك، يستعرض كيف قاد الإخوان المسلمون ومعهم الأصولية الدينية الخليجية خاصة، في بداية حرب الخليج، الحملة الشعواء على استدعاء السعودية للقوات العسكرية للدفاع عن المملكة، التي بدأ صدام حسين بغزو شرقها، ضمن حملته العدوانية النكراء على الكويت. وكيف قامت أجهزة إعلام الأصوليين الدينيين في السعودية وخارجها، وفي مواقعهم على الانترنت، وعلى منابر المساجد، وفي أشرطة التسجيل وكتيباتهم، تندد وتهاجم القوات العسكرية، التي جاءت لتدافع عن سيادة السعودية، من كل فج عميق.

حمّى الفوبيا الصليبية
إن هؤلاء الأصوليين الدينيين، الذين هاجموا الحداثة في الثمانينات، وأهدروا دماء المئات من الحداثيين العرب، اعتبروا أن القوات العسكرية، التي جاءت لدحر عدوان صدام، إنما هي غزو صليبي جديد للمشرق العربي الإسلامي، وغزو فكري واضح للأمة العربية والإسلامية. وأن كل من يؤيد هذا القوات كافر، ومرتد، وعميل، وخائن،.. الخ.
وما زالت هذه الشعارات الجوفاء مرفوعة حتى الآن. وما زالت هذه الأعلام المنكسرة، والتي مزقتها رياح الحقيقة منذ عشرين عاماً، يُلوَّح بها إلى الآن. فبالأمس، وفي إحدى الفضائيات، كان واحد من عُتاة الأصولية السعودية، الذي أهدر في الثمانينات في كتابه (المجزرة) دماء مئات من الحداثيين المثقفين العرب، ومن بائعي quot;حبة البركة والعسلquot;، ينعي على من كان يؤيد التدخل الأجنبي للدفاع عن حرية الوطن والمواطن، ويستشهد مندداً ومستنكراً سياسة السعودية في استدعائها عام 1990 للقوات الأجنبية، بقولنا في تأييدنا للتدخل العسكري في حرب الخليج 1991 وفي العراق 2003، ومن أننا دعونا إلى عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتورية العاتية، واستئصال جرثومة الاستبداد، وتطبيق الديمقراطية العربية، في ظل عجز النخب الداخلية والأحزاب الهشة عن دحر تلك الديكتاتورية، وتطبيق تلك الديمقراطية. وهذه ليست سوابق تاريخية لدينا. فقد استعانت أوروبا بأمريكا لدحر النازية والفاشية العسكرتاريا اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وقامت أمريكا بتحرير أوروبا، كما قامت بتحرير الكويت والعراق. ولكن الأصولية لا تريد لهذا المنطق التاريخي الواقعي أن يسود، وأن يُعرف.

زعيق.. زعيق.. ولكنه مبهر!
يقول يوسف أبا الخيل، عام 2008:
quot;لا أزال أتذكر، أنني وجمع ممن بهرهم زعيق ذلك الخطاب الأجوف، لم نحفل بمفهوم أو مصطلح مثلما فعلنا مع مفهوم quot;الغزو الفكريquot; الذي كان قاسماً مشتركاً بين كافة مظاهر الإنتاج quot;العلميquot; لمتعهدي الخطاب الصحوي في تلك الفترة، في اتخاذه مطية لإقصاء الآراء المخالفة، حتى ما كان منها ينطلق من تحت عباءة السلفية التقليدية. فلقد هالنا بريق طرحه من على كافة مناشط الخطاب الصحوي آنذاك. وكان مصدر تلك الهالة والبريق، ما كنا نعتقده حينها من quot;جِدَّةquot; المفهوم من جهة، واعتقادنا، نتيجة للظاهرة الصوتية الصحوية آنذاك، بـ quot;أصالةquot; ثقافتنا التي كنا نراها الوحيدة المكتفية بذاتها، والتي لا تقبل أي وافد فكري بحسبانها كاملة غير منقوصة، وصالحة لكل مكان وزمان.quot;

رهن زهرة العمر للمتردية والنطيحة
ويضيف أبا الخيل:
quot; مع انعتاقنا لاحقاً من أسر ذلك الخطاب، بعد أن فتحنا نوافذنا مُشرعةً باتجاه الرأي الآخر الذي أخفاه الخطاب الصحوي، تحت عباءة آحاديته ردحاً من الزمن، اكتشفنا، بعد أن رهنَّا زهرة عمرنا للمتردية والنطيحة من إنتاجه، أن مصطلح quot;الغزو الفكريquot;، الذي كان يتبجح به ذلك الخطاب، ليس ماركة مسجلة له وحده أو لغيره، من الخطابات التي تتقاطع معه في الأسس والغايات، بل هو أيديولوجية تتوسلها كل الخطابات الأصولية، على اختلاف مناهجها ومرجعياتها، في حربها ضد الحداثة والمعاصرة، وتحرير الإنسان في كل زمان ومكان.quot;

سجون بلا قضبان
تلك هي السجون بلا قضبان التي وصفناها في كتابنا quot;سجون بلا قضبانquot;، عام 2007، وقلنا فيها:
quot;اليوم لم يتغير حال العربي كثيراً عمّا كان عليه في السابق. فنرى أن المحن السياسية والثقافية، التي كانت تنزل بالعالم العربي قبل قرون عدة وخلال قرون عدة، هي المحن ذاتها التي تنزل اليوم بنا، مع اختلاف الظروف واختلاف الأسماء. أما مسبباتها وتداعياتها فهي نفسها، وكأن العالم العربي قد عزل نفسه عن كل مجريات هذا العصر، وعاش داخل قوقعة من الصدف، لا يخرج منها، ولا يرى العالم من حوله. وقد حوّلته هذه القوقعة إلى شعب محتل، يكاد يكون هو الشعب المحتل الوحيد في القرن الحادي والعشرين. وحوّلته هذه القوقعة إلى شعب أمي لا يقرأ، وإن قرأ لا يفهم.quot;

سور العرب العظيم
وتلك هي سور العرب العظيم، التي وصفناها أيضاً في كتابنا quot;سور العرب العظيمquot; عام 2009، وقلنا فيها:
quot; أصبح رجل الدين هو السياسي الأول ndash; نتيجة لقصور وصغر عقل العربي - الذي بمجرد أن يرفع المصحف عالياً، تسقط كل الكتب الأخرى على الأرض، وتُمزق وتُداس بالأحذية. وبمجرد أن يُرفع شعار quot;الإسلام هو الحلquot; تسقط جميع الشعارات العلمية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
ومن هنا، أصبح الإسلام كدين، مهنةً رابحةً تدرُّ على مُتلبّسها دخلاً كبيراً أفضل من دخل مثيلاتها من الوظائف الأخرى التي يقضي من أجلها الطالب سنواته الأربع في الجامعة في كليات الدراسات الإنسانية. لذا، لم تنتشر المعاهد الدينية والجامعات الدينية في العالم العربي كما انتشرت في هذه الأيام. ولم يبلغ عدد طلاب الدراسات الدينية في العالم العربي كما بلغه هذه الأيام. ولم يتسابق الطلاب الخائبين في امتحان الشهادة الثانوية على الالتحاق بالمعاهد الدينية كي يصبحوا غداً من أصحاب الصولجان وإلى يمين السلطان، كما يتسابقون الآن. ولم نجد في العالم العربي هذا العدد الهائل من الدُعاة والهُداة من الشباب ومن الشيوخ، من ذوي العلم الشرعي، وممن تنكبوا العلم الشرعي، كما نجد الآن. ولم يصبح رجال الدين عموماً من الشيوخ والشباب على هذا المقدار من الثروة الطائلة ورفاه العيش كما هم عليه الآن.quot;
السلام عليكم.