يقول المفكر التونسي التنويري محمد الحداد في كتابه المهم: quot;الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاحquot; 2006، أن الأديبة الفلسطينية/ اللبنانية ماري الياس زيادة (مي زيادة) (1886-1941) التي عاشت زمناً في مصر، وأنشأت فيها صالونها الأدبي (ندوة الثلاثاء) لمدة عشرين عاماً، وأحبها كثير من أدباء وشعراء جيلها، ومنهم ndash; كما يقال ndash; عباس العقاد، ولكن قلبها كان في خزانة جبران خليل جبران، قد قالت عام 1923 قولاً مهماً وجديراً بالتأمل.

مي قارئة المستقبل
لقد قالت مي زيادة في كتابها quot;المساواةquot; عام 1923 متنبِئة بما سيتم مستقبلاً، ضمن رؤى المستقبليات، التي لا يراها، ولا يدركها إلا القلة، ممن غذى العلم والتاريخ عقلهم، وامتلأت بصيرتهم بالحكمة، وقلوبهم بالحب والرهافة: quot;سيكون الغد للاشتراكية بلا ريب. ولكنها لن تكون أوفى من الديمقراطية في تتميم وعودها. ولكن الفردية ستظل منتصبة قربها على الدوام. الغد للاشتراكية، ولكن ما بعد الغد لنظام آخرquot; (ص 119).

تحققت رؤية مي
لقد تحققت رؤيا مي زيادة فيما بعد كالتالي:
1- أن العالم شهد إمبراطورية اشتراكية عظمى (الاتحاد السوفيتي) لم تلبث أن انهارت عام 1990 أو ربما قبل ذلك. كما شهد العالم دولاً اشتراكية في إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، والعالم العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن هذه الاشتراكيات اضمحلت وزالت، لأنها لم توفِِ بوعودها في الرخاء، والسعادة، والسلام الإنساني.
2- أن الاشتراكيات في العالم الغربي والعربي، لم تكن تدين بدين الديمقراطية للإنسان، وكان هذا السبب، هو الفيروس الرئيسي الذي نخر وهدم هذه الاشتراكيات، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي. فلا اشتراكية، ولا رأسمالية، ولا إسلاموية، ولا أية نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يمكن أن يدوم ويستمر، وهو على عداء مع الديمقراطية. ولعل التجربة الناصرية في مصر، كانت الدليل والشاهد العربي الكبير والعريض على ذلك. وهو ما نبه إليه المصلح السياسي والديني الشيخ خالد محمد خالد عبد الناصر في اجتماعات اللجنة التحضيرية 1962، بعد انهيار الوحدة المصرية ndash; السورية في سبتمبر 1961. ولكن كان في أُذني عبد الناصر وقراً. فلم يستمع جيداً لقول خالد. وانتهت الناصرية برحيل عبد الناصر 1970. كما انتهت بعدها الإمبراطورية السوفيتية الاشتراكية الديكتاتورية، وعدة ديكتاتوريات أخرى في أفريقيا، وأمريكا اللاتينية.
3- تؤكد مي زيادة في كتابها (المساواة)، بأن الفردية - وهي أس من أسس الليبرالية - ستظل منتصبة على الدوام. وأن الغد سيكون لنظام آخر غير النظام الاشتراكي. ويرى محمد الحداد أن هذا النظام الآخر هو الليبرالية، التي تتبنى الفردية والديمقراطية.

عودة العصر الليبرالي
ويعلِّق محمد الحداد في كتابه quot;الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاحquot; بقوله إن العصر الليبرالي يعود إلينا الآن. فقد كان القرن العشرون قرن الاشتراكية، الذي بدأ بثورة أكتوبر 1917 في روسيا، وانتهى بسقوط حائط برلين 1989، وسقطت الاشتراكية قبل أن يُحسم الجدل بشأنها.
فهل سيكون القرن الحادي والعشرين قرن الليبرالية في العالم وفي الوطن العربي كذلك؟

مؤشرات على حلول العصر الليبرالي
هناك مؤشرات كثيرة تدلُّ على أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الليبرالية في العالم العربي خاصة، دون شك، أو منازع، منها:
1- أن التطورات التي طرأت على خارطة السياسة العالمية والعربية، من سقوط منظومة الاتحاد السوفيتي، وسقوط جدار برلين، وتوحيد ألمانيا، وفشل الثورة المصرية في تحقيق أهدافها، وانهيار الوحدة المصرية ndash; السورية 1961، وانهيار عدة تجارب وحدوية لاحقة، وقيام الثورة اليمنية 1962، وهزيمة 1967، والحرب الأهلية اللبنانية 1975، والحرب العراقية ndash; الإيرانية 1980، ومعاهدة كامب ديفيد 1979، واتفاقية أوسلو 1993، واتفاقية وادي عربة 1994، والثورة العراقية 2003، وغيرها من الأحداث الجسام في العالم العربي، قد أقنعت جزءاً كبيراً من الرأي العام العربي ndash; إن وُجد - أن الديمقراطية والليبرالية، هي الطريق الأسلم والأقصر إلى الرخاء والسعادة والسلام. وأن ما تمَّ وما سيتم في العراق الجديد سوف يكون مثالاً حياً وفريداً لعرب يعقلون.
2- لقد شهدت سبعينيات القرن العشرين الماضية - منذ عهد الرئيس السادات ndash; وما بعدها طفرة كبيرة وخطيرة في نشاط quot;الإسلام السياسيquot;، وتفاقمت وعلت هذه الطفرة من خلال نزول قوات أجنبية في الجزيرة العربية 1990-1991، وتعاظمت أكثر فأكثر هذه الطفرة، ووصلت حدها الأعلى- والذي تبدأ معه بالانخفاض - بعد كارثة 11 سبتمبر 2001، ولكن ما بدأت بعد ذلك بالانحسار الجزئي حتى جاء غزو أفغانستان أواخر 2001، والعراق 2003 لتحريرهما من الإرهاب السياسي والديني. ولكن انحسار quot;الإسلام السياسيquot; بدأ بشكل واضح بعد عام 2005، عندما انسحبت سوريا عسكرياً من لبنان، وعندما انخفض سُعار الإرهاب الديني في العراق والسعودية، وعاد كثير من الدعاة الدينيين في العراق والسعودية إلى رشدهم وإلى طريق الحق والحقيقة، وأصبحوا من دعاة التسامح والمحبة والسلام. ويتضح ذلك بشكل خاص وواضح من خلال ما يجري الآن في السعودية، من انفتاح واسع على الآخر، ومن هامش الحرية الأوسع الذي يتمتع به الإعلام السعودي، وخاصة الصحافة، وما يتدفق من كتب مختلفة إلى السوق السعودية، كانت في الماضي القريب من الممنوعات والمحرمات. وفيما لو علمنا أن العراق والسعودية بزخمهما وغناهما المالي والحضاري والديني، يمثلان الآن المفصل الرئيسي لليبرالية العربية الجديدة، بعد أن كانت مصر وسوريا في القرن العشرين، هما ذاك المفصل في المشرق العربي.
3- ومقابل انحسار موجة quot;الإسلام السياسيquot;، والأصولية الدينية، ظهر تقدم كبير للفكر والثقافة الليبرالية، وخاصة في العراق وأقطار الخليج. صحيح أن quot;الإسلام السياسيquot; والأصولية الدينية، لا يزالان مسيطرين على المناهج الدراسية في كثير من أقطار العالم العربي، وخاصة في الخليج العربي. وصحيح أن التقدم النووي الإيراني، وتعاظم القوة العسكرية الإيرانية، والإختراق الإيراني للعراق ولبنان وسوريا، قد عزز من مواقع أحزاب الإسلام السياسي (quot;الإخوان المسلمونquot;، quot;حزب التحرير الإسلاميquot;، quot;حزب اللهquot;، quot;حماسquot;، الأحزاب الدينية السُنيَّة والشيعية في العراق وهي كثيرة، quot;حزب العدالة والتنميةquot; المغربي، quot;حزب النهضةquot; التونسي، quot;حزب العدل والإحسانquot; المغربي، وغيرها من الأحزاب الدينية السياسية في الكويت، وأقطار الخليج العربي، والجزائر، وليبيا، وموريتانيا). ورغم هذا، فإن الليبرالية على مستوى السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع، ما زالت تحقق انتصارات مشهودة رغم بطئها، في كثير من أقطار العالم العربي. وفي رأيي المتواضع، فإن الإسلام السياسي والأصولية الدينية هما الآن في النزع الأخير، ويعانيان من سكرات الموت. وأن مدَّ الإسلام السياسي والأصولية الذي شهدناه، وشهدنا زبده الطافي، منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأ منذ 2005 بالجزر والانحسار، كأية موجة من موجات التاريخ، التي تتكسر على شواطيء الحداثة والليبرالية.
فتلك هي سُنَّة الكون، ومكر التاريخ.
السلام عليكم.