* الرموز المقدسة عند الثقافات موضوع من موضوعات الصدام التي تدفع إلى التعبئة الهوياتية والتجنيد الإعلامي.
* ما الذي دفع رساما أو عقلا غربيا إلى أن يزاوج بين ممارسة العنف الذي يستخدمه بعض المسلمين وعمامة النبي التي رسمت على هيئة قنبلة؟
* هناك إشكال يتحمله الإسلاميون والمسلمون لتصحيح الصورة الثقافية الشائهة عن الإسلام ورموزه.

حازت مسألة رسوم الكاريكاتير التي نشرتها صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية للرسول الكريم على مساحة كبيرة من الإثارة، وقلق التظاهرات، والوصول إلى حد مقاطعة البضائع الدانماركية في العالمين العربي والإسلامي. لقد كانت هبة متضامنة لنصرة الرسول الكريم، بدأتها السفيرة المصرية بالدانمارك السيدة: منى عمر عطية التي أثارت القضية في إرهاصاتها الأولى.
جاءت الرسوم الكاريكاتورية بمثابة الصدمة، في عالم اعتاد ألا يقترب كثيرا أو قليلا من خطوطه الحمراء، ومن تابوهاته ومسلماته. ربما كانت ثقافة الرسام الدانماركي لا تفصل تماما بين المقدس والمدنس، أو أنه يرى أن من طبائع الأمور البشرية قراءة كل شيء من منظور علمي أو لنقل بالأحرى علماني، وهو الأمر الذي لم تمارسه ثقافتنا الإسلامية القائمة على التسليم والخضوع وتغييب العقل أحيانا.
صدمة الرسوم ndash; في رأيي- ليس في كونها رسوما كاريكاتورية فحسب، لكنها رسوم تقرن بين نبي الهدى وبين الإرهاب، وتسخر من مبادىء وقيم العالم الإسلامي، وهذا هو سبب الهبة الكبرى التي قام بها عموم العرب والمسلمين.
ومن الكتب التي تناقش مسألة الرسوم، ورمزيتها كتاب محمد عطوان:quot;رمزية نبي الإسلام في رسوم الكاريكاتور الغربيةquot; ( دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2010)، وفيه يتساءل بداءة: هل إن الهوية الجماعية بمفهومها الرمزي ذي الأبعاد الأنثروبولوجية محض افتراض، وهل أن ما فيها لا يشبه طبيعة المكون الهوي للهوية الفردية من الناحية البنيوية، وأن الفرد سرعان ما سيدرك معها، في مسير تشكل وعيه الذاتي ndash; زيف ما كان يعتقد به؟ أم إن أسبابا موضوعية مارست تأثيرا قهريا على سلوكه، ودعت إلى تأليف بنيانه في إطار كينوني مفترض وجديد؟
وعلى ضوء هذه الأسئلة يقدم عطوان أبرز العناصر المساهمة في صناعة الهوية الجماعية والتي يحصرها في مبحثين: وحدة الرموز والإشارات المطمئنة، والمخيال الكامن وراء القصديات، وهذان المبحثان هما مدار الفصل الأول من الكتاب الذي يتضمن ثلاثة فصول كالتالي: العناصر المساهمة في صناعة الهوية الجماعية، والمقدس وحدود الصدام بين الهويات، والرموز وأثرها في مواقف الثقافات.

قوة الرموز:

يستهل محمد عطوان كتابه بمدخل يذكر فيه: quot;تستند كل ثقافة أو هوية ثقافية إلى حزمة من الرموز المحملة بالمعاني والدلالات المقدسة والمتعالية. ففي إطار تزاحم الهويات تعمل مثل هذه الرموز على بعث التوازن في نفوس المؤمنين بها، وتتأصل قوة الرموز بفعل السيرورة والتقادم لتغدو مهيجة للحشود في أحوال الأزمات والتماسات الثقافية. وبالتالي ينشىء التعرض لها نوع من الصدام الذي يجبر الجماعات على الانجرار إليه، نتيجة للإجراء الذي يؤلفه فعل الاحتماء عند كل طرف من أطراف الصراع، لبواعث دفاعية، في اللحظة التي يتعرض فيها المقدس للإساءة الرمزية، حيث تصبح الرموز المقدسة عند الثقافات موضوعا من موضوعات الصدام التي تدفع إلى التعبئة الهوياتية والتجنيد الإعلامي الذي يصل إلى ذروته في الاستعداءquot;.
هكذا بدئيا يقدم عطوان رؤيته لمسألة الرسوم الكاريكاتورية الغربية ضد نبي الإسلام، وضد الإسلام نفسه، تلك الرؤية النابعة عن قناعة تأثير الرموز والهويات على فعل التهييج في الأزمات والاستعداء، وهو ndash; في تصوري- أمر طبيعي يوجد في كل ثقافة أو حضارة، حيث تدافع كل ثقافة عن رموزها ومقدساتها بشكل أو بآخر، وإن كان هذا الشكل يأخذ لدى الأمم المتأخرة طابعا تهييجيا، انفعاليا، لا طابعا حضاريا فكريا، يناقش الحجة بالحجة أو الآية بالآية، ومن هنا فإن الكاتب يمهد بالفصلين الأوليين تمهيدا نظريا يسعى لتحديد الرموز ودلالاتها، وتأثيرها في المجتمعات والثقافات.

عالم الشر:

يتحدث المؤلف في بدايات الفصل الثالث الذي يناقش فيه مسألة الرسوم الكاريكاتورية لنبي الإسلام عن رؤية الغرب للآخرين بوصفهم يمثلون عالم الشر، حيث يرى أن الوعي الجمعي الغربي قد أُسس على نحو بات يرى فيه كل ما هو خارج المجال المسيحي ينتمي إلى عالم الشر، فراح ينشىء الإنسان هناك الدلالات المخيالية والرموز، ويراها متعالية، ومن ثم يحيلها إلى قوى خارجة عن إرادته فيصبح أسيرا لها، أي تتحول إلى منظومة مطلبية وقيمية في آن، حتى تتخذ المسألة بعدا مجتمعيا أكثر تشابكا وتعقدا.
ويشير المؤلف إلى جملة من التمثيلات والصور الذهنية الغربية عن الشرق التي تتجسد في الصورة الذهنية المعنوية التي رسمت عن المسلمين وديانتهم، وسُورت عوالمهم بنمطية ثابتة، جامدة، لا تاريخية، ولا متبدلة، ما جعلها نتيجة أساسية من نتائج الحروب الصليبية وما رافقها من صراعات دموية زادت الحقد في النفوس.
ويستطرد الكاتب موضحا بعض مظاهر هذه الصورة بالقول:quot; لقد كمنت رمزية الصورة الذهنية المعنوية في الانتقاص من كل مظاهر الواقعة الإسلامية، رسولا ونصوصا وحضارة وإنسانا، وخلق صورة قدحية ل(الآخر) بهدف ذلك التعويض عن الفقدان الكبير الذي أحدثه صراع معين في زمن من الأزمان، فنُعت الإسلام على أنه ديانة وثنية تمتاز بالعنف وتدعو إلى الشبقية والشهوانية، بكل ما يفترض ذلك من أرضية للتردي، مقابل المسيحية الدين الروحاني، ولم تكتف المخيلة المسيحية الغربية بتضخيم وتشويه عقيدة المسلم وسلوكه ونمط حياته، بل أضافت اعتبارات سيميولوجية تتعلق بلونه وهيئته، لدرجة كثفت تلك الصورة مخاوف ونوبات اللاوعي الجمعي المسيحي في العصر الوسيط، ومثلت مصدرا للخوف شهدته الأوساط المسيحية في ذلك الزمن.
لقد كان الهدف من ذلك ndash; فيما يرى المؤلف- وضع حدود تميز المسلمين ك(آخرين) بكلياتهم عن المسيحيين المتمدينين، وخلق شروط تعبئة نفسية ومعنوية لمحاربتهم، وهذا ما جسدته الظاهرة الصليبية في أبعادها الدينية والعسكرية والتخييلية. فما يزال يقدم الإنسان العربي المسلم للعوام بصورته المختزلة، على أنه لا يمكن أن يتصور حياته البشرية بغير الخيمة، أو الاجتماعية بغير القبيلة ورابط القرابة، ويترحل على أرض قاحلة وسيلته في ذلك الجمل، ومجاله قفر. ويرى العقل المركزي الغربي أن تلك الحياة الصحراوية سطحية وبسيطة بالمعنى الأنثروبولوجي، ضيقة وهامشية، وأن على الإنسان الذي يقطنها الخروج من أطرها إلى آفاق أرحب، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال اعتناق قيم المدنية ومعتقداتها، وما يترتب عليه إعادة النظر في العقائد وأساليب الثقافة التي اعتقد بها، عملا وامتثالا لبديل حضاري ناجز يقدمه ويسوقه الغرب.
ويشير الكاتب في ذلك إلى اعتقاد صامويل هنتنجتون بأن المعتقدات الغربية تجسد أرقى فكر وأنها أكثر استنارة وليبرالية وعقلانية وحداثة وتحضرا، وعلى (الآخر) أن يدخل في ما سوف تسميه الأجيال القادمة بالعصر الذهبي.

رمزية الكاريكاتور:

يتساءل الكاتب في إطار حديثه عن الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت عن النبي محمد (ص): هل يندرج نشر الرسوم في نطاق حرية التعبير أم في نطاق الإساءة إلى معتقد (الآخر) من غير الملة؟
وفي معرض إجابته عن هذا السؤال يمضي إلى البحث عن الجذور المنشئة لتلك المشكلة، ويرى أن رحلة البحث عن صور النبي محمد بدأت من خلال حادث عفوي، وقفت وراءه رغبة في إيجاد صورة غلاف كتاب للأطفال، ولم يعثر على صورة محددة، فتم الاتصال بجمعية الفنانين التشكيليين وعُثر هناك على من كان مستعدا لتنفيذ مثل هذا العمل، ولم يكن هذا العمل في النية يتعلق بأية إساءة للرسول، لكن اغتنم محرر الصفحة الثقافية في صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية الفرصة ودعا عددا من الرسامين إلى رسم الرسول محمد فحصل على اثنتي عشرة صورة تم نشرها في 30 سبتمبر عام 2005 بتأييد من رئيس تحرير الصحيفة كارستن يوسته. وقد برر يوسته فعله هذا قائلا: بأن هدفه لم يكن الرسول محمد نفسه، بقدر ما كان يريدمن خلال هذه الصور أن يخلق نقاشا حول الرقابة وحرية التعبير، لكي يثبت عمليا أن الجماعات التي تؤمن بهذا الدين ndash; ويقصد جماعات المسلمين- معادية لحرية التعبير، وهو يعني أنه قام باستفزازهم لكي يثبت أنهم معادون للديمقراطية. وفي ذلك قدر من التخطيط المدروس من قبل القائم بهذا الفعل، وقدر مبالغ فيه من التحريض، وهو يستخدم الرمز من باب الإثارة.
ومن المفارق، ومما يضرب الديمقراطية المزعزمة هنا، أن الصحيفة رفضت نشر رسوم كاريكاتورية تتعلق ببعث السيد المسيح، كان قد رسمها الرسام الدنماركي كريستوفر زيلير في أبريل 2003، وبعد هذه الرسوم المغرضة، التي تعرضت لنبي الإسلام انطلقت في الرابع من فبراير 2006 في معظم العواصم العربية والإسلامية تظاهرات احتجاجية، تحولت في جانب منها إلى الاعتداء على الكنائس في المنطقة العربية، في محاولة وجدت ضالتها في استغلال الرمز وفتح ثغرة لحرب أهلية جديدة.
لقد تجاوزت الرسوم في تفاصيلها مجرد الهجاء أو الرسم الكاريكاتوري المألوف، إلى درجة التشهير المحض، فما الذي دفع رساما أو عقلا غربيا إلى أن يزاوج بين ممارسة العنف الذي يستخدمه بعض المسلمين وعمامة النبي التي رسمت على هيئة قنبلة؟ لقد خضعت مثل هذه المزاوجة إلى قدر غير مسؤول من التعميم. ويرى المؤلف هنا أن ثمة إشكالا يتحمله الإسلاميون والمسلمون على السواء لتصحيح الصورة الثقافية الشائهة عن الإسلام ورموزه، لقد سوقت عمليات الرد على (الإساءة) للإساءة بدرجة أكبر من الإساءة ذاتها، واستُخدم الأسلوب الخطأ بالدفاع المحموم عن النفس أو عن الرمز، ومن هنا فإنه لا مناص من وجود ذلك المسعى التصحيحي لرأب أهم الصدوع الثقافية حساسية باستثمار وسائط الاتصال الحديثة ومن خلال إقامة المؤتمرات الأكاديمية والدينية والسياسية والثقافية.
ويشير الكاتب في النهاية إلى تفهم بعض المفكرين الأأوروبيين حجم ما سببته الرسوم لعالم المسلمين، ذلك أن أي تصوير أو رسم لشخص النبي يعتبر من المحرمات في الإسلام، لاسيما إذا كان هذا الرسم كاريكاتورا مشوها ومشينا، ولابد من معرفة الواقع الثقافي الذي يؤكد بلاغة التغاير في النظر إلى الرسالة المبثوثة بين مجتمع وآخر، فقراءة أي رسم يعتمد بالضرورة على تاريخ المجتمع وكيف يستخدم مجتمع ما هذه الإشارات أو تلك ضمن سياقات محددة لإنتاج المعاني الإيحائية.