من ظواهر التدين الشعبي في مصر
لا يمكن أن يتم النظر إلى قراءة التحولات الحادثة في مصر اليوم دون أن نعتبر تماما بالوعي الجمعي الشعبي، وأن نلحظ تعقد وتعدد مستويات التركيبة السكانية لمصر ومكوناتها الثقافية وخلفياتها الاجتماعية. فالذين يطالعون المشهد المصري من وجهته السياسية أو الاقتصادية أو الدينية يطالعونه من منظور نظري محض، أو من منظور قارىء الصحيفة الجالس على شرفة بحرية في مكان قصي لا تروق له قسوة المكان الشعبي أو ازدحامه، أو اكفهرار أوجه ناسه بمختلف مستوياتهم الشعبية.
من هنا فإن هذه القراءة تسعى لتوصيف المشهد من داخله. فمصر ليست كورنيش النيل أو الساحل الشمالي وقرية مارينا أو الفيلات المسورة فقط، مصر الحقيقية هي الثاوية في الأحياء الشعبية وفي الحواري وفي القرى الريفية، وفي المدن الشعبية المكدسة على ضفاف النيل من الدلتا إلى أسوان، منها تنبع القيم، وتتولد الأفكار، وتنبثق الظواهر.
ولقد أثيرت مؤخرا مسألة النقاب في مصر، وحبرت على لوحته السوداء الكثير من الكلمات والمقالات، وجلها تنظر للمسألة من زاويتين:
-الأولى: النظر للنقاب من منظور ديني شرعي، يرى أن النقاب مجرد عادة اجتماعية وليس عبادة، وأن الدين الإسلامي لم يأمر بارتداء النقاب. فيما ترى الجماعات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمون أن النقاب فريضة دينية لأنه صنو الحجاب.
-الثانية: النظر للنقاب من منظور سياسي دستوري يتمثل مفهوم : الحرية الشخصية، والمساواة في الحقوق الاجتماعية، ومنها حق اختيار نمط الحياة من مأكل وملبس ومسكن.

طفلة الجماعات المنقبة:

بدأت ظاهرة انتشار النقاب في مصر بشكل بطيء جدا، إذ لم تكن ترتدي النقاب سوى quot; الأختquot; المنتسبة إلى جماعة إسلامية وتجلى ذلك على استحياء في عهد الرئيس السادات. كانت مصر الستينيات في العهد الناصري قد عرفت موجة العري والميني جيب، وانكسرت هذه الظاهرة قليلا بعد هزيمة 1967، وإن تجلت في عدد من الأفلام السينمائية التي أنتجت بعد النكسة التي تخلت عن القيمة بعد أن فقد الجميع مشروعهم القومي.
كما تجلت ظاهرة جديدة بين الشباب والشابات في مصر في السبعينيات في ارتداء الملابس الضيقة والقصيرة والأحذية ذات الكعوب العالية، وإطالة الشعر، فيما أطلق عليه موضة: quot;الخنافسquot; واستمرت حتى بدايات الثمانينيات من القرن العشرين، وفي ظل ذلك كله لم يكن للحجاب أو النقاب في مصر إلا وجود بسيط، بدأ ينتشر مع عهد الرئيس مبارك، منذ أواسط الثمانينيات الميلادية، وتجلت الظاهرة التي أخذت ضجتها الإعلامية مع اعتزال بعض الفنانات وارتدائهن الحجاب مثل: شمس البارودي، هالة الصافي، شهيرة، ثم عفاف شعيب، وسهير البابلي، وشادية وسهير رمزي، وغيرهن، مما أسهم في زيادة الاتجاه نحو الحجاب (لا النقاب) بين النساء وبنات الجامعة، والمرأة العاملة، خاصة في الأحياء الشعبية.
ومع انتشار شركات توظيف الأموال الإسلامية، وزيادة الحضور الديني (الشعبي) للجماعات الإسلامية، ونشاط الجمعيات الإسلامية الرسمية خاصة: الجمعية الشرعية، والتأثير الخليجي للعائدين والعائدات من الخليج، وانتشار العباءات النسائية السوداء ndash; بتأثير خليجي - كموضة ( شعبية) أولا، ثم كزي إسلامي مصحوب بالحجاب ثانيا، بدأ التفكير في النقاب يراود بعض المسلمات المتدينات، حيث بدأت المنقبات يظهرن في الجامعة، وفي مجال التعليم كمعلمات، ثم في القطاع الوظيفي خاصة قطاع الممرضات، حيث يبلغ عدد الممرضات المنقبات اليوم كما تشير إحصائيات وزارة الصحة المصرية نحو (9500) ممرضة منقبة!!
كانت المنتسبات للجماعات الإسلامية quot;الأخواتquot; هن وحدهن من يرتدين النقاب، خاصة وأن آباءهن من أعضاء الجماعات الإسلامية يلزمنهن بارتداء الحجاب أو النقاب من سن الطفولة المبكرة، منذ العام الثالث أو الرابع حتى يعتدن عليه. كان المنظر غريبا أن ترى طفلة تسير في شوارع القاهرة وعمرها ثلاث سنوات وهي ترتدي الحجاب .. لكن هذا الأمر أصبح معتادا بعد ذلك.
في حقيقة الأمر لا ترتدي النسوة النقاب في مصر إلا إذا كن ينتسبن لإحدى الجماعات الإسلامية، وكانت أجهزة الأمن المصري تطاردهن، وتعرفهن بشكل محدد، أما اليوم فالظاهرة باتت ملحوظة، خاصة في الأحياء الشعبية المصرية في القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الأخرى ذات الكثافة السكانية.
ولأن مصر تمر بأزمة اقتصادية شديدة الوطأة ملحوظة لدى قطاع كبير من الشعب المصري، فإن العامل الاقتصادي والاجتماعي يشكل أحد أسباب انتشار النقاب، فهو زي منخفض التكاليف، وتكرار ارتدائه يعفي الأسر من مسألة معايشة الموضة وغلاء أسعار الملابس النسائية، وغلاء متطلبات المرأة من الماكياج والكوافير والإكسسوارات النسائية، وهو الأمر الذي يفسر انتشار النقاب ndash; وإن بشكل محدود ndash; في الأحياء الشعبية الفقيرة لا في الأحياء الراقية الثرية.
كما أن ارتداء النقاب لا يشترط بالضرورة quot; تديناquot; أو معرفة بالدين أو حتى بالسياسة، ذلك لأن بعض من يرتدينه من النساء في مصر قد يرتدينه لمرورهن بحالات نفسية أو سيكولوجية صعبة، كالعزلة أو الطلاق، أو العنوسة، أو الإحساس بالإحباط واليأس والشعور بالاغتراب، بل إن هناك أميات يجهلن القراءة والكتابة ويرتدين النقاب، بل إن quot; النقابquot; أصبح من سمات تخفي بعض الخارجات على القيم الأخلاقية.
وتشكل القنوات الفضائية المتأسلمة أحد العوامل الإعلامية في انتشار النقاب، فقد ظهر دعاة سلفيون جدا، لا يقومون سوى بحكي قصص التراث الإسلامي في عهد الرسول (ص) يقومون بقص ولزق الأخبار القديمة وتقديمها للمشاهدين على أنها هي الإسلام الحقيقي، ومن بينها الدعوة لـquot;النقابquot; على أنه عنوان المرأة المسلمة المتدينة.

النقاب والحرية:

تحركت المؤسسة الدينية الرسمية في مصر بشكل متأخر لمحاصرة ظاهرة quot;النقابquot; فيما تابعناه من رأي شيخ الأزهر الشيخ سيد طنطاوي في النقاب وقراره منع دخول المنقبات جامعة الأزهر، واعتباره النقاب عادة اجتماعية وليس عبادة، وهذه طروحات جاءت متأخرة قليلا.
لقد سكتت الدولة عن الحجاب، لاعتبارات اقتصادية واجتماعية يعلمها قاطنو الأحياء الشعبية، والريف المصري، وتطور الحجاب وأصبحquot; نقاباquot; وأصبحت ترى بعض الكتل السوداء تسير في الشوارع بشكل عادي ومألوف، على الرغم من أن غالبية المجتمع المصري تنظر لهذه الظاهرة باستهجان، كما أن تناقض العلاقة السيكولوجية بين المصريات والحجاب والنقاب بدأ يظهر في ارتداء البنات والنساء من الطبقة الثرية والمتوسطة لأحدث خطوط الموضة والأزياء، من التيشرتات والكولونات، والبنطلونات الضيقة، والتنورات الطويلة الضيقة جدا، مع الإبقاء على إيشارب على الرأس يسمينه quot; الحجابquot;، وبالطبع الظاهرة شعبية وليست لها علاقة بالتدين.
وقد أثارت بعض مؤسسات حقوق الإنسان في مصر مسألة: quot;الحرية الشخصيةquot; في ارتداء النقاب، ويبدو أن القائمين على هذه المؤسسات ومعظمهم يرفض الحجاب ويرفض النقاب، يريدون تأكيد الحضور على الساحة المصرية في أية قضية عارضة أو طارئة حتى لو كانت قضيةquot; النقابquot; مبتعدين عن قراءة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية لهذه المسألة وضعف التأثير الديني الرسمي مقابل تأثير الجماعات المتأسلمة في الشارع المصري، فأين شعارات حرية المرأة، وحقوق المرأة، وعصرنة المرأة التي يطلقونها ويرفعونها في شعاراتهم، وأين هو المجتمع المدني الذي ينشدونه؟

quot;جمعةquot; الأقباط:

حتى وقت قريب كانت أجراس الكنائس في مصر تقرع صباح الأحد من كل أسبوع، ويوم الأحد معروف في مصر بأنه يوم إجازة في أغلب شركات القطاع الخاص، والمحال التجارية، ومعروف أيضا أنه يوم الكنيسة الصباحي الذي يلتقي فيه الأقباط لممارسة شعائرهم. لكن الأمر المثير هو تحول الأقباط لإحياء يوم quot;الجمعةquot; أيضا، الذي يؤدي فيه المسلمون صلاة الجمعة يوم عطلتهم الأسبوعية الرسمية، بحي أصبح الأقباط يتجمعون في معظم الكنائس خاصة الكبيرة منها في أحياء الزيتون، ومصر الجديدة وخلوصي بشبرا، ومحافظة 6 أكتوبر بأعداد كبيرة، بل باتت بعض الكنائس الكبرى تنظم رحلات لاستقبال اللشباب القبطي من مختلف المحافظات في يوم الجمعة تحديدا، وهذا لم يكن يحدث في تاريخ الكنيسة المصرية.. فما الذي تغيربالضبط؟ هل أضيفت عبادة جديدة في الديانة المسيحية تحفز الأقباط للتجمع يوم الجمعة؟ أم أنه نوع من quot; العنادquot; الديني مع الأغلبية المسلمة؟ والقول: كما لديكم يوم جماعة في يوم الجمعة نحن أيضا لدينا يوم جمعة؟
هذه الظاهرة تستلفت النظر وعلى المؤسسة الرسمية في مصر قراءتها وقراءة دوافعها وبواعثها حتى لا تتحرك تحت الرماد ظواهر مخبوءة، ودوافع ضدية كامنة في النفوس ناجمة عن حالة الاحتقان بين أغلبية مسلمة وأقلية قبطية، وما حدث في مدينة ديروط بأسيوط من أحداث عنف دموي بين الطرفين يؤكد على ضرورة تدخل المؤسسات الدينية الرسمية في مصر في قراءة هذه الظواهر وسرعة معالجتها دينيا وفكريا واجتماعيا إبقاء على النسيج الموحد للمجتمع المصري.