نتحدث كثيرا عن الديكتاتور والديكتاتورية، وعن التسلط، والامتداد الزمني في الحكم، عشقا للكرسي، وللبلاط المشمول بالبطانة، والمحاط بأصدقاء الخير، وأهل الثقة. لكننا ربما نغفل أمرا مهما في شخصية الديكتاتور نفسه، وهو قدرته العجيبة على التكيف مع الأحداث والوقائع، فهو في زمن حكمه الدهري المديد يمر بوقائع وتجارب متعددة، من تثبيت الحكم، والاهتمام بالقدرة الأمنية الفائقة، إلى الحروب، والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، والتحديات الدولية السياسية والاقتصادية والثقافية والتقنية وغيرها من الأحداث التي قد تتطلب نوعا من التغيير لا التكيف أو التسكين، لكن الديكتاتور لا يأبه لها، ولا ينجو منها بالاستقالة، أو ارتداء معطفه وإنزال الستار، بل يظل يكيف نفسه بين عقد وآخر، وبين لحظة زمنية وأخرى متعايشا مع الأحداث، فهو وقت الحرب الفارس المغوار، والقائد المحنك، صاحب الأسطورة العسكرية، وهو وقت السلم: باني الدولة الحديثة، والمفكر، وصانع الحضارة، وقرة عين الفقهاء والشعراء والكتاب والكتبة أيضا. هكذا يتكيف الديكتاتور مع زمنه، مهما جد من أحداث ومهما تغير من وقائع، ونظرة طائر على مختلف الديكتاتوريات في العالم تؤكد على ذلك.. فانتصار الديكتاتور في بقائه على سدة الحكم أطول مدة ممكنة، وليس مهما أن تتغير الأحداث، أو تتوجع الشعوب التي عليها أن تلوذ بالصبر، وأن تتأسى بقائدها العظيم.

الفرعنة أو صناعة الديكتاتور

هذا التكيف الديكتاتوري مع الأحداث قديم وأصيل في منطقتنا منذ آلاف السنين، نتبصره على سبيل المثال لدى فرعون موسى الذي خاطب شعبه:quot; ما علمت لكم من إله غيريquot; وتكيفه مع الحدث الأساسي الذي قدمه النبي موسى من خلال العصا وهو حدث quot; السحرquot; حيث ذكر فرعون للسحرة: أنا كبيركم الذي علمكم السحر، وتحول من quot; إلهquot; يمارس ديكتاتوريته اللا متناهية إلى quot; ساحرquot; لكن قوم موسى خالفوه لأول مرة في حياتهم وسجدوا لله.
والمثال الآخر الأسبق في تكيف الديكتاتور نجده عند quot; النمرودquot; في زمن النبي إبراهيم ndash; عليه السلام- حينما ذكر إبراهيم للنمرود أن الله يحيى ويميت، فأكد النمرود أيضا ndash; تكيفا وتحولا مع الحدث- أنه يحيى ويميت أيضا، فأتى برجل وقتله، وأتى بآخر وعفا عنه. هذه هي النظرة الديكتاتورية للأشياء للحياة والموت، للأحداث.. تكيف معها وتغير للتدليل على أن الديكتاتور عليم بكل شيء، وخبير، وراء، وفقيه، وعالم ببواطن الأمور، وخير خلف لخير سلف، ومن هنا لا نستغرب كثيرا الأوصاف التي يطلقها الإعلام الرسمي على الديكتاتور فهو: الزعيم التاريخي، والفارس، والعالم، والمثقف، والرئيس الرياضي، والحاكم الحضاري، وصاحب العظمة، وهو الفخم، والجليل، والإنسان، والقائد، والملهم، وأمير المؤمنين، والسلطان، والمهيب الركن، والخليفة، ورب العائلة.
ولا تختلف النظرة للديكتاتور بعد الإسلام عنها قبل الإسلام، فقد لقب الحاكم المسلم أولا باللقب الشهير:quot;أمير المؤمنينquot; وعلى الرغم من وجاهة هذا اللقب، واتصاف بعض من لقبوا به بالعدل مثل عمر بن الخطاب إلا أنه لم يمنع الفتن والاغتيالات الدموية التي شهدها العالم الإسلامي منذ فتنة عثمان بن عفان حتى اليوم.
كما أن لقب: quot;الخليفةquot; وهو أعلى الألقاب ديكتاتورية لأن الخليفة استلهم مسماه من كونه: quot;ظل الله على الأرضquot; لم يمنح ظل الله على الأرض القدرة الكافية لمنع الفتن والحروب والقلاقل والمذابح الدموية طوال فترة الخلافة الإسلامية، ولم يستطع quot; ظل الله على الأرضquot; أن يوقف القوى الخارجية التي احتلت واستوطنت ديار الإسلام من الفرنجة، والصليبيين، والمغول، حتى وقوع أغلب بلدان العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني والإيطالي، ثم الإسرائيلي والأمريكي.
ومع أن لقب:quot; الخليفةquot; كما جاء في القرآن الكريم هو لقب عام يشمل جميع بني البشر باعتبار أن الإنسان هو خليفة الله على الأرض:quot; إني جاعل في الأرض خليفةquot; فقد استحوذ عليه الديكتاتور، وسمى به نفسه، محتكرا الخلافة، والسلطة، والبلاط، والثروة، والتاريخ، وألسنة الشعراء.

الديكتاتورية الحالمة

الزمنان المحببان للديكتاتور هما: زمن الماضي، وزمن المستقبل، فهما يتيحان له فسحة لا نهائية من الوقت لمخاطبة شعبه بالأمجاد والتاريخ والحضارة التي شهدتها بلاده، وأن استعادة هذا الماضي التليد العريق ممكنة، وأن الاسلاف هم بناة الحضارة القديمة التي استلهم منها العالم حضارته، ومن هنا وجب الاقتداء بهم، والسير على منوالهم في البقاء في السلطة حتى آخر نفس، وفي الاستحواذ على كل شيء كي نعيد هذا المجد الذي لم يضع لأنه محفوظ في الماضي وفي المتحف.
فيما إن لحظة المستقبل تمنح الديكتاتور القدرة على ممارسة الحلم، سواء في المنام أم في اليقظة، فهو في منامه قد يرى سبع بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات سمان، وقد يرى السنبلات الخضر، وفي صحوه ويقظته قد يرى شجرا يمشي، أو أنه محاط بالملائكة في البيت الأبيض !! ومن هنا فإن حديث الديكتاتور لشعبه - من خلال الخطابات المتتالية- يمارس فيه الهروب الزمني دائما إما للوراء حيث الماضي التليد، أو للأمام حيث الأحلام والرؤى وتحقيق التنمية، والاستقرار، والنهضة، والتقدم. أما الحديث عن الواقع وعن لحظة الحاضر فهو الأمر الأكثر إزعاجا للديكتاتور لأنه يوقع به في دائرة المساءلة، وهذا أمر مرفوض تماما لدى الديكتاتور، لكن مع ذلك فإن ما يزعج الديكتاتور بالطبع ثلاثة أمور تتمثل في: الموت، والزمن، والمعرفة.

المفارقة الشعبية:

يصنف الديكتاتور شعبه، وهو قائدهم الملهم، إلى صنفين: الأول: الجماهير الوطنية السعيدة التي تسعد بمرآه، تهتف له، وتصفق، وتبايع، وترفع الرايات بيضا وحمرا وخضرا وسودا، والثاني: quot;القلة المنحرفةquot; التي همها إثارة القلاقل، والفتن، والبلبلة. هذه القلة هي القلة المنبوذة من عطايا الديكتاتور، وهي ndash; حتى إن وصلت إلى الملايين- موسومة بكلمة: quot;قلةquot; وهي ليست قلة وطنية أو منتمية أو متوافقة مع رغبة الجماهير السعيدة، بل هي: quot;منحرفةquot; أي لا تسير وفق ما يسير عليه القطيع، أو وفق ما تمضي عليه القافلة.
هذه القلة مصابة بجرثومة quot;المعرفةquot; وهذا مكمن خطورتها بالنسبة للديكتاتور، ولذلك فهو يتجنبها، لأن المعرفة تفضي إلى التحليل والاستبطان والوصول إلى نتائج، وإلى قراءة المرحلة بمختلف مجالاتها، وقراءة الواقع والسلطة وتحولاتهما، وهذا هو السيف المسلط على رقبة الديكتاتور سيف المعرفة.
ولكسر هذا السيف أو تحويله إلى سيف خشبي دون كيشوتي، يلجأ الديكتاتور إلى معادلة: quot;العصا والجزرةquot; ويلجأ الفقهاء في بلاطه إلى نشر مفاهيم مثل:quot; الطاعةquot; وquot; الولاءquot; وquot; الانتماءquot; فطاعة الحاكم من طاعة الله، والولاء والانتماء للوطن مرهونان بالرضى بالحاكم، فهو quot;الكل في واحدquot; وquot; في كل خيرquot;.
هكذا يستمر هذا التصنيف الدائم للشعب من قبل الديكتاتور وبطانته، حيث يبقى في حال ثنائية بين أغلبية راضية مطيعة، وبينquot; قلة منحرفةquot;، بين جماهير تبايع ndash; وقد تنتخب ndash; بنسبة (99.99 %) ndash; وقد خففت لاحقا النسبة إلى 90% فقط ndash; وجماهير منبوذة مثيرة للفتن والقلاقل والبلبلة!!
بيد أن الشعوب يتأجج ذكاؤها في هذه المعارضة المبطنة للديكتاتور، فهي حين تصفق أو تهتف تفعل ذلك بشكل وقتي حتى تمر المناسبة، وهي تستخدم الأحاديث الهامسة أو المستترة لمواجهة طغيان الديكتاتور، ولكنها تستخدم أحد الفنون الفكاهية الساخرة التي تحمل قدرا كبيرا من إيصال الرسائل المشفرة أو الواضحة الجلية وهو فن: quot;النكتةquot; وهو الفن الأكثر انتشارا بين الجماهير بصنفيها.
عبر هذا الفن يلقي الشعب بكل شحناته الرمزية والدلالية وطاقاته الذهنية لا بحثا عن الابتسامة المفارقة فحسب في النكتة السياسية، بل لإظهار مهاراته القولية عبر هذا الفن الذي يعتمد على التضاد، والمقارنة بين الشخصيات، واللعب باللغة والكلمات، وتصغير الكبير والعكس عبر خيال التصغير أو التكبير، وتحريف العبارات والأقوال، وتغيير أنماط البنى التعبيرية، وتقليد الأصوات، والتشخيص، كذلك لإيصال رسالته إلى الديكتاتور الذي ربما يتكيف أيضا مع النكتة ويطلب سماعها أكثر من مرة، لكنه بالتأكيد يخشى أن يموت من الضحك!!
بالطبع هناك استثناءات ديكتاتورية، وهناك أمراء للمؤمنين، وخلفاء، وولاة، وسلاطين، وأصحاب عظمة مختلفون، ولهم أدوارهم التاريخية البارزة، ولكن الديكتاتورية هي هي لا تتغير، حتى لو تم تجميلها بهذه الأهزوجة الضاحكة: المستبد العادل!!