إذا كانت مشروعات (الدولة القومية) في المنطقة العربية قد فشلت فليس السبب في ذلك الفشل سوى التخلف، والترتيب المعكوس بخلاف ما تقتضيه فكرة الدولة القومية أو الدولة ـ الأمة
فما كان يجري في المنطقة العربية هو اصطناع دول قطرية وبالتالي لم تكن تلك الكيانات دولا قومية أصلا، وإنما أخذت صورتها الشكلية تلك ضمن التشكيل الذي أراده صانعوا العالم الحديث بعيدا عن الواقع الذي تقتضيه صيرورات الوعي والحراك في بنية تلك المجتمعات.
فالدولة القومية في نموذجها الأوربي كانت بديلا عن الإمبراطوريات وحلت بموجبها القيم الإنسانية محل القيم اللاهوتية والمواطنة محل الإيمان، والسياسة محل الدين.
ولقد نشأ العالم الحديث على ضوء منجزات الدولة القومية ومازال الأمر يتطور في سياقات وأشكال تنحو نحو الاتحاد ولكن ضمن المبادئ الأولى للدولة القومية التي ظلت هي الحاكمة للعلاقات السياسية في تلك المجتمعات المتقدمة.
لقد كان السبب الأساس تقريبا في قيام إسرائيل قبل وبعد النازية هو معضلة اندماج اليهود في أوربا عبر التاريخ. وهي مشكلة استعصاء مزمن من طرف الكثير من اليهود في التأقلم مع نسيج الحياة الأوربية عبر فكرة الحياة في الجيتو. وهي فكرة تعود في أصولها إلى تنظيم ديني قديم لشكل الحياة الاجتماعية اليهودية ذكره القرآن حين قال (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي قبالة بعضها البعض.
فلولا معضلة اندماج اليهود في أوربا لما نشأت إسرائيل أصلا.
ذلك أن المبادئ التي تأسست عليها الحداثة الأوربية كانت مبادئ كلية وإنسانية مثل حقوق الإنسان والقيم العقلانية المتصلة بالأفكار الكبرى المحركة للتاريخ كفكرة الحرية، والمعرفة والحوار والمساواة وغيرها. لكن الانسدادات المانعة من تأقلم اليهود مع الآخرين عبر حياتهم الانعزالية جعلت منهم شريحة عصية على الاندماج رغم تأثيرها، بصورة من الصور، في تلك الحياة.
وهذه السمة هي التي تفسر لنا ذلك التناقض الصارخ في طبيعة الدولة العبرية، فهي دولة ديمقراطية لفئة من سكانها أي اليهود، دون الآخرين (عرب فلسطين)، أي أن هذه السمة التي تحول مبدأ سياسياً
وعقلانيا ً كالديمقراطية إلى مبدأ ذاتي وخاص وحصري وقومي لفئة دون فئة هو ما أرادته أوربا لليهود خارج أرضها.
ولا يعني ذلك أن طبيعة الدولة القومية ـ كما في إسرائيل ـ هي بالضرورة شرا مطلقا فهناك التباس يقع فيه البعض بين فكرة الدولة القومية كنظام حديث للاجتماع السياسي وبين الملابسات التي أدت إلى نشأة إسرائيل ضمن الكثير من الحيثيات التي جعلت من ذلك الكيان على ذلك النحو. فنشأة الدولة العبرية وملابساتها هي حاصل تقاطعات وتشابكات متصلة بالكثير من العوامل والفاعليات التاريخية والمعاصرة التي جعلت منها حاجة إستراتيجية لجهة أن الكثير من أسبابها التاريخية ارتبطت بمركز القرار العالمي (أوربا وأمريكا) على نحو ذاتي وتاريخي. وبالأساس كنتيجة إستراتيجية من نتائج الحرب العالمية الثانية.
ذلك أن الداروينية السياسية التي تمت بها التسويات على اعتبار منطق القوة ـ بعيدا عن منطق الحق والعدل ـ جرت في أوربا مجرى القدر الذي لا غالب له، كانت ترى في المنطقة العربية وفلسطين ـ بسبب الضعف والتخلف ـ إحدى مفاعيل تطبيق القرار الدولي لقيام إسرائيل و كان لابد لهذا الواقع الجديد للدولة العبرية أن يكون هو ثمن التخلف العربي المزمن من ناحية، ودلالة واضحة على أزمة الضمير الأخلاقي للعالم الحديث من ناحية أخرى.
لقد كان التكفير تكفيرا أوربيا ـ إن جاز التعبير ـ وإن بدا ذا طابع كوني. ولا يمكن بصورته هذه أن يندرج في منطق أخلاقي عام، وهو ما أدى فيما بعد إلى ظهور التناقض الصارخ بين قرارات الشرعية الدولية ابتداء من قرار التقسيم في العام 1947 وما تلاه من قرارات، وردود أفعال القوى الكبرى بغض النظر عن تفعيل تلك القرارات، على خلفية الإحساس بفداحة الخطئية الأوربية تجاه اليهود في الحرب العالمية الثانية. وبما أن منطق العقل الإنساني لا يقبل مثل هذه (العدالة الداروينية) فإن الحيرة ستظل علامة صارخة في صلب التناقض بين المبادئ الكونية للحداثة كما هي في مفهوم التنوير الأوربي، وبين الداروينية السياسية التي تجلت في الحالة الاستعمارية للعالم الثالث وخلفت ذلك الكيان في القرن العشرين كنموذج لانفصال القوة عن الحق برسم قادة وصانعي العالم الحديث.
وبهذا الفرز يمكننا أن نكتشف العلاقة الجدلية بين تخلفنا، وبين عجزنا عن تأسيس دولة قومية أو حتى اتحاد لدول قومية حقيقية.
ما يتم تداوله من حديث حول فشل الدولة القومية أو الدولة ـ الأمة، عربيا هو جزء من عدم القدرة على إدراك الصلة العميقة بين المفهوم الحقيقي للدولة ـ الأمة وبين الوعي العميق بالقيم والأفكار التي اتصلت بذلك المفهوم وهي جوهر الحداثة.
ولهذا فإن تعويم مفهوم الدولة القومية ضمن التباس يجعلها من أقانيم الشر في عناصر بنية الدولة العبرية بحسب البعض سيؤدي بصورة ما إلى تجريد ذلك المفهوم كحالة جوهرانية لا تقبل إمكانية التأمل والفرز لحقيقته ضمن ذلك التكوين.
حاجة العرب إلى تأسيس جديد لمفهوم الدولة القومية ربما كانت هي المخرج الوحيد من حال التخلف التي يعيشون فيها. ذلك أن من أهم علامات التخلف : الذهول أو عدم القدرة على الربط العضوي في العلاقة الجدلية بين شكل الدولة القومية، والوعي الحديث لأفرادها بمنظومة الحقوق الفردية والسياسية التي تجعل تفعيلهم لتلك الحقوق هو معنى من معاني مفهوم الثورة (رغم ابتذال هذا المفهوم في الأدبيات العربية بصورة رثة).
وستظل الحاجة إلى التلازم العضوي بين فكرة الدولة القومية، والانخراط في الحداثة ضمن صيرورة ذاتيه للمجتمعات العربية هي الضمانة الأساسية للإقلاع عن واقع التخلف. وعند الوصول إلى هذه المرحلة من الوعي والتحقق سينشأ واقع جديد وتحولات جديدة وترتيبات أخرى يمكن من خلالها تسوية الصراع مع إسرائيل بصورة من الصور.
إن لحظة انبثاق الدولة القومية (الدولة ـ الأمة) ستجعل مكينزمات التخلف وتعبيراته التي تضخها الحركات الإسلاموية والقومية واليسارية وحتى الليبرالية بطرق وأساليب لا عقلانية وغير تاريخية ؛ كما نراها اليوم ؛ ستجعلها جزءا من الماضي الأيدلوجي الذي لا يمكن أن يكون في يوم من الأيام قادرا على طرح تصورات عقلانية ومعرفية قادرة على الإمساك بالمصير السياسي في خطاب تلك الحركات.
والحال أن سقف التخلف الذي يعشش في تعبيراتنا التي تنتظم خطاب جميع الحركات هو تماما ما يلون تصوراتنا حول الكثير من المفاهيم التي قد لا تكون في حد ذاتها وفي معناها المعرفي ذات مضامين سلبية كالإسلام، والدولة القومية والعلمانية وغيرها من المفاهيم التي يتم طرحها بطريقة ملتبسة ودوغمائية مؤدلجة في خطاب التيارات السياسية العربية.
إن رصيد الوعي الفردي الذي ينتج القدرة على الإمساك بالمصير السياسي للجماعة هو الذي سيضمن تحديدا انجاز مشروع الدولة القومية.
وكما يقول تودروف (إن الشعب يتكون من أشخاص، وإذا ما بدا بعض الأشخاص يفكرون بطريقة مستقلة فإن الشعب برمته سيرغب في تقرير مصيره)1
ولذلك ما لم تتحرر تلك الحركات من الآيدلوجيا في الخطابات السياسية والفكرية لدى الإسلامويين والليبراليين والقوميين واليساريين سيظل التخلف هو السقف الحاكم إلى ماشاء الله.
إن القدرة على الوعي بالحقوق الفردية والموقف المستقل للفرد والمتسق مع حراك جماعي ضمن الأولويات التي ينظمها ذلك الوعي، سيكشف عن تعبيرات ومواقف لا تدل فقط على ابتداع وتجديد وسائل ومنظومات حرة وعقلانية للعيش المشترك فحسب، بل أيضا ستدل على إمكانية تجاوز بعض مظاهر الدولة القومية من داخل منظومتها وسياقها سواء لجهة اللغة، كما في ألمانيا والنمسا، أو لجهة المصالح الواقعية والعقلانية المشتركة، كما في النموذج السويسري.
في جميع الأحوال ستظل هناك ظلال مانعة من رؤيتنا لحقائق الأشياء ما دمنا نلون تلك الحقائق والمفاهيم عبر تعبيرات أيدلوجية من إنتاج التخلف.

1 الفقرة المقتطفة من كتابه (روح الأنوار)