محمد جميل أحمد: لا يقول ظاهر القصيدة ما يمكن قوله بوجوه أخرى لجهة أنها إذ تضمر معناها وراء القول المعلن، تنزاح به في سديم يرهن باستمرار فضاء خاضعا لشبكة مشككة من دوال الأشياء والكلمات. فهي في سياقها العام حين ترمي إلى ما لا يقال ويمكن أن يشار إليه في تضاعيفها؛ تظل في كلام آخر طاقة رخوة للوعي الباطن حيال شراسة الواقع؛ طاقة تأخذ من سمتها ذاك رصيدا لزجا لمواجهة قسوة موضوعها.
ذلك أنه في موازاة وجه القصيدة الآخر (موضوعها) لا تنهض بلاغة القول الشعري المباشر إلا ضمن سياق عمومي ومفتوح للبديهة والذائقة بأقل الطرق اتصالا بالمعنى. وعلاقة كهذه قد لا يسمح بها التركيب المعاصر لنسيج النص الشعري، إن لجهة المعالجة الشعرية الخاصة بكل شاعر، أو لجهة انزياح التعبير الشعري واشتباكه في حيثيات معقدة تفرضها طبقات الواقع اللامتناهية في اليومي والعابر والهامشي.
هكذا يملك النص الشعري الحديث اختبار مقاربة للتعبير قد لا تذهب بعيدا في فرز الموضوع وفق دلالته العامة وقاموسه المشترك، ولا تنتج بالتالي من هامشها ذاك سوى مسا طفيفا لعناصره الخارجية، فيما تختزن في بنيتها الداخلية معناها الذي يشحن الحواس في النص بطاقة المخيلة، فيندغم موضوعها بطريقة لا تحفل بتداعياته المباشرة.
على هذا النحو يكتب الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي في قصيدته quot;بلد بثياب النومquot; كتابةً تلتف على حيازة المعنى؛ فهو إذ يتذرر في سياق الواقع المتشظي للحرب والموت في العراق، يتحول من عنوانه المجرد في (الحرب ـ الموت) إلى مجاز يختزن معنى الوطن في صورة مشخصة وبالغة الحميمية حيال عنوانها ذاك وما يفيض فيه من حزن وأسى. فهنا لا تحيل الكلمات في النص على موضوعها المجرد، ولا تنقض دلالاتها البعيدة بتأويل ناجز، بل تنوس باستمرار في استقطاب هوامش المعنى من مشاهد شفافة؛ من الصور التي ترَّحِل الموت والإحساس القيامي بحضوره من أخمص القارات إلى ليل البلد الذي يصحو عليها بثياب النوم.
إن الصورة السريالية هنا هي عنوان القصيدة نفسه، هي بؤرة المعنى حيث التخييل المركَّـز يقطر باستمرار ما يمكن أن يقال عن الواقع المتشظي والعياني للحرب والموت بأشد الصور تعبيراعن طاقة المخيلة. إن دلالة قوية هنا ربما كانت أكثر تعبيرا عن الواقع، رغم مجازيتها وسورياليتها؛ وهي دلالة تنحاز لمجاز الواقعية السحرية. ذلك أن تنظيم علاقات الواقع في الشعر ـ بحسب هذه الدلالة ـ تكون أكثر بعدا وتعقيدا عن حيثياته العيانية فالنص لا يجير المباشرة في تلك الحيثيات في خانة الإهمال؛ بل يتوسل أقصى قسوة للرمز والسحرية المتصلة بالواقع على نحو ما، ليحرز في طاقة التعبير ما هو أشد كشفا لما يمكن أن يشعر به الشاعر في إحساسه وتعبيره عن ذلك الواقع المؤلم والمتشظي.

عندما ينام ليلُ العراق
يتسكع الأملُ مع الشحاذين
وتباشير الحكايات تتراقص بيضاءَ
إنّه ليلُ المدنِ الشفّاف
حافرُ الآبار والحنين
كلُّ شيءٍ مُضاء
كلُّ شيءٍ مُباح
كلُّ شيءٍ يبكي

هكذا حين ينام ليل العراق يتهيأ لأبدية طافية يغدو معها الإحساس بالحياة فعلا سلبيا وبلا جدوى تقريبا. فإذا كان ثمة بياض في (تباشير الحكايات البيضاء) فهو اللاشيء والفراغ؛ إنه الوجه الآخر لبرودة العدم. فـ(ليل المدن الشفاف) لا ينكشف هنا إلا للعدم الذي يحفر فجوات الأبدية ومن ثم يوقظ أعماق الحنين لمجرد لحظة عابرة في الحياة. شفافية الليل وأضوائه تأتي في النص إشارات منحرفة عن معناها وعلى الضد منه؛ إنها تأتي كدلالة نقيضة لدلالة المعنى العام، أو بالأحرى إن النقض ينهض كبنية تجسد طاقة أخرى لمعنى الهدم في فضاء القصيدة، ومعبرة عن سلطة النص الشخصية في رهن تحولات المعنى لرؤيته وعوالمه. فحين يصبح كل شيء مضاء ومباحا عبر تلك الشفافية الكاشفة يتحول كل شيء إلى عنصر في المناحة العراقية. فـ(كل شيء يبكي)

لأنّ مَوتاً
تحت أوراقِ العالم
فوق هاماتِ البشر
يَتطايرُ في الهواء
بأخمصِ القارات،

وفي موازاة عمل المخيلة الخلاق والمتحول عن الواقع ثمة إطلاق في النص ينفي تعيين الموضوعات وينـّكر دلالتها: (الموت ـ العالم ـ البشر ـ الهواء) كما لو أن ذلك التنكير هو الوجه الآخر لتلك السحرية التي حين تلتف على الواقع، تطلق عناصره لتتجسد المأساة.
وهنا نجد أن الشاعر يستبطن معنى كونيا للحرب في سياق شعرية تمسرح فعل الموت كحدث تاريخي؛ فالموت حين يتطاير في الهواء يمكن أن يكون مشاعا: (تحت أوراق العالم... وفوق هامات البشر). إن فعلا كهذا للقتل المتنقل بين البشر يضمر بالضرورة إشارة ما لقوة عابرة قوة تحمل طاقة هائلة للموت يضعها النص كإشارة تاريخية لرؤيته أي تلك القوة التي تأتي من (أخمص القارات).

عندما ينام ليلُ العراق
يطلع الفجرُ بَطيئاً في السماء
مثل غُصنٍ يَطُفُّ حائطَ الليل
في أرضٍ
تهلِكُ فيها أشواطُ الرِّياح

إن عين الشاعر هنا تبصر العدم شفافا، لكنها أيضا تملك بصيرة شعرية للمعنى حين تجعل من قوة النص وتركيبه على هذا النحو كخيار وحيد للشعر حين يواجه الطاقة الهائلة للموت في العالم؛ إنها طاقة الشعر الرخوة والعصية في مواجهة شراسة الواقع وإكراهاته.
وكما (يتسكع الأمل مع الشحاذين) في بداية النص يبدو الفجر في نهايته (مثل غُصنٍ يَطُفُّ حائطَ الليل في أرضٍ تَهلِكُ فيها أشواطُ الرِّياح)
إنها رؤية تجعل من النص سياقا متصلا لفعل الموت، وتضمر حساسية عالية في تصويره كحدث تاريخي يقع على الضعفاء والمشردين في كل مكان ـ كما في العراق ـ حيث تصبح الأبدية المصنوعة بآلة الموت مكبا للأرواح على هامش الحروب.

* شاعر وكاتب سوداني مقيم بالرياض