فيء ناصرمن لندن: quot;هنةُ من جمال هي فرح أبديquot;، بهذا المقطع من قصيدة جون كيتس الشهيرة (إندميون) يبدأ فلم برايت ستار لمخرجته وكاتبة السيناريو (جين كامبون)، حيث تصف بطلة الفلم (فاني براون) شطر القصيدة السابق بالبديع لكنها تردف بعدها quot;القصيدة ليست جميلة كبدايتهاquot;، بتفاعل ملحوظ، تتيح لنا المخرجة تخمين وإستيعاب هذه العبارة التي لاتنتقد قصيدة كيتس بل تلمح لحياته.
علاقة الحب العاصفة التي جمعت الشاعرالبريطاني جون كيتس ( بن ويشو) في آخر ثلاث سنوات من حياته، وحبيبته فاني بروان (آبي كورنش)، هي محور هذا الفلم الذي يبدأ بالشعر وينتهي به. تمكنت المخرجة، التي إعتمدت أحداث الفلم من كتاب الشاعر اندرو موشن (شاعر البلاط الملكي السابق) عن سيرة جون كيتس والمنشور عام 1997، من أدوات عملها، بدءاً بمكان التصوير، الى اختيار الممثلين، واستطاعت ان تنجز فلم باهر ومميز بدون ميزانية ضخمة، ذا لغة سينمائية رائقة وبليغة تبتعد عن الأنا الغنائية المبهرجة، وفيه قدر كبير من التحد، لانه يسرد قصة حب بطريقة غير عصرية، وإتقنت المخرجة، إستحضار كل رومانسية القرن التاسع عشر بين كيتس وفاني بروان، وإستعرضت بحساسية بالغة مسارات غرام الحبيبين وشغفهما، رغم ان الفلم لم يحتو سوى قبلة وحيدة للحبيبين.
إلتقى جون كيتس ذو الثلاثة وعشرون ربيعاً بحبيبته فاني بروان في العام 1818، وكان كأنه عصا رقيقة، الشعر شغفه الاول رغم ان أشعاره لم تلاق النجاح، و لم تاخذ حقها بعد. البطلان يلقيان الشعر كما يعيشان الحياة، وهنا تكمن صعوبة إداء هكذا نوع من الافلام لكثير من الممثلين، كما لو انهم يواجهون تحدي من يمشي على يديه، لأن الإنكليزية المحكية تختلف كثيرا عن الإنكليزية التي كتب بها كيتس اشعاره، مما قد يثير سخرية المشاهد اذا لم يتقن الممثل دوره جيدا. إمتلئ السيناريو وطريقة الاخراج، بفضاءات ولحظات سكوت تمنحنا كمشاهدين إمكانية الاستماع لهمس الصمت، بين وقفات الحوار الذي يدور على ألسنة البطلين، وزقزقة الطيور، وحفيف الملابس حين تركض البطلة وأخواها في الحقل، او حتى وقع سير الاقدام في الحدائق وأمام المنزل الذي تدور به غالبية الاحداث، لحظات السكون هذه، منحتنا كمشاهدين أيضاً، وقت للتنهدات والتفكير، وقدرة على التنقل في أجواء الفلم النفسية ومناظره الطبيعية الساحرة بحرية نفتقدها في معظم الاعمال التارخية والتي تتناول السيرالادبية. لقد إستثمرت المخرجة ميزتا الهدوء والصفاء بوتيرة متساوية وسكون بليغ لاستكمال عوامل نجاح فلمها، ومن مميزات الإخراج أيضاً، قدرتها على جعل المشاهد قادراً على الكشف الكامل لكل مشهد بلا مواربة، كما في مشهد البطلة وهي تقرأ رسالة بصمت في إطار النافذة بطريقة لاتسمح بمزيد من التفسير او الحوار، أيضاً في مشهد الغزل بين الحبيبين اثناء اللعب بالكرة، وحتى في مشهد اعلان نبأ وفاة كيتس في نهاية الفلم. إستطاع الممثلون من ناحية اخرى، تحميل اللحظات السردية والحوارية عبء كبير من الحوار الصامت، يتوازى مع هدير التسارع الموسيقي المصاحب.
تدور اغلب مشاهد الفلم في الأمكنة المفتوحة والحقول، في منطقة (هامبستيد) شمال لندن تحديدا، حيث أفْتتحَ مؤخرا بيت ومتحف الشاعر، ومن المفارقة اني شاهدت هذا الفلم في سينما تقع في ذات المنطقة. وتنقلنا كاميرا المخرجة، في احيان أقل، الى مشاهد بؤس وفقر في أسواق منطقة (كندش) المكتظة، مع إنتقال فجائي أخير الى ساحة مهجورة من ساحات روما في المشهد الجنائزي الصامت للشاعر.
وبالعودة الى البطلين فان (آبي كورنش) أجادت إدائها لشخصية فاني بروان، المرأة الشابة الرقيقة المفتونة بجارها جون كيتس لكنها حريصة من جانب اخر، على تطوير مهاراتها بالخياطة والحياكة، وكانت بحق مركز الفلم وقلبه النابض، تجنبت الصبيانية ودلع الفتيات والاداء المبالغ به. اما كيتس لعبه الممثل البريطاني (بن ويشو)، الذي له هيئة الراقص وهيبة الشاعر المتأمل والمنعزل، وكأنه كائن أسطوري شاحب لا يمسّ الأرض إلا بأطراف حوافره، نظراته الطويلة والمندهشة تمتص كل شئ مثل نظرات طفل، وماذا نتوقع منه فهو من أجاد لعب دور البطولة في (فلم العطر/ قصة قاتل) الشهير وايضا لعب دور بوب ديلان في فلم (آيام نوت ذير)2007، في هذا الفلم يتحرك ويتعامل بشاعرية باهرة، يُلقي ويعيش قصائد كيتس وحتى في مشاهد الفلم الاخيرة حينما يصاب بمرض السل الرئوي الذي سيؤدي الى وفاته فهو لايستجدِ التعاطف من المشاهدين. لعب دور صديق كيتس ومرافقه الفظ الممثل الامريكي (بول شنايدر) بإجادة بيّنة للهجة الاسكتلندية، ظهور هذا الرفيق منذ البداية، ينذرنا بان هناك مثلث للحب في الاحداث، الصديق المشاكس والغاضب الذي يدخن السيجار، يحب صديقه كما تحبه فاني، لكنه يستميت في دفاعه عن عزوبيتهما وتسكعهما وانغماسهما معا في الأدب والشعر، يخشى على صديقه جون كيتس من الارتباط العاطفي أو الزواج الذي قد يرهق الشاعر بمزيد من الديون ويقضي على موهبته. وفي الثلث الأول من الفلم يرسل الصديق بطاقة عيد الحب الى فاني حبيبة كيتس في محاولة باهتة لإغوائها، كأنها محاكاة لتصرفات صديقه القديس الضئيل، او مناورة منه للتخلص من وحدته القابعة بعيدا فيه.
لوهلة يبدو ان (فاني بروان) تقتحم عالم الشاعر ونتيجة لهذا الاقتحام: نشوة القبلة الوحيدة في الفلم، مشهد للضياع الميتافيزيقي على حافة نهر هادئ، وتبدأ الخيّاطة )فاني) بقراءة الشعر وتذوقه بمساعدة جارها وحبيبها وبهذه الطريقة سوف تكون قريبة من تلك الشرارة المقدسة التي تشع من الشاعر النحيل، لكن كيف ستتمكن من الزواج من الحبيب المعوز مادياً والمتزوج من أشعاره والمريض والمُرافق بصديق غيور؟ ويمر شتاءٌ أنكليزيٌ آخر تتدهور فيه صحة الشاعر، ويتفق اصدقاءه على شراء تذكره سفر له ليقضي الشتاء في ايطاليا، لعلها اكثر ملائمة لصحته العليلة. وليس من امل لتجنب الحزن الرهيب الذي غطى الفلم برمته مثل كفن، لكن حتى في لحظات الاسى هناك غبطة خفية لنشوة الفقد.
في الوقت الذي تزدحم به دور العرض السينمائي بافلام الاكشن والخيال العلمي والتقنيات الحديثة، يسرد فلم برايت ستار معاناة كائنين غابرين، يتصلان لاشعوريًا عبر الجدران في احد المشاهد، ويبتكران مساحتهما الخاصة الغنية بالإيماءات والحنان الغض، هذه المساحة التي ركزّت عليها المخرجة تحديدا، فهناك مشاهد قليلة تصور كيتس وهو يكتب او يلقي قصائده. مصور الفلم(كريغ فريزر) برع في تصوير المشاهد الشاحبة والقريبة من البياض التي تتطابق مع دوار الحبور والسعادة الناصعة، مثلاً في مشهد تطريز (فاني) وسادة الحرير لحبيبها، أو مشهد الكسل السوريالي الباذخ حين تستلقي (فاني) واختها في غرفة تطير فيها الفراشات بحرية في واحد من اجمل مشاهد الفلم، كما ان الممثلين الواعدين الذان أديا دور اخويّ فاني، كانا مبعث بهجة لاحداث الفلم، مصممة الازياء (جانيت باترسون) برعت في إستعادة أزياء والوان وأقمشة تلك الفترة، والحصيلة المفرحة، رغم النهاية الماساوية والمعروفة، لكننا شاهدنا قصة حب جديدة في هذا الفلم لم نعرفها من قبل. ترشح فلم برايت ستار لجائزة الاوسكار لسنة 2010 وجائزة البافتا لسنة2010 ايضا.