عبد الجبار العتابي من بغداد:احتفى نادي شعر التابع للاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق بتجربة شعرية جديدة لمطرب هو جواد محسن، الذي يعد (حسب قوله) اول مطرب عراقي ينال عضوية اتحاد الادباء والكتاب، كان حفل توقيع كتاب، وكان الحضور مميزا وان لم يحضره الفنانون، حضره حشد من الادباء والاعلاميين والاصدقاء الذين كانت الاصبوحة مناسبة للتعبير عن مشاعرهم تجاه جواد شاعرا ومغنيا وانسانا، فتسابقوا الى سرد تفاصيل من ذكرياتهم معه، تلك الذكريات البعيدة التي تمتد الى بدايات جواد محسن الادبية والغنائية ومشاكساته، ومع ان نادي شعر احتفى به شاعرا لصدور مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان (رسائل ليست للاخرين)، الا ان هناك من طلب منه ان يصطحب معه العود ليغني بحجة ان الموسيقى هي الشعر او ممتزجة به ولا يحق له وهو المطرب الجميل ان يحضر الى الشعر دون عوده، فكان ان قرأ الشعر ومن ثم حضن العود وغنى فأطرب في الحالتين وان كانت هنالك بعض الملاحظات التي اشارت الى براعته في الغناء التي لا تشبهها في الإلقاء، ومن الممكن القول كما قال الاخرون عنه ان جوادا من المطربين الملتزمين المثقفين، والذي رفض ان تجرفه موجات الغناء على اختلاف مراحلها وظل يغني بحسه العالي الاغنيات والقصائد لكبار الشعراء، كما انه مارس النقد الفني وكتب فيه الكثير من المقالات، وكان هذا الكلام جزءا مما جاء في الاحتفائية به.

قدم للاصبوحة التي امتدت الى ما بعد الظهر الشاعر الشاب عمر السراي رئيس نادي شعر الذي قال: نلتقي دائما خلافا للمعتاد، لان منطق القصيدة هو اللامنطق، ومنطق الحياة هو ان نبشر بها دائما، تذكروا اننا نقول ان الشعر والابداع والجمال هو الذي يمنع الجثث في الشوارع، واضاف: ضيفنا شاعر مميز على الرغم من ان الفن وعوالم الغناء اشارت له فأغرته ليذهب نحوها،لكن المفارقة تقول انه ابتدأ شاعرا وما زال شاعرا وناقدا ومثقفا، والدليل انه لم يذهب بعيدا في عوالم الغناء لانه يؤمن ان القصيدة هي الملاذ الوحيد له. وتابع: اذن.. ان كانت رسائله ليست للاخرين، كما يقول، فأنا اعتقد انها للذين في روحه، للاخرين الذين في قلبه، والا فمن هذه التي يحبها؟ انه قامة عراقية لا شك لانه عراقي حد النخاع، هو أليف حد تشابه الاشياء.

ثم منح الفرصة لجواد محسن للحديث عن تجربته ومنجزه فقال: كنت دائما اغني في اتحاد الادباء وهي مهمة سهلة وممتعة، ولكن انا الان في مأزق كبير ان اقدم نفسي ككاتب وشاعر، فهل اكون بمستوى هذه الرؤية الجديدة التي اقدم فيها نفسي بطريقة جديدة، لا أعرف كيف يمكن ان اقدم نفسي ولكن سأحاول ان من خلال القصائد التي سأقرأها عسى ان تقدمني اكثر.

واضاف جواد: هذه القصائد.. ليست للاخرين، انما هي ليس انا فقط، وعلى الاخرين ان يستمتعوا بها او يمكن اعتبارهم جزءا منها، كما انني حين كتبت في صفحة العنوان عن المجموعة انها (اقل من الشعر واكثر من النثر) حتى اتخلص من ورطة النقاد، كما اشار الى الاشارات بالمقدمات التي بدأ بها قصائده من اقوال مختلفة لاسماء معروفة بقوله: انا اشعر ان التجربة الانسانية والمعرفية تكون متطابقة واشعر انه تواصل مع الزمان، هذه تنويعات على قصائدي، او ربما ان هؤلاء تنبأوا بهذه المجموعة.

قرأ:

في هدأة الليل.. وصوت نجاة الصغيرة يخترق الصمت
ويختصر المسافة بين الجرح والطعنة تتجددين..
كأنما انت مولودة توا تمسكين بزمني كله
منذ ان ابتدأ وحتى لحظة شيخوخته التي تتسارع بقوة عجيبة

كما قرأ ايضا:
في سلسلة النساء
قد تضاف من ناحية الضرورة
اسماء جديدة للاحتراق ولكن
يبقى اسمك هو المحور وهو حجر الزاوية
الذي يقوم عليه بنائي بأكمله
فاذا ما رغبتي مرة
بأن تغادري هذا البناء الفاتن
الذي هو نحن
من تراه يضمن لي امكانية ان
لا اتحول الى بقايا انقاض

ثم قرأ ايضا:

تتداخل شخصيتي مع الحلاج وتمتزج
فتأتلف في شيء
وتختلف في شيء
فكلانا من بغداد
الا.. انه من الكرخ وانا من الرصافة
وكلانا ابتلي بطغيان الروح
الا انه مات من اليقين
وسأموت انا
من الحيرة

كما انه غنى بعض اغنياته قبل ان تبدأ التعقيبات والاسئلة عبر مداخلات الحضور، فبدأها اولا الشاعر جبار سهم السوداني الذي قال: اعرفه مذ كان في الفن فتيا، وفي العمر صبيا.. وديعا مثابرا ومهذبا، حين كنت اقرأ عليهم قصائدي في ثمانينات القرن الماضي وادرسهم علوم العربية وفنونها (الموشح الاندلسي وموسيقى الشعر وعلم العروض وعلم النحو، وكان جواد من بين الطلبة المتلقين الجيدين للدروس النظرية والعلمية ثم فرقتنا السنون العجاف).
واضاف السوداني: جواد لم ينل نجوميته التي يستحقها لانه مكث بين اسوار الوطن، قلعة الحروب والحصار والجوع والحزن العراقي الراعف، في حين نال زملاؤه الذين ارتدوا أجنحة الرحيل ألقهم الذي يستحقونه مثل كاظم الساهر ونصير شمة وفريدة محمد علي وغيرهم، انما جواد فقد اعتاض عما فاته بنيله وزارتين في العراق الجديد: وزارة الفن الجميل ووزارة الشعر الاصيل.

اما الشاعر احمد السادة فقال: جواد ولغته نبعان ضوئيان متناغمان ومتشابهان جدا، وهذا الشيء يكتشفه ببساطة كل من اكتشف خرائط الجمال والسلام والمحبة السخية في روح جواد، فالذي يعرف جوادا جيدا ويقرأ كتاباته المعجونة بماء الشعر وضوء التصوف وموسيقى السلام سيعرف بالتأكيد أن لغته هي صورة حقيقية ودقيقة لدواخله، هي مرآة تفض كل اسراره وتفصح عن بحثه الدؤوب عن عشبة الجمال الخالدة وجمرة الحقيقة المختبئة تحت تلال الرماد، ان لغته هي اناه الانثوية التي تركض فوق حقول الورق العذراء لتزرع في كل خطوة أغنية من المحبة والصدق والقلق المضيء.

ثم تحدث الناقد علي الفواز قائلا: تذكرت في يوم ما وانا اقرأ رسائل كارل ماركس التي كتبها الى حبيبته، كان يشف عذوبة ويفيض شوقا وربما كان يكتب الرسائل وهو عار، يخشى من اي ثقل يحاصر جسده، استعيد هذه الحكاية لاجل جواد محسن، ان كتابته تشف عذوبة لانه مارس فيها اعترافا ربما لم يجرأ ان يمارسه في الغناء، وكان هذا الكتاب حفلة يغنيها جواد.
واضاف: جواد الذي أعرفه منذ سنوات كنت اظنه مشروع كاتب كبير لكنه فاجأني انه تحول الى مطرب، ربما انه غادر كل احلام الكتابة وذهب الى الغناء، ربما يجد في شفرة الغناء توصيفا لاحزان الكتابة والفكر، لكن جوادا لم يغادر منطقة الكتابة، وتابع الفواز: جواد لايمكن ان يعيش من دون الاخرين لانهم الجسر الذي يوصله الى الضفة الاخرى، وهذه الرسائل محاولة منه لإنقاذ جسده من القلق الذي يعتمره دائما.

وتحدث ايضا الفنان المسرحي الدكتور حسين علي هارف فقال: دخل جواد يوما محراب المسرح، ومن يدخل عالم المسرح يجد نفسه متشظيا موسوعيا ويستطيع الامساك بعشرات التفاحات في يد واحدة، وهذا ليس انحيازا للمسرح، ولماذا لايكون انحيازا للمسرح، فكانت (رقصة الخيول) رقصة رقصناها قبل ثلاثين عاما.
واضاف: جواد اثبت ان الكتابة شكل من اشكال الدفاع عن النفس امام هزائم الحروب والحب والاحترابات، طوق نجاة للنفس، مثال للشفافية التي دنسها السياسيون وتاجروا بها، انا اغبط جوادا لانه ولد موسيقي واشعر بالاسف انني لم اولد موسيقيا،، الشعر ليس حكرا على الشعراء حسب المحترفين منهم وانصاف المحترفين وحتى المرتزقة، الشعر ليس مهنة او حرفة انما هو ببساطة كالحب مشاع للجميع، كل من مسه الحب هو شاعر، كل من مسه القهر هو شاعر، كل من مسه الحزن هو شاعر وكل من مسه الفرح هو شاعر وما قدمه جواد كان له علاقة بما ذكرت.

اما الناقد التشكيلي جواد الزيدي فقال: انه فنان ملتزم بموازاة ماجد الرومي وفيروز ومارسيل خليفة وعبد الحليم، الفن العراقي فيه اسماء ملتزمة جواد احدها، واعتقد ان رسائله فكرية وفيها الكثير من الشعرية، انه واحد من الذين بقوا في الواقع المضطرب وهو من الاصوات الجميلة شعريا وغنائيا ونقديا ايضا.
اما الصحافي سامر المشعل فقال: جواد.. يستحق الحفاظ عليه لانه مثال للفنان الملتزم، جواد وهو هارب من العسكرية ابان الحرب العراقية الايرانية كان يغني اخر الليل ويشيع الفرح في النفوس فيما كانت الحرب تحصد الارواح في الجبهات، جواد.. مطرب مثقف، وشاعر مطرب، وما احوجنا الى المطرب المثقف الذي يزيل عنا زكام الصخب.

وتوالت الشهادات والمداخلات من عدد من الحضور الذين لم يستطع ايقافهم مقدم الاصبوحة، فلم يجد الا ان يمنحهم بعض الدقائق للتعبير عن ارائهم بما قرأوه لجواد محسن الشاعر من قصائد في مجموعته، ولا بد ان اشير الى الذكريات العديدة التي رسم ملامحها الصحافي كاظم لازم الذي اختصر في الختام حديثه عن جواد بالقول (ان جوادا هو نسخة بدل ضائع لفنان).