محترف فرانسس بيكون المفضل |
عمار سلمان داود: حين شاهدت لأول مرة، صورا لمحترف الرسام الايرلندي فرانسس بيكون، لم أتبين كيف كان الرجل يعمل ويتحرك في مكان يغط في فوضى عارمة، وقد ازدادت دهشتي بعد ان قرأت له تصريحا بهذا الخصوص، في كتاب مترجم الى البولندية كان قد نشر في لندن عام 1975، الكتاب كان بعنوان (Interviews with Francis Bacon. The brutality of fact) ففي معرض اجابته على أسئلة الصحفي دافيد سلفستر، عن احد أكثر محترفاته وقعا في نفسه قال: اشعر هنا كما لو انني في بيتي، لدي هنا فوضى، ولكن هذه الفوضى تلهمني افكارا جديدة. وعدا هذا فأنني اعشق العيش فيها. ان تم لي الانتقال من هذا المكان لحولت المكان الاخر وفي ظرف أسبوع الى عين الفوضى التي تراها عندي الان، هذا لايعني انني اكره ان تكون أشيائي وأدواتي نظيفة ولكنني اعشق مناخ الفوضى.
دافيد سلفستر: ربما يكون العمل في قلب الفوضى أكثر يسرا، وبالذات حين يكون الهدف هو تحقيق النظام في فوضى الحياة، والغرفة التي تعمل بها، لا يحكمها الاستقرار، وقد يدفع هذا وبصورة لاواعية الى ان تمتلك دافعا الى إحقاق النظام. وكما يبدو لي فان هذا أجدر من ان تعمل ضمن مكان منظم حيث يكون الأمر أكثر صعوبة.
ويجيب بيكون: نعم اتفق معك، فقد تم لي يوما شراء محترف جميل في زاوية (رولاند غاردنس)، الضوء كان رائعا هناك، وأثثت المكان بصورة لائقة، وبسطت غطاءا على الأرض، ثم علقت الستائر، ولم ينقص شيئا مما هو ضروري في هكذا مكان، ومع ذلك لم استطع العمل فيه. وعلى اثر ذلك، تبرعت به لصديق حميم، لقد كان ذلك المحترف وبكل بساطة رائعا أكثر مما ينبغي، وقد أحسست فيه كما لو ان احدهم قام بأخصائي!
محترف كاندينسكي | دوبوفية أثناء عمله |
الشيء الآخر، الذي افتقده بيكون في محترفه السيئ -عدا طبعا الفوضى - كان الغبار الذي استخدمه مرارا في رسم لوحاته، وبالأخص تلك التي تمثل الكثبان الرملية التي استلهم هيئاتها اثر مشاهدته لها في منطقة برتاني. كان بيكون يمزج غبار المحترف مع الألوان، لتحقيق ملمس خاص على سطوح لوحاته، وأحيانا كان يترك خليط الغبار واللون ليجفا معا حتى يستخدمهما كمواد للتخطيط!لم تكن تلك الاستخدامات بغريبة على فنان اخر هو جياكوميتي، فقد ساهم غبار محترفه الذي امتزج مع ألوانه في منح ملمس وطقس لوني خاص لها، وهي المعروفة بطغيان لون الرماد عليها. ولم تسلم (الزجاجة الكبيرة)، وهو عمل للفنان المعروف مارسيل دوشامب من تجريب إمكانيات غبار المحترف، بعد ان عرّضه لغبار مدينة نيويورك النافذ من شباك محترفه المفتوح لمدة طويلة، وليقوم صديقه الفنان مان راي بتصوير العمل وهو مغطى بطبقة سميكة منه.
تساءلت، وانا أتأمل صورة الزجاجة الكبيرة وهي مغطاة بالتراب: أيصلح يا ترى غبار المحترف، او أي غبار، ان يكون أيقونة لمعنى كينونة الزمان المتراكم؟ او لنقل صنوا للزمان وقد تجرد من تجريديته؟ الم تكن أيقونة الشبكة التي استعارها اينشتاين وسيلة بصرية ناجحة لإدراك معنى التفاعل القائم مابين الزمان والمكان؟ الا ان الغبار وهو النافذ في كل مكان، يصبح بمثابة إشارة تغطي الأشياء، وكأنها تعلن في كل زاوية منها عن معنى وطأة الزمان القاهرة، باعتبارها نضوجا مستمرا نحو الزوال. محترف خوان ميرو بحوامل لوحاته العديدة
وما دام غبار المحترف على قدر من الأهمية لبعض المصورين، فقد دعاني هذا الى ان أتذكر غبار محترفي الأول في بغداد، كان شباكه الكبير المفتوح مرارا - وبالأخص في فصل الصيف - مشرفا على مساحة كبيرة من الأرض الخالية، مما كان يسمح بمرور كم كبير منه في محترفي، كم من غباره ياترى ذهب سدى؟ ومحترفي الحالي فيه من أدوات ومواد صناعة الخيال الكثير، فعدا المألوف منها، مثل أنابيب الأصباغ او مساحيقها، الفرش وسكاكين الرسم والمساطر، وقناني الزجاج الحاوية لدهن الكتان ومادة التربنتين وأخرى للصمغ العربي أو الحبر الصيني، أقول، عدا هذا وذاك يتوفر على أشياء أسميتها ب (مفعّلات الخيال) وهي أشياء ضرورية لايمكن ان يخلو منها أي محترف، وقد تبدو للبعض كأشياء عديمة الفائدة، كان محترف بونارد مثلا يحتوي على قطع مختلفة من الأوراق المتهرئة، وعليها اثار عجلات السيارات، وخريطة قديمة، وصور فوتوغرافية، اما محترف سيزان، فقد توزعت على رفه قناني زجاجية وصحون وجماجم بشرية، صناديق وعلب مختلفة، ومحترف بيكاسو كما هو معروف لم يكن ليخلو من الأقنعة والتماثيل الأفريقية والآلات الموسيقية التي كان يستخدمها في لوحات الطبيعة الصامتة. ومحترف فرانسس بيكون كان غاصا بصور فوتوغرافية منتشرة في كل مكان وأعداد كبيرة منها تفترش ارضه للحد الذي يجعله مجبرا على ان يمشي عليها، وهو فعل مقصود به (إنضاج) هذه الصور لتزويده بمادة التخيل، فكلما تشوهت أو تهرأت ازدادت فعاليتها التحريضية لخياله.
محترف ماتيس كان يحوي على أواني وزهريات وصحون وقطع سيراميكية عربية وصينية وأثاث وسجاد شرقي وقد لازمت تلك الأشياء مرسمه طوال حياته وهو يقول بصددها: ((الاشياء في المحترف تعمل كالممثلين فالشيء الواحد ممكن ان يلعب عشرة ادوار مختلفة في عشرة أعمال رسم مختلفة)). فالمحترف هو مكان لصناعة لا مراحل واضحة لها، تتسم بتحررها من شروط العمل الرتيبة وإيقاعها الممل. والمحترف ومايحتويه، هو مكان لطقوس استقبال (إشارات الوهم) الباطنة في الأشياء والعالم، وبصفته (بيتا للخيال) لا يرضى فقط بأدوات التصوير والسطح التصويري لاستدعاء خياله الشارد، بل بكل ما تعقد عيوننا معه أواصر محبة وجمال، تأتي من جهة غابت عنها الحدود، هي من جسم عالمنا ولكنها قابلة على أن تنفصل عنه في أي لحظة، لتحلق بنا الى حيث تتفتح المعاني وطقوسها اللانهائية.
ليس شرطاً أن يؤثث المحترف بحامل لوحات ومنضدة، رفوف وأدوات تصوير، فهذه صورة نمطية له، ربما كان محترف فاسيلي كاندينسكي من هذا النوع، فقد كان مثالا ناصعا للنظام وللصرامة في ترتيب وتصنيف اشيائه وأدواته، حتى ان الرجل لم ينس تعليق صورته وهو في أعلى درجة من درجات الوقار والرسمية، ربما لانه كان قد درس القانون قبل ان يتحول الى رسام، فمحترفه كان اقرب الى الصيدلية منه الى مكان رسم.
محترفات رسامي اليوم المعروفين تبدو لنا مؤثثة بأشكال لم نعتدها، خصوصا اذا عرفنا بأن هناك من يرسم علي قماشة ملقاة على الأرض، حتى انه يمشي عليها كما كان جاكسون بولوك الأمريكي ودوبوفييه الفرنسي يفعلان، اما باسليتز الألماني فهو يترك علب أصباغه على الأرض وصوره تتكئ عادة على حائط مرسمه دون حاجة الى حامل في حين كانت لوحات البلجيكي اليخينسكي تستقر على المنضدة اثناء العمل.
ان اختيار أثاث المحترف يتبع مزاج وشخصية الرسام فلم أكن لأتخيل ماتيس او دوفي، رينوار او براك، باول كلي او كاندينسكي وهم يصنعون أعمالهم دون تلك الحوامل المهيبة المتوازنة والمستقرة أمام كراسي مريحة تستقر بقربها منضدة عليها الالوان والفرش ولوحة مزج الألوان وغيرها من المواد الضرورية، وفي المقابل فانني اجد ان الحال سيكون مختلفا في محترفات من تلك التي استخدمها انطونيو تابيس او ميلارس، دوبوفييه او هارينغ، حيث لايكون من الضروري استخدام حامل اللوحات ومايتبعه من مستلزمات العمل بالصورة النمطية التي تتسم بالسكونية كما هي مع المجموعة الأولى.جياكومتي في محترفه
ان يكون هناك أكثر من حامل لوحات في المحترف يعني في غالب الأحوال ان الرسام ينشغل بعدة اعمال في وقت واحد وهو ماكان يفعله الاسباني ميرو، وهو السبيل الذي سيحرر الرسام من جزء كبير من رقابته الذهنية وتركيزه. ان انجاز الفنان لعدة أعمال بالتوازي وفي ذات الزمان سيؤدي الى ان يتحول شكل محترفه المناسب الى دهليز فهذا الشكل المعماري يضمن تواجد عدة أعمال وبصورة متسلسلة واقرب لشكل القاطرة. كيث هارينغ الرسام الأمريكي كان يشتغل في هكذا محترف.
كان أستاذي البولندي بارتجاك، يملك إرادة غريبة على العمل مع كمية كبيرة من الصور في عين الوقت، أتذكر انه كان يشتغل على عدد من الأعمال يتراوح مابين خمسين عمل الى مئة ودون ملل او كلل، كنت اشعر وانا أشاهد تلك الأعمال، ان أستاذي كان يمارس نوعا من أنواع الذكر على طريقة الصوفيين، ولكن هذه المرة على مستوى صناعة الصور، لقد أنجز الرجل مئات الملفات التي احتوت على كميات هائلة منها.ليس في الامر كما يبدو لي اليوم اي غرابة، وانا لم اسلم أيضا من هذا النمط من العمل، خاصة اذا كان المرء راغبا في الوصول الى درجة الكمال ومن منظور الوصفة النيتشوية ( من نيتشة الفيلسوف): الإرادة الفولاذية لتطوير الذات ومقاومة الشعور بالإحباط!
قبل سنتين كنت في زيارة لأستاذي المذكور، محترفه كان منظما ولكن لم يعد فيه مكان فسيح للحركة! لقد تراكمت الملفات الحاوية على مئات من الأعمال في كل زاوية تقريبا، ترى من سيهتم بمصير هذه الأعمال؟ كان هذا سؤالا عالقا في فمي وفيه الكثير من المرارة.كان بيكاسو يغير محترفه حين يضيق عليه من اثر تكدس الأعمال، ماكان على الرجل الا ان يترك كل شيء ويغلق الباب لينتقل الى مكان آخر، للأسف ليس أستاذي متوفرا على إمكانيات بيكاسو ولا انا.
لطالما اقترن المحترف بالنسبة لي بالبرزخ فهو الموقع الذي بفضله ينتقل المرء من عالمه الى عالم الصورة انه مكان التحول او محطة الانتقال الطوعي من عالمنا الى صورة عالم اخر، وهو يظل اخرا حتى لو كان متطابقا من حيث هيئته الخارجية مع عالمنا المعيش، فصانع الصور يقدمه إلينا من خلال مواد التصوير التي نراها بصيغتين: الصيغة الأولى بصفتها أشياء في حد ذاتها، يسلب منها الرائي قدرتها على الإشارة الى شيء خارج عنها. والثانية حين تتصف بكونها وسائط تفارق واقعها العيني لتتحول الى إيماءات تحيلنا الى عالم متخيل.
فالواقع الذي يهيئه المحترف لصاحبه هو واقع مركب: الاتصاف بالواقعية والوعد بالمنتج الخيالي في عين الوقت.
حين أجول بنظري في الصور العديدة لمحترف جياكوميتي التي شاهدت الكثير منها، أعجب كيف تمكن الرجل من نقل حساسية وملمس سطح جلده وبالأخص وجهه الى كل أرجاء مشغله.
أتساءل: من نقل حساسيته لمن؟
هل تصدق وعود الفيزياء الكمومية ياترى بان عالمنا يستجيب لنا فعليا؟ أي يتصرف بمقتضى ماتطلبه أحلامنا وطريقتنا في النظر اليه من اجل منحه شيئا من صفاتنا؟
لعل محترف جياكوميتي كان شاهدا على هذا النمط من التفاعل الشاعري الفريد: نمط التنافذ مابين جوهري الكينونتين المتقابلتين: كينونة صانع الصور وكينونة محترفه.
مرسمي كما أراه اليوم يشبهني كثيرا، انه جزئي المحكوم بإنتاج أخيلتي، نعم هو هكذا، انا امرئ مهووس بتعليب أشيائي وإخفائها، ربما لأنني امنح أشياء المحترف كما كبيرا من الاحترام والوقار قد تصل أحيانا الى مرتبة التقديس! والمقدس جدير بأن يتم تحصينه من آثار العالم الخارجي، ولعل الغبار هو احد هذه الآثار؟ فالصناديق والقناني تمنع الغبار من قول كلمته بصدد الزمان، فرانسس بيكون استخدم عبارة (إخصاء) حين لم يشعر برغبة العمل داخل احد محترفاته السيئة! المحترف: هو إذن العضو الخارجي لصانع الصور.
ارلاند كولبري، الرسام السويدي الذي يعاني من مرض انفصام الشخصية منذ سنوات عديدة، لا يضع حدودا مابين صوره وجسمه ومحترفه، فالكل يتلون بالأصباغ: جدران محترفه، الطاولات، ملابسه ووجهه ويديه، وحتى السقف لا يستثنى من ذلك! وبصورة اقل، كان جياكوميتي يفعل ذات الشيء مع جدران مرسمه وفرانسس بيكون والانكليزي لوسيان فرويد وآخرون كثار، هل سبب هذا هو الإمعان في التماهي مع المحترف باعتباره جزءا من كينونة الرسام؟ والذهاب في ذلك الى حد الفناء فيه؟
أتساءل: هل الصور تفيض كما الماء؟
المحترف الدهليز للأمريكي كيث هارينغ | محترف الفنان البولندي بارتجاك مع الاعداد الكبيرة لملفات اعماله الورقية |
هاكم أوصاف لأفعال تصوير في محترفات أخرى:
جاكسون بولوك: يرش الألوان ولا يدهنها على قماشة لوحته.
انطونيو ساورا: يتراجع بضع خطوات ثم يركض باتجاه صورته ليجلدها بفرشاته.
هانس هارتونغ: يقوم بأفعال اكروباتيكية أثناء التصوير
هنري ميشو: يصور بتأثير مادة المسكالين
فرانسيس بيكون:التصوير على ظهر القماشة وليس وجهها وفي بعض الأحوال تحت تأثير المشروبات المسكرة.
جورج باسليتز: يقترب جدا من قماشة صورته ليتعذر عليه مشاهدة ما يفعل.
الرسام الدنمركي الشاب تال ار يرسم دون اعتبار لتصنيف مفرداته المرتجلة ضمن مبدأ التراتبية ويقارن مايفعله بأكلة يهودية معروفة تقوم على أساس وضع أي شيء داخل القدر وطبخه!
كل هذه أفعال بهدف الوصول إلى:
حساسيات جديدة للأشكال،
ملامس سطوح غير عادية،
أشكال مرسومة برقابة منقوصة،
صور مرسومة بيد السهو،
حركة فرشاة ينظمها الحال العصبي غير النمطي لليد،
منع الذهن من مراقبة مراحل نشوء الصورة،
نسف بنك الصور النمطية المتكررة الموجودة في ذهن صانع الصور بديناميت الارتجال،
الارتقاء بالمخيلة إلى فضاء يجذبه قطب الصدفة.
وإزاء كل هذا، كان لزاما على المحترف ان يتبنى الشكل الذي سيفي بهذه الأغراض، خصوصا وان الوصفة السحرية القديمة/ الجديدة، لازالت تحتفظ بطزاجة رجعها:
يكون التصوير، حين يغفل الذهن عن ما هو مراد تصويره !
لقد قالها سرياليو العصر الماضي ولازالت تفعل فعلها في المحترفات لحد اليوم.
صانع صور من السويد
[email protected]
التعليقات