هناك أمكنة للمدن المذبوحة.
في صلواتي رجوتُ حبيبة تختصرني أن تشطب المعتقلات والجذام من هذا الخواء وأن ترسم قديساً في كل مسامي. هذا ما يشبه العالم الآن، أو هكذا يعتذر الشاعر لمدينتين إذ يُجنّ بامرأة واحدة.
في مساء ممطر في شارع يُطل على المتوسط، ليس شرقه تماماً، ولا في أي من جهاته، وهبتُ قلبي لرجلٍ رقيق أراد أن أحكي. لستُ مجنون حكايات، أنا العابر فوق أوطانٍ لا أراها/ القديس بكل خطاياه/ الصوفي بجميع نقائصه. قلتُ: إن ملاكاً كان يقف بجوار عبدالله الريامي (حدث هذا عندما استيقظ الريامي فجأة وأعد قهوته وجاء حاسر الرأس ليعيدني إلى الحياة)، وحتى لا يرى الريامي دموعي الجافة تقريباً؛ قلتُ له: شرق الله يرقد محمد الماغوط؛ وبنات بعيون عسلية وبنوايا طيبة جداً، يعشقن الأغاني دون أن يفكرن في هيئة طفلة تحترق في مذبحة حماة ولا تستطيع فهم أنها تموت بلا أم، كما لا تجيد طرح أسئلة على الذين يتساقطون بجوارها كذباب مشوي: لماذا؟، ومن أبادكم حتى الآن؟. (خمسة آلاف موطن فقط كما يقول الرسميون الطيبون).
في الليلة السابقة نمتُ، أنا الذي سألني بدر الراشد بعد يأسه الشديد: متى تنام؟. لم أجبه وقتها، حدث بعد ذلك أن شاهدني في منطقة quot;الجفيرquot; نائماً فاستدعى أصدقاء لا أجيد محبتهم، واحتفل بي معهم. (حين انتبهتُ قلتُ له: كنتُ ملدوغاً، دائماً أسقط قبل سريري بخطوتين أو ثلاث. وأبداً توصيني حبيبتي بأن آكل شيئاً على متن الطائرة لأنها تخاف أن يكون مقعدي خالياً لحظة الوصول).
لماذا لم أكن قادراً على ممارسة الحكي في ظهيرة دكان quot;فراديسquot; بالإسكندرية؟.
هي التي ألقتْ أمامنا جملة مكسورة ثم أسرعتْ تجمعها، وحدي من شاهد ذلك. أمام علاء خالد الذي طلبني نسخة من الرواقي. كنتُ مشغولاً بها لأنني أخاف أن أطلبه كتابه يقيناً منّي أنه وضع ذاكرته في مستودعات دار الشروق. الذاكرة المعطوبة بإنسانيتها تجعلني عاطلاً جداً وغريقاً حين تجمع حبيبتي شظايا جملتها المشطورة في برد يحاصر quot;فراديسquot;، (أكان دمها ينزف؟، هل شاهدتُ في إحدى قطراته معتوهاً يكتب مرثية عن خمسة آلاف مواطن مشوي؟. هل كان دمها أحمر؟). لا أتذكر إلا أناملها وهي تزرع الشظايا في عروقي. ربما قالت أحبُّكَ، ربما قالتْ إن طريقاً ممطرة زرعت خالاً وحشياً في منبت نهدها الأيمن وأنه تحول إلى ما يشبه معبد بوذي سكنه فتاها وأخذ يحرق بخور قصائد يعتذر فيها لطفلة حماة عن بؤس العالم.
أعرف كل هذا الآن، أعرف أنني سأموت بعد غياب شاعر بحريني كبير في عام 2010 للميلاد، سأتبعه بعد سنوات من حادثة اعتذاره عن المضي قدُماً. عندما يستقبلني سيكون قد غاب جداً ونسي شكل الأرض، وسأكون قد نسيتُ قصائده. (سأفترض، فحسب، أني نمتُ وحيداً في غرفة بلا جدران، أو تظاهرتُ بالنوم، بينما كان قلبي يتأمل الأيام الأخيرة لكون محتضر). هل ثمة شعر؟.
هل ذابت المعلَّقة؟.
هل سحقوا التَّبر على جدران الكعبة وباعوه للعميان؟.
بأي وسيلة يموتُ في الرواية الرسمية أكثر مما يموت نخيل بغداد المقهورة؟ وأكثر مما تترصد قنابل العالم الجديد؟.
حين يبدأ السقوط تحدث جلبة كباخرة تعبر بحر العرب (أو كقصيدة خلف الخلف عن أمه التي يسمع ضحكاتها في الرَّقَة وأهازيجها عابرة إليه كل الحدود)، هل أخبركم سراً؟
تلوتُ أوهاماً عربية كتبها شعراء سئموا جداً، كنت أتلو في مدريد ربما، وكان من يسمعني يظنني إنساناً، هل أخبرتُهم أنني أتأنسن في الأبجدية التي تذوي؟، لا أتذكر. ولأنني لا أجيد الإسبانية وقف بجواري شيطانٌ من إقليم quot;الباسكquot;، كان ساخطاً وكأنه يشتم ثمانين ألف مشجع يطوفون باستاد رياضي متحلل. كان شيطاناً قليلاً وصقيلاً/ سائلاً ورخواً. في الجهة الأخرى صعد ملاكٌ كبري مشاة، كان ملاكاً صغيراً وطيباً ولا يستطيع إلا أن يكون صادقاً رغماً عنه. حين اقتنصتْ عيناي جناحيه قال: إنني أحمل روحاً لطفلة مشوية في حماة، وحبيبة توصي حبيبها بسندوتشات الجبن أو ما شابه وتنسى هي أن تأكل، وشاعراً كتب أصدقاؤه على قبره: منذ أربعين عاماً عبر هذا الشاعر ما يشبه العالم لكنه لم يفهم.
يضيف الملاك الصادق رغماً عنه: أحمل، أخيراً، عينيّ عاشقة كلما أسبلت أحسَ حبيبها أن العالم يُذبحُ بلا نهاية.