كثيراً ما يقال أن quot;الخلل لدى العرب هو خلل إدارةquot; وهذا قول صحيح. طبيعة هذا الخلل الإداري والتتظيمي لدى العرب تكمن في عدم الانتظام وفي اختلال التوازن والانسجام. يتأسس هذا الاختلال على تراتيبية وطبقية تخل بالتوازن في البنية أو التنظيم لمصلحة رتبة أو طبقة في داخله. هناك سيطرة لجزء على الأجزاء الأخرى. وهذا ما يشبهه علماء الاجتماع وغيرهم بسيطرة (الأب) في العائلة. حيث يكون الأب على رأس العلاقة الهرمية وله إرادة مطلقة يفترض أن يتم التسليم بها والخضوع والطاعة لها.. النظام الأبوي (البطرياركي) هو مفهوم يستخدم للتعريف بطريقة معينة في التفكير والعمل. هذه الطريقة تنبني على علاقة يكون فيها خضوع وإجماع قسري على الطاعة لمن هو أعلي في التسلسل الهرمي.. هكذا، تتجه كل السهام إلى أعلى.. وكل النوايا والمقاصد والجهود. ويفسد بذلك التنظيم الاجتماعي و البشري. هنا نحاول ملاحظة تأثير هذا النظام على مستوى المجتمع ككل. فهذا الاختلال يسود ويغلب على مستوى البُنى والكيانات الموجودة في المجتمع العربي، بدءاً من العائلة الصغيرة، وحتى أكبر المؤسسات الاجتماعية والسياسية.

* * *
هذا التنظيم والتركيب المبني على علاقات القوة، تغلغل وأصبح ثقافة ونسقاً سائداً في العالم العربي. بين الحاكم والمحكوم، بين المدير والموظف، بين الموظف والمواطن، وبين القائد والجندي، والمعلم والطالب.. ومعه، تتخشب مفاصل المجتمع وتتعسر حركته. والعلاقات والعوائد في هكذا مجتمع تنحو لأن تخلق أزمة كلما تم استخدامها وتوظيفها. لأنه يعمل بنظام يعتمد القسر بدل التفهم، والإخضاع بدل التعاون.. الفرد الذي يحتاجه المجتمع والوطن الحديث اليوم هو الفرد الذي يتمتع بحرية الاختيار دون ضغط. كان من ضمن ملاحظات ابن خلدون الاجتماعية أن النفوس التي تعتاد القهر وأخلاق الطاعة والإخضاع.. هي نفوس تفسد ويسطو بها القهر والضيق وتعتاد الكسل والخبث والمراوغة..! في بلداننا العربية يحدث الكثير من هذا. هي الدول التي يكون للجندي فيها صلاحيات رئيس دولة.. وفيها يعتاد الموظف أن يجعل المواطن في حالة ارتهان وخضوع دائم.. ذلك لأن الموظف داخل في العلاقة الهرمية المبنية على علاقات القوة، بينما الفرد العادي يكون خارجها. حديثاً، حرص الكثير من صانعي المجتمعات الحديثة -من المفكرين والفلاسفة- على نقد هذا المسلك الاجتماعي. كانوا حريصين على أن تتوجه الأسهم للاشتراك والعمومية، وعلى أن يتم التعامل مع الفرد في المجتمع كغاية في حد ذاته، لا أن ينظر له من خلال علاقة هرمية كعلاقة سيدٍ ومَسود..! هذا ما ينتقده شيخ الفلاسفة برتراند راسل في كتابه (السلطة والفرد)، حين يضرب المثل بالموظف الذي يتصرف كرجل عظيم اعتاد أن يظهر بمظهر المتسلط على الفرد العادي.. ويورد راسل quot; إن هذه الظاهرة توجد لدى الموظفين كافة ولكن بدرجات متفاوتة... الواقع يشير إلى أن الفرد الاعتيادي (وهو السيد المفترض من وجهة نظرية) يشعر بنفسه خادماً لرجل الجيش والبحرية والشرطة والموظفين الآخرينquot;(ص78). بينما في كتابه (الديموقراطية في أميركا) يقول الكاتب والسياسي الفرنسي ألكسي دوتوكفيل quot;غالباً ما لا يلحظ الأوروبي في شخص الموظف إلا جانب القوة، أما الأميركي فيلحظ جانب القانون.quot; هذه ملاحظة ساقها دوتوكفيل في زمن مبكر حين زار المجتمع الأميركي وشاهد عن قرب نجاحه في تقليم وتشذيب أظافر السلطة في داخل المجتمع. وهناك حكاية خلف ذلك!. المهاجرون الأوربيون كانوا قد توافدوا على القارة الجديدة منذ مطلع القرن السابع عشر الميلادي، قادمين من صلب مجتمعاتهم الأوروبية الهرمة. وجدوا أنفسهم متحررين من الخوف من دول مجاورة قد تمثل لهم تهديداً، وأيضاً لم تتشكل عندهم طبقات ارستقراطية لأن الارستقراط كان ينبني على إقطاع الأراضي وفي أميركا كانت الأراضي الشاسعة متوفرة للجميع. ومن سكنوا المستوطنات الإنجليزية الشمالية (نيو انجلاند)، كانوا قادمين من طبقات موسرة، وكانوا متعلمين وأصحاب مواهب. هؤلاء بالذات كانوا قد تركوا خلفهم في بلدانهم الأم ما يحسدون عليه، ولذا هجرتهم لم تكن من أجل حاجة بقدر ما كانت لتحقيق انتصار فكري.. لقد كانوا محملين بخبرات صعبة حين تعرضوا للمضايقة والاضطهاد الديني في أوروبا. حيث كانوا تبعاً لطائفة انجليزية تسمي نفسها (الطهرانية). هذه الذهنية جعلتهم يهتمون منذ البداية للابتعاد عن التقسيم التراتيبي للمجتمع، وللحرص على بناء مجتمع متجانس من جميع الجوانب. من هنا يرى دوتوكفيل أن الأميركيين نجحوا في بعثرة السلطة. ويقول أنك أينما ذهبت في أميركا لا تلحظ وجود السلطة، وأن هناك غياب لما يسمونه في أوروبا بالحكومة أو الإدارة، وكأن اليد التي تسير هذا المجتمع هي يد خفية..! لقد نجح هذا المجتمع في توزيع السلطة والوقوف ضد مركزيتها وتكدسها في بؤر معينة.. وهذا عائد لأن البناء فيه تم من الأسفل، من الأساسات الصغيرة والاعتيادية قبل الكيانات الكبيرة. حيث يقول quot;في أميركا قد حصل العكس، إذ يمكن القول إن البلدة جرى تنظيمها قبل المقاطعة، والمقاطعة قبل الولاية، والولاية قبل الاتحاد.quot;

* * *
حين تُلقّح هذه الرؤية الأبوية جميع زوايا المجتمع العربي فلدينا إذن مشكلة في العمق.. لأنها تكون في البنيان والتنظيم. فالخلل هنا ليس خلل ذوات بل خلل طريقة. قد أكون أنا جيد وأنت جيد وذلك جيد، لكن حين نوضع في إطار علاقة معينة، وبنيان غير مناسب، فكل شيء قد يَفسد ويُفسِد..! مضمون هذا النظام أنه في داخل كل كيان اجتماعي أو غيره يوجد منطقة هي كالثقب الأسود الذي يتجمد كل ما حوله لأجله. وهي ما تفرض علاقات الفوقية والتبعية، وما يورث الفساد والمحسوبية والمركزية والتعطل.. يذكر الدكتور هشام شرابي في كتابه (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي) أن هذا النظام نظام عدوى، quot;يسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد، وينتقل من جيل إلى آخر كالمرض العضال. وهو أيضاً مرض لا تكشف عنه الفحوص، وتعجز عن تفسيره الأرقام والإحصاءات. إنه حضور لا يغيب لحظة واحدة عن حياتنا الاجتماعية، نتقبله ونتعايش معه كما نتقبل الموت مصيراً لا مهرب منه، نرفضه ثم نتناساهquot;(ص14). وبحسب شرابي، هذا النظام يعيد إنتاج نفسه، لذا يبين في كتابه أن لدينا أبوية، وأبوية مستحدثة. فالمجتمعات العربية في القرن الأخير حاولت أن تحدّث القديم دون تغييره بالفعل!. أمّا في كتابه (النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب) فيذكر الدكتور إبراهيم الحيدري أن الثقافة تحت ظل هذا النظام هي quot;ثقافة مهجَّنة، وتستخدم كأداة خطابة وسيطرة وقمع، بدلاً من أن تكون أداة حوار وتفاهم وتواصل اجتماعي، لأن هدفها الأساسي ليس التنوير والتحليل والنقد، بل تثبيت علاقات القوة والسيطرة والخضوعquot;(ص323).

* * *
العلاقات الهرمية المبنية على علاقات القوة تمزق الفرد معنويا، وتُحيل إلى التهميش والدونية.. على سبيل المثال، نستطيع أن نتأمل البنية المعرفية في المجتمع. فالسيطرة الأبوية تبدأ من مراحل المدرسة المبكرة. فالمعلم وحده من يمتلك الإجابة الصحيحة الوحيدة، ولابد للطالب أن يمر عبر المعلم إن أراد تحصيل المعرفة!. هذا في الطريقة التعليمية، ناهيك عن ما يترافق معها من العقاب والتأديب المبالغ فيه. نجد هكذا أن نمط المعرفة لدينا ليس تبادلي، بل يسير باتجاه واحد. وهذا الاتجاه الأحادي قد يوجد عند معلم فرد، كما يوجد عند خطابات معرفية كبرى قد تسود المجتمع..! لقد قال السلف quot;لكي تعرف خطأ معلمك جالس غيرهquot; ونستطيع أن نطبق هذا على مستوى أي خطاب معرفي مسيطر. فلكي تطالع نقص خطاب ما وتقصيره لا بد أن تطلع على خطابات وآفاق أخرى.. هكذا لابد أن يكون المجتمع مفتوحاً لأكثر من خطاب حتى تميز الناس وتختار، وتتحرر من سلطة الخطاب الأحادي. يذكر الراحل فؤاد زكريا في كتابه (التفكير العلمي) أن أعدى أعداء المعرفة والعلم هو الخضوع لسلطة ما. يقول quot;إن العصور التي كانت السلطة فيها هي المرجع الأول والأخير في شؤون العلم والفكر كانت عصوراً متخلفة خلت من كل إبداع. ومن هنا أيضاً فإن عصور النهضة والتقدم كانت تجد لزاما عليها أن تحارب السلطة العقلية السائدة بقوة، ممهدة الأرض بذلك للابتكار والتجديدquot;(ص76). ويورد زكريا بعض العناصر التي تساعد على تخلل سلطة معرفية لدواخل المجتمع، مثل: أن يكون الرأي قديما ومألوفاً.. الانتشار والشيوع.. شهرة من يصدره.. وأيضاً الرغبة والتمني حيث يميل الناس لتصديق ودعم ما يريدون..

* * *
لم يكن الإسلام دينا سلطوياً.. لم يحمل هذا الدين إلى الإنسان قيم وثقافة الطاعة، والسيد والمسود.. هذا ما يؤكده محمد عابد الجابري في كتابه (العقل الأخلاقي العربي)، الذي يقدّم من خلاله دراسة تحليلية لنظم القيم في الثقافة العربية. يخبر الجابري أن القيم السلطوية الأبوية هي قيم (كسروية) تسربت إلى الثقافة الإسلامية العربية من الموروث الفارسي. انتقلت هذه المفاهيم منذ وقت هشام بن عبدالملك على يد عدد من الكتّاب الذين نقلوا المواريث الفارسية عن طريق أدب الترسل، ورسائل الملوك. فالملك (أردشير) هو المؤسس الفعلي للدولة الساسانية في بلاد فارس، وكان هو المرجع الأول والمثال النموذج الذي نبعت من عنده أخلاق الطاعة والقيم الكسروية التسلطية، عبر ما يعرف بوصيته التي عرّفت في كتب الأدب (بعهد أردشير). لقد نُقلت مع هذا المفهوم أخلاق الانقسام والطبقية، التي هيمنت هيمنة شبه تامة على الساحة الفكرية في الثقافة العربية. ومثال ذلك يتجلى في كتب تشي بالقيم السائدة هي من أمهات كتب الأدب العربي، مثل (العقد الفريد) و (كليلة ودمنة) و(المستطرف)، وكتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة الذي رتب أبوابه ترتيباً طبقياً يكرس نظاماً قيمياً معيناً. فيظهر فيه بوضوح الترتيب الكسروي الأبوي للقيم، حيث يتربع (السلطان) على قمة الهرم وأول أبواب الكتاب، وفي القاع، وآخر أبواب الكتاب يأتي (الطعام والنساء)، أو quot;الأطيبانquot; كما قالت العرب. والمرأة هنا quot;هي امرأة الفراش لا غيرquot;..! المركزية في الإسلام كانت ولا زالت (للإيمان والعمل الصالح). ولفظ الطاعة وما اشتق منه في القرآن ينصرف معناه دوماً إلى الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-. ومرة واحدة فقط أضيف (أولو الأمر)، وهي لهم ليست طاعة مطلقة بل طاعة تراض وتوافق، فإن حدث خلاف وجب الرد إلى الله والرسول كما هي تكملة الآية. في المقابل كانت هناك الإشارات القرآنية من مثل quot;كلا لا تطعهquot;،quot;فلا تطعهماquot;،quot;إنا أطعنا سادتنا وكبراءناquot;،quot;ولا تطيعوا أمر المسرفينquot;، quot;إن تطع أكثر من في الأرض يضلوكquot;... وغيرهما من الآيات التي تنهي عن سلوكيات الطاعة، وعن تجذيرها في المجتمع كثقافة بين الناس. هذه القيم الكسروية لم تُنقل كما هي، بل جرى لها تحوير وتعديل وألبست الثوب الإسلامي. أصبحت قيماً يعاد إنتاجها عبر العصور، وانتقلت من كونها كسروية لتصبح سلفية..!! إنها أخلاق وأدبيات متغلغلة في صلب مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولذلك لم ينهض العرب بحسب الجابري، فمدينتهم حتى اليوم لا تزال quot;مدينة الجبارين.quot;

* * *
قد يقول قائل، إذا لم يكن المجتمع (أبوياً) فماذا يكون (أمومياً)؟! نعم، ولم لا. يشير الحيدري في كتابه السالف إلى عدد من الدراسات الأثنوغرافية التي تبين أن المجتمعات الأمومية القديمة كانت مجتمعات ذات سلطة طبيعية، ومنظمة دون قهر، quot;كما أن التنظيم الداخلي فيها يقوم على انعدام السلطة، وذلك للمحافظة على القيادة الذاتية، والمساعدة الذاتية في نظام العشيرة.quot; المسألة هنا مسألةٌ رمزية.. فإن كان الأب رمزاً (للسلطة) فإن الأم رمز (للرعاية). لسنا بمحتاجين هنا إلى جدلية الذكر والأنثى، بقدر ما نحتاج إلى جدل السلطة والرعاية. فالمجتمع قد يُبنى على هذه أو تلك، تماماً كما هي الأسرة. فما هو العصب الذي نريدهُ كسندٍ لمجتمعاتنا، وما هي الروح التي نريدها أن تتنفسها؟!! هل هو نظام الأبوية الذي يضع أولويته للواجب والخوف والطاعة، أم نظام الأمومة الذي يضع المحبة والرعاية والسعادة في مرتبة أعلى منها ؟!! روح التسلط هي أعظم معضلة ثقافية عندنا. والممارسة الثقافية لا ينفع معها إلا ممارسة ثقافية مضادة. لذا من المهم أولاً أن نعترف بها، وأن ندركها ونلاحظها كمشكلة.. في المنزل والشارع والمدرسة والمؤسسة وفي كل مكان... يقول الكواكبي quot;وإذا سأل سائل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مسكت هو: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحدا، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبداً في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم، وحتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره. فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: lsquo;كما تكونوا يولى عليكم.rsquo;quot;

[email protected]