القبيلة السياسية هنا لا تعني القبيلة بمفهومها التقليدي، أي تلك الجماعة التي تعتمد على القرابة ووحدة النسب. ولكن تعني أي جماعة قد أخذت جوهر مفهوم القبيلة التقليدية، وهو (العصبية)، فأصبحت تترابط وتتحزم بهذا المفهوم، الذي يخنق الجماعة، ويخنق أفرادها معها. ومنذ القدم، ومن قبل أن يذكر ابن خلدون أن أوطاننا (كثيرة العصائب)، وحتى الآن، لازالت مختلف الجماعات تتناسل على أكثر من شكل وطريقة.. ولازالت ترتبط بهذا الرباط العصبي الذي يجعلها تُلزم أفرادها أن يكونوا معها على الخير والشر، فتنعدم في مثل هذه الدائرة قدرة الأفراد على التمييز والاختيار والتحرر، ومن ثم على المسؤولية أيضاً. ومفهوم العصبية كجوهر للقبيلة، وكأهم مكون داخلي فيها، لايزال ذلك المكوّن الثقافي العميق لدينا، حيث نعيد توليده وصياغته مع الأوضاع الجديدة، وأصبح التعصب والارتباط النكِد موجود في كل ناحية.. في أماكن العلم والعمل، وفي ساحات النقاش الفكري، والاجتماعي، والشرعي، والسياسي.. فمن يلزم طرف مجموعة لا يستطيع الفكاك عنها ومفارقة رأيها. أمّا لماذا مفهوم العصبية سلبي، فلأنه -وفي أحيان كثيرة- قد يكون عامل فرقة لا اجتماع. يقول شرابي في (النظام الأبوي، 47): quot;تكمن الدينامية البارزة للبنية القبلية في العصبية، وهذا منحى سلبي، إذ تقوم بادئ ذي بدء بالفصل بين الأنا والآخرين، ثم وعلى مستوى أعلى، تقسّم العالم إلى نصفين متعارضين، القرابة واللاقرابة، العشيرة والعشيرة المعادية لها، والإسلام واللا إسلام، وهكذا..quot;

* * *

إذن المفاهيم التقليدية العميقة والمتجذرة لدينا تعود للانصهار والبروز مجدداً عبر أشكال أكثر حداثة. الجماعات الكثيرة عملت على تطوير آلياتها وأدواتها، ووجدت في مفهوم العصبية خير معين لها.. فأصبحت الجماعات تمتص دماء أفرادها ودعمهم حين لا تقبل منهم أي رفض أو مغايرة أو تفرد، فمفهوم العصبية التقليدي والذي أعادت هذه الجماعات استنساخه لا يعرف التجزئة ولا النسبية. فالقبيلة بشكلها التقليدي وكما يعرف من آليتها الداخلية لا تعرف المعارضة، فمن يخالف يُستثنى من الكيان، وان دخلت في أمر ما فهي تدخله ككل، أو تخرج منه ككل. وعلى نفس المنوال، يكون هذا ما تطلبه الجماعات لدينا من أفرادها، حين لا تتيح أي مساحة معتبرة للأفراد داخلها. في حين أن كل موقف جديد يستلزم وقفة من الأفراد لتقييمه، فربما سايروا منطق الجماعة، وربما تخلوا عنه. فالموقف الفكري والإنساني يختلف عنه في العصبية التقليدية التي تتعاضد في الخطأ والصواب، وليس أيضاً بمشابه للتشجيع الرياضي حين يبقى الشخص مع فريقه في حال الفوز والهزيمة. ففي جانب الأفكار والمسائل العامة هناك آثار تترتب على القبول بالخطأ ودعمه عبر قبوله، فقط لأن الجماعة قد اختارته.

* * *

لايزال الفرد لدينا اليوم محتاجاً لأن يتزنر بجماعة.. والجماعة للأسف لا تستند على الفرد، وإنما تستند على حزمة أدبيات صادرة عن نخبها. والنخب كما هو معروف لديها لغة وثقافة تجعلها قادرة على وضع خطاب مصلحي، وعلى تجديد الخطابات بما يتناسق مع ما تريد، وإعادة نفس المفاهيم التي جعلتها نخباً في الأساس. ولذا عبر مثل هذه العملية، يصبح الفرد كائن غير مرئي، يقول ما ليس قوله، وينظر ما ليس نظره... لقد أصبحت مجتمعاتنا تتمحور وتتشكل عبر قطعان جماعية.. ترسم لنفسها قناعات وحدود صلدة، تحرم الفرد من الفهم والانفتاح والتحرر. فأصبح الفرد هكذا لا يستطيع الوقوف لوحده بأي حال من الأحوال، وبدون الاصطفاف والموالاة للجماعة ونخبتها، قد يحدث أن يشعر الفرد أنه صعلوك حيناً، أو كائن غير شرعي حيناً آخر، أو غير ذلك من الأحوال التي تضعف كيانه. وقد يقول قائل أن الجماعات تبدو بحال أفضل في وقتنا الحالي، والحقيقة أنه مع التطور التقني والانفتاح قد يكون الوضع أصعب. فالإنسان اليوم يجتمع مع من ما يريد بسهولة، ويعتاد زواياهم ومواقعهم.. وهذا التكتل للمجموعات الذي تخلقه التقنية، ومواقع الانترنت مثلا، قد يجعل الإنسان محصورا في البعد الواحد للجماعة. فإن كان لدى الإنسان نوعٌ من الميل إلى أدبيات جماعة ما، فإن الاحتكاك بها والعيش معها والصدور عن رأيها في كل مرة، سيجعل الإنسان محصوراً بها، وسيضاعف من شده ميله الذي قد يصبح تطرفاً. فقد أُغلقت عليه المنافذ والمداخل عبر رؤية الجماعة، وتلونت حياته بلونها. وعادة، المواقف والأحداث تقود الناس للتكتل والتجمع، مما يُفقد ميزة التعامل الفردي مع المواقف... ذكر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي انه كان ذات مرة في رحلة في القطار مع بعض طلبته، وكان هناك مجموعة من الجنود على نفس القطار، وحدث أن تشاجر أحد طلبته مع جندي، فيقول الوردي حينها تطور الصراع فوراً وتحول الجنود والطلبة إلى quot;قبيلة مقابل قبيلة.quot; وهذا الحادث البسيط يوضح كيف أن الموقف الفردي عادة لدينا لا يؤخذ على وضعه، بل يتم تضخيمه، ليأخذ حجم جماعة. ومثل هذا المشكلة التي حدثت مؤخراً بين جمهوري مصر والجزائر، فقد أريد لها أن تكون مشكلة بين شعب وشعب... أليس من المفترض أن تشارك (القبيلة) كلها..!!؟

* * *

ولابد أن نعرف أن هذا النقد هنا ليس موجه ضد الجماعة وعمل الجماعة، فالإسلام نفسه حين جاء لم يحارب منطق الجماعة المتمثل في التركيبة القبلية ولم يعمل على إزالتها وإنما عمل على محاربة خاصية التعصب فيها (دعوها فإنها منتنة). ولهذا، وعلى نفس المستوى، يفترض أن تواجه وتنتقد هذه الخاصية في الجماعات المختلفة اليوم. فخاصية التعصب تُسهّل على الأفراد الانجرار إلي الخطأ، وإلى قبوله حين تقبله الجماعة..

* * *

ويتحدث خلدون النقيب عن القبيلة السياسية كشكل من أشكال التنظيم الاجتماعي، وعن كونها حالة عقلية عامة تخصب الذاكرة الجماعية للمجموعة. وأيضاً عن كونها مفهوم تطوري يتناغم مع الأوضاع والحقائق الجديدة، حيث يرى في كتابه المهم (صراع القبلية والديمقراطية: حالة الكويت) أنها عصبية تتلون بألوان الطبقات والطوائف، وفي المدينة أو الريف. وأن هياكل النظم التقليدية لا تختفي، وإنما تعيد نفسها وتتطور عبر دورات تاريخية تأتي عبر أشكال غير محددة. ونستطيع هكذا أن نفسر العديد من الأحداث المستجدة لدينا من خلال هذا المفهوم (للتجمع)، والمتمثل في الترابط كما تترابط القبائل من أجل سياسة وغرض. حيث لازال المفهوم يعيد استنساخ نفسه، تبعاً لتأصله وتجذره العميق في ثقافتنا..

* * *

وأهمية الفردية داخل الكيانات والجماعات تكون بسبب أن الأفراد المتحررين هم أكثر من يستطيع إفادة هذه الكيانات نفسها، فهم القادرين على إحداث النقد والتغيير. فعبرهم تكون هذه الكيانات مفتوحة، وقادرة على التغيير والتواصل. وبدون هؤلاء الأفراد ستظل الجماعات مغلقة وحادة الصدام، مما يهدد المجتمعات التي تحتضن هذه الجماعات. وما يمثل تهديداً أيضاً لمفهوم الدولة القطرية، مثل ما حدث في السودان والعراق مروراً باليمن، وما هو كامن أيضاً في دول عربية أخرى. ولذا ينبه محمد جابر الأنصاري من أن تفتت واهتزاز مفهوم الدولة القطرية العربية الحديثة إن حدث، فإنما هو لصالح إعادة التكتلات التقليدية السابقة من طائفية وقبلية وجهوية.. تلك التي تكون مستعدة في أي لحظة لأن تتحزم كقبيلة.

* * *

ذكر المتخصصون في المجتمع المدني أن وحدة هذا المجتمع تكون الفرد. والانتقال للمجتمع المدني هو عين ما تحتاجه الدولة العربية، فبعد المدة الطويلة التي أنفقتها مجتمعاتنا العربية مع تجربة الدولة القطرية.. يحين التنبّه لأهمية أن يكون تأسُّسها الآن قائم على هذا النوع من المجتمع، وعلى الفرد. فالتأسس والاعتماد على التعصبات والجماعات التقليدية يعني أننا لم نغادر بعد المجتمع التقليدي، وعدم وجود مجتمع مدني عربي يجعل المشاكل تتكدس وتثقُل في وجه الحكومات، مما قد يقود للشقاق. وأُدرك أن بناء مجتمع مدني ليس من السهولة بمكان، فهو يحتاج إلى فترة تشرب وانفتاح وممارسة طويلة في المجتمعات العربية، لكن لنا أن نعرف أيضاً أن التوصل والمُضي إلى هكذا مجتمع يفترض أساساً أن يكون هناك احتياج ذاتي له، من قبل الأفراد الذين يستشعرونه كمعبّر عنهم، وكأداة لهم.. وهم بالطبع ليسوا أولئك الأفراد المُتحزمين بجماعة تغنيهم وهمياً عن الاحتياج له. واليوم، الكل يشتكي من ضعف الدول العربية في هذا الصراع الإقليمي المحتدم حولها، وهذا ناتج عن أنها لم تنسج مجتمعات قوية حقيقية من الداخل. هنا ندرك هذه النقطة المهمة التي نريدها هنا، وهي أن مسألة الأفراد كبُنَى للمجتمع تكون مسألة أولية. فهم أساس مثل هذا المجتمع، وهم وحدهم القادرين على إيجاده. فلم يحدث في التاريخ أن قامت حكومة ما ببناء مجتمع مدني... وأيضاً، الكيانات التقليدية الأخرى لم تفعل.
وكل عام وأنتم بخير،
[email protected]