عندما كتب برهان غليون كتابه (اغتيال العقل) جعل له عنواناً فرعياً (محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية). وهذا الكتاب قد كتبه الدكتور غليون قبل فترة طويلة، فالطبعة (السادسة) التي لدي قد طبعت في العام 1992، ومع هذا فهو من الكتب المركزية بالنسبة لي، فمنذ فترة طويلة وأنا أعود له من وقت لآخر، كونه كتاب يقدم عرضاً وتشريحاً ثرياً لقضية رئيسية وملحة لازالت قائمة، وهي عطالة العقل العربي وعدم قدرته على التوليد والإنتاج. وبمعني آخر خلّوه من الإبداع، مع أن الإبداع يفترض به أن يكون من أولى أولويات ووظائف أي عقل. وهذه المشكلة موضوع الكتاب هي مشكلة رئيسية، تتبع لها إلى حد كبير كل المشاكل الأخرى، فالفشل الحضاري يعني ببساطة الافتقار إلى الذات المنتجة. وبحسب الكاتب فإن التقليد مرفوض، فالإبداع يفترض أننا لن نجد quot;لا في الغرب ولا التراث الحلول الجاهزة لمشاكلناquot;(ص337). وعلى نفس المنوال يعلن محمد عابد الجابري في دراسته للعقل العربي أن العقل العربي عقل حاصد لا منتج. أي أنه عقل لايقف لوحده، بل يجني ما قدّم غيره، سواء كان الغربي أو السلفي. وفي كلا الحالتين يوجد نوع من الإلغاء للذات، والذات التي لا تستشعر ذاتها ولا تؤمن بثقل وجودها لا يمكن لها أن تكون ذاتاً مبدعة.

وتنوع مشارب الناس، وتنوع أطيافهم لدينا ليست بالمسألة التي يفترض التوقف عندها، من حيث أنها الوضع الطبيعي الذي لامحيد عن قبوله. وإدراك الحقيقة المقررة حول تنوع الناس وحق المختلفين في الوجود، وتجاوز مرحلة شطب الآخر وإلغائه، يقودنا للانتقال وتأمل ما يستحق التوقف عنده وهو مسألة الخمول والضعف وعدم القدرة على الإنتاج. وإلى السبب الذي يجعل الذات عقيمة لدينا -بمختلف تنوعاتها-. وهذه التنوعات للذات لدينا تتمدد بين قطبين رئيسيين هما السلفية والليبرالية. وما بينهما من مساحة لا تكاد تكون معبأة إلا بالسجال، والانشغال بالآخر بدلاً من الانشغال بالذات. والعقلية السجالية مثمرة ووّلادة في مجال الصراع والتشغيب، لكنها عقيمة في مجال الإنتاج والعطاء. وفيها الكثير من الضجيج لكن في آخر النهار لن تخرج منها بشيء. وعلى سبيل المثال أذكر أنّي تأملت مرة مع صديق المواضيع المكتوبة على الصفحة الأولى لأشهر منتدى ليبرالي سعودي وكانت أغلب المواضيع تدور حول التيار الديني، وصب النقد حوله وحول أفراده ومؤسساته. وكأن هذا التيار لا يتعرف على نفسه إلا من خلال انتقاده للآخر، أو من خلال إثبات أنه لا يلبس عباءته. وهذا أيضاً يؤكد الرؤية التي قال بها البعض وهي أنه حتى الآن لايوجد -شعبيا- وجود فعلي لتيار ليبرالي وإنما يوجد تيار كاره للتيار الديني وممارساته. والذي في صميم عمله مجرد نفي للآخر، ربما سينفي الآخر لكنه لن يجد نفسه. وغير هذا حتى كبار الكتاب من الليبرالين نجدهم ناشطين في تقديم مساحة واسعة من النقد، لكن واحدهم يعاني فقراً وشحاً في تقديم نفسه وما يمثله. أمّا بالنسبية للسلفية فنستطيع القول أن الثقافة العاجزة هي ثقافة مشغولة بالدفاع عن نفسها. السلفية نفسها الآن انقسمت وتوزعت إلى مذاهب شتى ينفي بعضها بعضا، قبل أن تنفي غيرها من خارج الإطار السلفي. أمّا بالنسبة للإنتاج فشحيح ومعدوم، فمفهوم السلفية نفسه يناقض القدرة على التوليد، مما يجعل السلفية تتغاضى عن النظر الحقيقي للمشكلات، وتقوم بتهميشها وتسطيحها. كما يوضح عبدالجواد ياسين في كتابه (السلطة في الإسلام) في أن حل المشكلة لدى السلفية يكون في إلغاء المشكلة.وتجاهل المشكلة - بالطبع - لن يلغي وجودها في الواقع.

وللتو انتهيت من كتاب (السلفية والليبرالية: اغتيال الإبداع في ثقافتنا العربية) للباحث والكاتب السعودي عبدالله البريدي. والكاتب متخصص في الدراسات الإبداعية. وكما هو العنوان نجد الكتاب متفحصاً ومتقصياً لضعف الإنتاج، وخمول القدرة الإبداعية لدى قطبي الفكر السلفي والليبرالي لدينا. ويرى الكاتب في دراسته أن كلا الطرفين مقلد، وملغ لذاته، فالفكر السلفي فكر (استرجاعي) لأنه يسترجع الأفكار والتطبيقات من مخزون السلف ولا يصنعها وفقاً للمستجدات والمتغيرات، بينما الفكر الليبرالي فكر (استحضاري) أي أنه يحضر التطبيقات الجاهزة من سلة المنجزات الغربية-كالنظريات والنماذج والمصطلحات-(ص 145). ويرى أيضاً أن السلفية مصطلح يفني نفسه بنفسه، فبحسب مفهوم السلفية فان أول شيء يجب طرحه هو مفهوم السلفية نفسه، حيث أنه مصطلح لم يكن موجوداً في صدر الإسلام. كما يرى أن أخطر ما في السلفية أنها تعمم الاستثناء، فتجلب من داخلها النموذج الاستثناء وتجعل منه الأصل، وتحاول تعميم نظرتها كطريق أوحد. إضافة لأنها مغيبة عن القضايا الكبرى- لا يوجد لديها إنتاج حيالها-، وتتشكل داخل إطار واحد، لكنه منمّط إلى درجة كبيرة. أمّا بالنسبة لليبرالية الموجودة الآن فلديها نوع من المائية في مفهومها، ممّا يولد لديها نقصاً في البناء والجانب التراكمي، حيث أن التراكمية شرط لأي فكر إنساني يريد أن يتطور (ص100). وهذا يؤدي بالليبرالي لاستبطان كم هائل من الأفكار والمفاهيم المتنوعة، مما جعل الليبرال يصدرون عن طرق موزعة لا تعرف بعضها. وشخصياً أعتقد أن الكاتب قد طلب من الليبرالية ما قد لا يطلب منها، حين أرادها أن تكون ذات تخوم كالمناهج الأخرى، بينما الليبرالية نفسها لديها قضية مع مسألة التخوم، وكما ذكر آخرون فان الليبرالية نفسها تستطيع أن تستبطن مناهج أخرى وتكون فاعلة من خلالها أيضاً!!. وعموماً من أهم العيوب التي يراها الباحث لدى الليبرالية أنها تجاهلت تحيزاتها وتحيزات الآخر. فمثلاً الدراسات الإستراتيجية المستقبلية لدينا في الغالب ذات طابع ومنهج غربي، وهذا يعني أنه كل ما اتسعت الليبرالية الموجودة لدينا بهذا الشكل كل ما ازداد اقتحام الذات الغربية لنا. وغير ذلك العقل الليبرالي يلتقط أذواقه ويعممها بدون معايير واضحة. وباختصار يرى الكاتب أن quot;العقل السلفي يقصر الدين ويضغطه لكي تنحسر فضاءاته الرحيبة فلا تسمح بالبدائل الممكنة من التطبيقات والممارسات غير السلفية، أمّا العقل الليبرالي فهو يمطط الدين لكي يكون متسامحاً بدرجة كافية لتمرير كافة الممارسات والتصرفات التي تستسيغها أذواقهم الليبرالية حتى لو كانت مخالفة للنصوص الشرعية القطعيةquot;(ص148). إن دلالة الفقر في العقل العربي اليوم تتجلى في كونه عقل غير منتج، فكما يشير الكتاب فان المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها العقل العربي اليوم إما مستوردة من الغرب أو من الماضي العربي القديم (ص175).

المعارك الوهمية تستنزف الطاقات والجهود، وتحقنها في شرايين وأودية غير مثمرة. وفي بلد كالسعودية تتصاعد فيه كل المؤشرات التنموية، كان من المفترض للطاقات الفكرية أن تتوالد، وأن تنتج المواقف والاستعدادات الجديدة، لا أن تظل الطاقات باذلة للجهد في كبح نفسها وغيرها. لقد استفحلت الصراعية وتحولت إلى هدف بحد ذاتها، في غرف العلم والمدارس والندوات ووسائل الإعلام وغيرها. والثقافة الصراعية لا تقتصر مشكلتها على نفسها بل تتعدى إلى ما هو أبعد، فالمغانم المدنية للمجتمع قد تتضرر إلى حد كبير. فربما تتحقق أو تكاد تتحقق للمجتمع خدمة جديدة، ولكنها تذهب تحت الأقدام في مثل هكذا صراع، فهذا التيار أو ذاك قد يعتبرها قادمة من قبل جهة التيار المغاير، وبدعم وتخطيط منه، ولا يحسب حساب أن هذه الخدمة أو الوظيفة قد تولدت نتيجة رغبة قطاع من المجتمع بها. ومن الوسائل الصراعية المستخدمة، التهييج الشعبي واستعداء السلطات على التيار الآخر.

إن التخندق والتمسك الصلب بالأُطر الفكرية لا يستطيع إثارة الطلاقة والمرونة ومن ثم الإبداع. أذكر أن أحد أساتذتي كانت تكرر على مسامعي quot;احذر أن تتزوج فكرتك!!.quot; وكان مقصدها أننا عندما نهم بكتابة وبحث موضوع ما، فإن الالتصاق والارتباط بفكرة ما قد يضر أكثر مما ينفع، فالفكرة والانطباع المسبق قد يسيطران على البحث ويوجهانه، فتكون بذا نقطة نهاية البحث هي تقريبا نفس نقطة بدايته. إن الواقع متجدد والإشكالات متجددة، ولا يوجد فكر فاعل إلا إذا كان فكراً متجدداً أيضاً. ومن هنا نحن بحاجة فعلية للباحث المبدع المتجرد، فهو من يستطيع جلب المساحات والآفاق الثقافية والفكرية الجديدة، والتي يتأتّى من خلالها التوليد والإنتاج. والذات الإبداعية ذات ترتكز على نفسها لا على المغايرة، وفي كل موقف تعيد تجريد نفسها من جديد، فهي قد تتموضع بطرق مختلفة، في إدراك وإحاطة ذكية لما تتطلبه المواقف المتنوعة. والذات المبدعة ذات خفيفة التنقل، كأنها مصبوغة بخفة الشعراء وانطلاقهم، في أمر مشابه لما أشار إليه الشاعر الفيلسوف رالف والدو امرسون -الذي كان مؤمناً بقدرة الإنسان على الإبداع- حين قال quot;هب أنك ناقضت نفسك.. فماذا وراء ذلك؟! انطق ما تفكر فيه الآن بألفاظ قوية، وانطق غداً بما تفكر فيه بألفاظ قوية كذلك، حتى لو ناقض ذلك كل ما قلته اليوم..!!quot; وتغير الفكر أو نموه وتمرحله ليس ترفاً، بقدر ما هو حاجة. بل الترف واللامبالاة تكون من نصيب من يتصلب على فكره ومنهجه، معتبراً أن هذا المنهج وحده سيجلب له العالم بين يديه.

الموضوع ممتد، ومتشعب، وأكبر من أن يحتضنه مقال، أو مطارحة ساعة، لكن ما يكفينا من هنا هو أن ندرك أهمية الاتفاق على رفض التقليد، وأن نعرف حقيقة مهمة وهي أنه لن يمكن لمجتمع أو لأمّة أن تحلّق من مكانها ما لم يتوفر لأفرادها القدرة على تحقيق الأصالة، والتفرد في فكرهم. أختم بمقولة لأحد المفكرين القدماء، لعلنا نتفكر كيف أنه من المخجل أن يكون نصيبنا من زماننا التأخر. يقول ابن المقفع quot;لو أتيت السوق بدراهمك تشتري بعض السلع، فأتاك الرجل من أصحاب السلع، ودعاك إلى ما عنده وحلف لك أنه ليس في السوق شيء أفضل مما دعاك إليه، لكرهت أن تصدّقه، وخفت الغبن والخديعة، ورأيت ذلك ضعفاً وعجزاً منك حتى تختار على بصرك وتستعين بمن رجوت عنده معونة ونصرا.quot;

[email protected]