قبل فترة كنت أتصفح العدد الخاص لمجلة (The Progressive) الأميركية، بمناسبة مرور مائة عام على صدورها (1909-2009). وفي هذا العدد يوجد استعراض مختصر لأهم المقالات والأفكار التي وردت على صفحاتها طوال هذه المدة، ولفت انتباهي مقال سياسي كتب في العام 1982، يخبر صاحبه أن الكيان الإسرائيلي فرح بولادة تنظيم سياسي فلسطيني جديد اسمه (حماس). حيث كانت إسرائيل ترى أن هذا التنظيم الجديد سيكون أمامها خصماً لاعقلانياً ولا مفاوضاً، مما سيبعثر القضية الفلسطينية، ويجعل اسرائيل مرتاحة، فتكون فيما بعد قادرة على نسج نول القضية الفلسطينية على ما تشتهي. فهل هذا صحيح؟!! أم أن الشواهد بمرور الزمن تخبر أن تلك القوة الجديدة قد أمسكت القضية بصلابة أكثر مما فعل غيرها، وجعلت الوضع على إسرائيل أصعب بمراحل من سابقه؟!! فعوضاً عن أن تكون مجرد كيان مشاغب أصبحت هذه القوة، جهة نضال اجتماعي وسياسي معتبر، فنفَس المقاومة التي تعبّر عنه، هو ترجمة شبه مباشرة للنفّس الشعبي والسائد في العالم الإسلامي ردّاً على منطق الكيان الإسرائيلي الذي لا يزداد إلا تطرفاً.
وحماس اليوم تمثًل طرفاً سياسياً صلباً ليس فقط في شرعية وأهلية وجوده، بل أيضاً في أهلية (مفاوضاته). فحماس الآن تفاوض على دولة في حدود الـ 67 ، وهو موقف الدول العربية، وأيضاً موقف الغرب حيث أعلنت أميركا دعمها للمبادرة العربية. ومعروف أن حماس تتصف بالممانعة القوية وهو ما جعلها تدفع الكثير، لكنها أيضاً نجحت في إبداء مرونتها، حين أعلن قادة حماس سابقاً أن دستور الحركة ليس بقرآن ويمكن تغييره، وفي شهر مايو أعلن خالد مشعل في تصريح للنيويورك تايمز أن حماس لا تريد إلا دولة في حدود 67. وهكذا استطاعت حماس أن تطرح نفسها من جديد بمرونة، بينما كيان إسرائيل لايزال يخندق نفسه ويتجه إلى نقاطه الميتة مرة بعد مرة، فقد عاد لاشتراط يهودية الدولة، كما انه مستمر في توسيع استيطانه. العالم بما فيه الفلسطينيون والعرب وأميركا يغازلون الموقف الوسط، لقد اتجهت حماس إلى الوسط بينما اتجهت إسرائيل كعادتها إلى الطرف. والمنطق المغرور الذي يَفترض أن يأتي العالم معه إلى طرفه، يُفني نفسه بنفسه.
في أول أسبوع من دخول إدارة أوباما للبيت الأبيض، كان من أول ما قامت به، الهجوم الضاري على كرزاي وإدارته في أفغانستان، الذي رد بالتصريح أنه مذهول من كل ذلك الهجوم القاسي. فإدارة أوباما كانت كما يبدو عازمة على عدم تكرار الأخطاء، وتعلم جيداً أن كرزاي وإدارته قد أمضوا سبع سنوات في الحكم الفاسد وسرقة البلد، ولم يكونوا أبداً ممثلين لشعبهم (ولو في مستوى معقول). وذكرت بعض الصحف الأجنبية والعربية هذا الأسبوع أن هناك اجتماعات سرية تعقد في جنيف بين مسؤول أميركي سابق وحماس. وما يفيده هذا الأمر هو أن الإدارة الأميركية لم تكن تريد أن تقوم بهذا الموقف صراحة لكي لاتناقض سابق كلامها، لكنها تعلم أنها لا تستطيع الاستغناء عن الاجتماع مع حماس. قبل سنوات كان الرئيس الروسي بوتين (وحيداً) يحذر الساسة من تجاهل حماس، الآن لا أحد يفكر في تجاهلها.
هذا النجاح في التحول من تنظيم مقاومة، إلى قوة اجتماعية، ومن ثم سياسية، أمر أثار الاستغراب حول العالم. لذا سألوا أحد المحللين: هل يمكن لتنظيم أتهم بالإرهاب والتفجير أن يتحول إلى كيان سياسي له اعتباره في العالم؟ فأجاب: نعم، بالتأكيد. لا تنسوا أن بيجين ورابين وعرفات قد مروا من نفس هذا الطريق.
ودرس حماس درس مفيد ومهم للحكومات والأحزاب والقوى والحركات الاجتماعية والسياسية. فالسبب الرئيس خلف قوة حماس هو أنها نجحت في أن تكون ممثلة ومعبّرة عن القطاع الأكبر من الجموع. ومن يكن خير ترجمان عن الجموع لا أحد يستطيع اقتلاعه لأن اقتلاعه يتطلب المرور من خلال هذه الجموع نفسها. وهناك مساحة للتأُثير المتبادل بين المجتمع وأي مؤسسة تتعاطى معه، فهي قد تحاول التأثير ونقله معها إلى مساحات جديدة، لكن في النهاية لا تستطيع أن تباعد نفسها عن وقع خطواته. إن فعلت، هي الخاسرة بالتأكيد. لقد نجحت حماس في البقاء..! نجحت في أن تظل عائمة تتماوج على صفحة الزمن رغم كل ما مرت به من مصاعب وأهوال. وقد كتب الباحثان الاسرائيليان شاؤول مشعال وابراهام سيلع كتابهما (عصر حماس) والذي تعقبا فيه الكثير من العقبات والمعضلات -الداخلية خصوصا- التي مرت بحماس، والتي كانت كل واحدة منهما كفيلة بإنها الحركة، لكن الحركة نجحت مراراً في التكيف وتعديل نفسها والعودة بشكل أٌقوى. علماً أن الكتاب كتب قبل سنوات وقبل أن تبدأ حماس ظهورها وتأثيرها السياسي. ومما يذكره المؤلفان هو أن هذه الحركة قد انغرست عميقاً داخل المجتمع الفلسطيني، ونجحت في التغلغل داخل كل أطياف المجتمع الفلسطيني، عند المثقف والأكاديمي والتاجر والمزارع وغيرهم، وقد نالت أيضاً تأييد المسيحيين الفلسطينيين لأنها -بحسبهم- حركة صاحبة وجدان وإحساس اجتماعي وتتميز بنشاطاتها المتنوعة والواسعة. مما يعني أنها قد ارتكزت داخلياَ قبل ظهورها للخارج، وهو ما جعلها في موقف قوي، وصعّب أمر إزالتها.
اقرأ الآن في كتاب (أقتلوا خالد: فشل الموساد في اغتيال خالد مشعل وظهور حماس)، وهو كتاب صدر حديثاً في الولايات المتحدة، للكاتب والصحفي بول ماكجوف. وفي هذا الكتاب يتعرض الكاتب بالتفصيل لمحاولة الاغتيال الفاشلة التي قام بها الموساد لخالد مشعل في عمان عام 1997، مدرجاً للعديد من المقابلات الشخصية، وناقلاً عن الكثير ممن تلامسوا مع تلك القضية بطريقة أو بأخرى. وملخص هذه القصة لمن لا يعرفها هو أن عملاء الموساد قد تخفوا في الشارع كسياح وقاموا بسكب غاز الأعصاب في إذن مشعل، وحسب خطتهم كان المفترض أن يموت خلال 24 ساعة. أزمة سياسية كادت أن تنفجر فوراً بين الأردن وأميركا وإسرائيل وكندا، فاثنان من منفذي العملية تم القبض عليهما، وهما يحملان جوازات سفر كندية مزورة، وقد حوصرت السفارة الإسرائيلية التي اختبأ فيها بقية المهاجمين، والملك الراحل حسين هدد بقطع العلاقات وقام بالضغط على كلنتون الذي قام بدوره بالضغط على رئيس الوزراء نتنياهو الذي وجد نفسه وحكومته مجبرين على إرسال اللقاح المضاد لذلك السم الذي لم يكن يعرفه أحد سواهم. حدث كل هذا بينما خالد مشعل تزداد حالته سوءاً في المستشفى، وقد فقد الوعي تدريجياً. وصدور هذا الكتاب الآن له توقيته المهم، بعد أن عاد نتنياهو إلى الرئاسة، وبعد أن عادت حماس في عينه بأصعب مما كانت سابقاً، فوزنها في السابق كقوة مقاومة، لا يساوي وزنها الآن كقوة سياسية، وخالد مشعل كعضو نشط في تلك الفترة السابقة لا يماثل حاله الآن كقائد سياسي. وفي هذا الكتاب يجيب الكاتب عن السؤال الذي طرحته في بداية هذا المقال، فيقول أن إسرائيل قد أخطأت في قراءة الوضع حين كانت لا مبالية، أو ربما فرحة بالتنظيم الإسلامي الجديد (1).
ما يمكن أن نستفيده هنا هو أن نعلم أن الجموع حين تؤمن بشيء فليس لقوة أن تأخذ ذلك منهم. والمجتمع له ثقافته وتوجهاته التي أحتضنها بعد أن قَدمت إليه عبر مساربها الطبيعية. نعم هناك مداخل يمكن من خلالها التأثير على المجتمع، لكن في النهاية لا يفترض أن يُنكر على مجتمع ما طبيعته. وهناك فرق بين الإنكار على بعض التصرفات التي قد تنتجها ثقافة ما، ومحاولة نسف الثقافة نفسها... فلا أحد يملك الحق في مثل هذا التجاوز. مثال على ذلك، تباكي البعض اليوم على ما يسمونه (بأسلمة مصر!!). أليس عبثاً أن ينادي أحدهم بفرعونية مصر، مع أن الثقافة الفرعونية اليوم تتواجد في المكتبات والمتاحف، ولا توجد في حياة الشعب، كما هو حال ثقافتهم الإسلامية التي تروج بكل حيوية في عالمهم اليوم؟!!.
أذكر محاضرة ألقاها الشيخ مصطفى تسيريتش مفتي ورئيس هيئة علماء البوسنة في جامعة واشنطن الأميركية. بالكاد وجدنا مكاناً في المدرج المكتظ بالمئات، ممن يهمهم الاستماع لما سيقوله القائد الروحي لشعب مسلم في قلب أوروبا. كان الشيخ كبيراً في السن، لكنه ألقى كلمته بانجليزية طلقة، وكانت له روح مرحة أضفت إطلالتها على الجو الذي توتره عادة بعض المواضع الحساسة في الحديث. كان كلامه كالنور يتساقط هنا وهناك. ومما قال quot;اسمع كثيراً أن الإسلام قد انتشر بالسيف. دعوني أسألكم هذا السؤال: إذا كنا قد دخلنا الإسلام في السابق بسبب السيف، فما الذي يمنعنا من الخروج منه الآن، ما دامت لا توجد هناك أي سيوف؟!!quot; ولفتة الشيخ الذكية هنا تعلن أن الإسلام بالنسبة له ولشعبه دين وثقافة حيوية، فهم يعيشونه ويحيونه ويختارونه ولذا هو باق معهم.
لقد أحسن خالد المشعل حين قال بعد تعرضه لحادثة الاغتيال أن من يكتب تاريخ استشهادي هو الله وليس عملاء الموساد. ولنا أن نعلم أيضاً أن المجتمع أو ثقافة المجتمع والصور التي يمثلها لا تموت عبر النوايا والجهود المضادة من قبل المؤسسات والأفراد، فلها سننها الطبيعية التي تأتي وتذهب عبرها.
(1 1- Paul McGeough. 2009. ldquo;Kill Khalid: The Failed Assassination of Khalid Mishal and the Rise of Hamas.rdquo; New Press. P.43.
التعليقات