الأفكار مثل البشر من الممكن أن تألف وتؤلف نتيجة الاقتراب منها والتعرف عليها. وكان قدر المثقف أن يكون الأكثر قدرة على الاقتراب من الأفكار على تنوعاتها، فمفردة المثقف تعود لغوياً إلى جذر (ثقف) وهو يدل على أخذ الشيء والظفر به. وهذا ينطبق على ما يمارسه مع الأفكار، حيث يكون الأقدر على تمييزها وألفتها والأخذ منها، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. ومن هنا كان هناك قدر آخر ينتظر المثقف كونه قريباً من الأفكار، وهو أن يكون متهماً في عين من لا يقتربون منها. والتهم والرزايا التي تحفّ المثقف في عالمنا العربي كثيرة، ومن أبرز هذه التهم والتي تَروج على مستوى شعبي اليوم تهمة أنه (شهواني) متبع لهواه.

* * *
وهذه التهمة لا تدع مجالاً للاعتقاد أن صاحب الرأي المخالف قد اتبع هذا الرأي عن قناعة واعتقاد. فمهاجمة الشخص ليست إلا هروب عن مدار الفكر نفسه، ونسف لفكرة الحوار والتقبّل من الأساس. وعدم اقتناع أن مستوى الصحة والمفاضلة بين الأفكار قد يكون ذا مستوى نسبي، بل يكون الاعتقاد أن الفكر إما باطل أو صحيح. وقد راج استعمال هذه التهمة حتى أصبح من السهل أن تجد الاتهام ضد مفكر أو مثقف كبير في السن، قد تدلّت رجلاه إلى القبر، أنه يفعل ما يفعل ويقول ما يقول إتباعا لشهوته وإرضاءاً لنزواته.

* * *
وهناك الكثير ممن يدّعون الحوار ويزعمونه، ولكن حين نأتي إلى الممارسة والتجربة الحقيقية، فتوزيع الاتهام والتخلص من المخالف هو الموجود في العمق. ولنتأمل ما حصل في الجدل الفكري الأخير الذي دار حول جامعة الملك عبدالله، فما كان موجوداً على الساحة لم يكن رأي مقابل رأي، بل اتهام مقابل اتهام. وفي حفلة الاتهامات هذه، عادة ما ينال المثقف النصيب الأكبر. فالمثقف لدينا -ونوعاً ما- فاقدٌ للامتداد الشعبي الذي قد يساعد في شَرعنة آراءه، وإعطائها أهلية الحضور، فكان هكذا أجرد الصدر أمام الهجوم عليه، فلا درعٌ ولا وِجاء. وهذه التهمة (الأبرز) التي راجت ضد المثقف، قد أتت من العقلية الفقهية (القياسية) والتي تسربت شعبياً في العقود الأخيرة. ومن المعروف أن العقلية الفقهية تقيس عبر منظور الحلال والحرام، وهكذا أصبح ينظر للفكر والرأي من هذا المنظور أنه إما حلال أو حرام. والحرام كما هو معروف مرتبط بالشهوة دائماً، ولذا ربط الفكر وصاحب الفكر بالشهوة، بعد أن تم تحريمهما أولاً.

* * *
وذكر أحد الباحثين أن أبي العلاء المعري قد مثّل صدمة لرجال الدين في زمانه. فقد كان المفهوم السائد لديهم عن المخالف أنه يرفض بضاعتهم وأقوالهم لأنه متبع لشهوته. لكن المعري كسر هذه الفرضية، فقد كان شخصاً رافضاً لما لديهم، وصاحب نقد لاذع وسليط على ممارسات رجال الدين التي كثيراً ما قد تأخذ شكلاً منحرفاً عن جوهر التدين الحقيقي. وفي نفس الوقت كان زاهداً لا يأكل اللحم، ولا يأكل إلا شيئاً بسيطاً مما تنبت الأرض، وعاش بانفراد وزهد، مما جعل آراءه ومكنوناته تأتي مجردة من التكلف والمداراة، وانتقاداته تكون صادقة ومؤثرة، فتبقى ما شاء الله لها أن تبقى. لقد كانت الرؤية القديمة-الجديدة لدى رجال الدين أن المخالف لهم لا يسعه الخلاف !! وكأن آرائهم ليست ضيقة، ولا تقليدية، ولا تخطئ أو ترتبك. لقد كانت ميزة الرفض لدى المعري، وما جعل أٌقواله باقية بغض النظر عن صحتها من عدمه، أنه عبّر عنها فلسفياً وأدبياً. ومن هنا فإن أي فعل نقد ومغايرة يكتسب شرعيته حين يعبّر عن نفسه، ويكون مسنوداً بتشخيص تابعٍ له، فيُرفض أو يُقبل تبعاً لهذا الإسناد الذي معه. وهذا هو المعيار الذي يفترض أن يحاكم إليه المثقف أو أي أحد، وليس الانطباعات عنه.

* * *
والمثقف كإنسان قد يحدث أن يكون شهوانياً، مثلما قد يحدث ذلك لأي إنسان آخر بمن فيهم رجل الدين. ولكن إذا كان المدر مدار فكر، فإن ما يهم هنا هو (الشهوة الفكرية) فهي تؤثر بشكل مباشر أكثر من أنواع الشهوات الأخرى التي قد لا يكون لها تأثير على الفكر. وعندما أقول الشهوة الفكرية، أٌقصد من لديه (مثال ذهني) يريد أن يقايس عليه كل شيء، أو بمعنى آخر من يكون لديه (أيدلوجية) يكون مستعداً لإلغاء الواقع، وإنكاره، وتحطيمه، وتحطيم كل بعد فكري آخر من أجلها. وهنا نستطيع أن نقف ونسأل: من هو (الشهواني) فعلاً؟ هل هو من يتخلى عن شهوته الفكرية محاولاً تعقّب الحقائق وتأملها، أم من يتمسك بصلابة بتلك الشهوة الفكرية والمنحى الفكري الذي لديه متجاهلاً كل ما عداها؟!! إن قدرة المثقف على تعقب الأفكار والاقتراب منها جعلته الأقرب إلى الواقع. والواقع كان ولازال أكثر (الأفكار) عملية وحيوية، فهو المعيار الذي يفترض أن تتأسس عليه الأفكار وتنطلق منه. ولذا كان النموذج الناجح من المثقف، ذلك الإنسان الذي يحيا أفكاره، ويكون الأقرب إلى الواقع على شروطه، كشروط لابد أن يقبل بها الفكر نفسه ليكون واقعياً وحقيقياً. مثلما فعل روسو حين حاز شهرته المفاجئة، بعد أن نال الجائزة الشهيرة في مقاله الذي دافع فيه عن الإنسان الطبيعي، فتخلى عن عمله لدى أسرة غنية، وعن لبس الجوارب البيضاء، والرباط الذهبي، من أجل أن يعيش وفق قناعاته التي وضعها في المقال عن أفضلية العيش ببساطة وعفوية واقعية. أمّا أورويل فقد تحسس هذه الواقعية قبل شهرته بفترة طويلة. حين عاد من بورما وترك وظيفته العسكرية، ليعيش بين أحياء لندن وباريس في أجواء مفعمة بالبساطة والواقعية؛ كانت ملهمة لأعماله فيما بعد.

* * *
وهذه الطريقة في الاتهام ليست إلا وسيلة إكراه واستقصاء في اللوم. إضافة إلى أن لعبة المحاكمة وتجريم المختلف تحمل في مضمونها معنى أن المحاكِم أفضَل وأنبل وأقدر من المحاكَم... ولا يوجد شهوة نفسية أعظم من لعب دور الإله في الأرض، ومحاكمة الآخرين ومساءلتهم. وهذا الاتهام بالشهوة ليس إلا اتهام من عدة اتهامات ومحاكمات أخرى متعددة، تبدأ من الاتهام بالهوى، وتنتهي بالتكفير والإخراج من الملّة. وينبّه المفكر السوري جودت سعيد أن التكفير لم يرد في الحديث إلا كوصف لسلوك (من ترك الصلاة فقد كفر)، ولم يكن تجاه العوارض الفكرية المختلفة، فحتى الشبهات والوسوسة وصفت بأنها محض إيمان كما جاء في صحيح مسلم. ومسألة محاكمة شخص لشخص آخر، مسألة منهكة ومتعبة، وإن وجدت فهي قد تصل إلى مراحل سيئة لا يعلم أحد مداها. ولا يوجد تفويض إلهي لشخص أن يصدر بياناً عن دين شخص آخر، أو تقييماً عن صلاحيته كمؤمن..!! ولذا حين أسلم روجيه جارودي قال مخاطباً المسلمين، نعم أنا أسلمت، ومع ذلك لازلت على مبادئي السابقة.. معلناً أنه لا ينتظر تقييماً منهم لما لديه. وأيضاً عبدالرحمن بدوي، كما يذكر عنه أحد تلاميذه، لم يكن يجد تناقضاً بين وجوديته ودينه. ولذا استغرب الكثير حين وجدوه يكتب مدافعاً عن الإسلام. إن غير واحدٍ من علماء السلف قد ندموا على الوقوع في مزلق الاتهام والتكفير، ولذا قد قالوا لمن حولهم في أواخر أعمارهم أن يشهدوا أنهم يموتون وهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة.

* * *
يجب أن نعرف أن إحدى الأسس التي يبنى عليها الحوار، هي معرفة أن الطرف الآخر (آخر)، وأنه قد يمتلك رأي وطريقة نظر مختلفة للأمور. فلم يكن للحوار أن يكون تلك الآلة أو الأداة التي يفترض لها أن تجعل الآخر يلبس ثوبك، ويقول ما تقول. وأن تعتبر أن محاورك يقول ما يقول عن قناعة واعتقاد، فهذه خطوة أولية في الحوار تقودك لاحترامه ورؤية وتأمّل ما يقول.. أما اعتبار رأيه مجرد شهوة، وهوى، فهذا تسفيه وإلغاء، ولا يدل على حوار، بل على ذهنية أبوية تسلطية تسود لدينا في كل مكان. وهي ذهنية قال عنها هشام شرابي في كتابه (النظام الأبوي) quot;ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوباً لفرض سيطرتها. إنها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشك ولا تقر بإمكانية إعادة النظر. ومن هذا المنطلق، فإن التفاعل والحوار بين (الأفراد والجماعات) لا يرمي إلى التوصل إلى تفاهم أو اتفاق بين وجهتي نظر، بل إلى إظهار الحقيقة الواحدة، وتأكيد انتصارها على كل وجهات النظر الأخرى...quot;(ص 16).

[email protected]