بحسب إحدى المجلات المتخصصة اعتبر الفلم الإيطالي الكلاسيكي (سارق الدراجة) والذي أنتج عام 1948، من أفضل عشرة أفلام في التاريخ. ومشاهدة الفلم تخبر أن الفلم بسيط، يحكي قصة عادية جداً عن رجل سرقت دراجته التي لا يستطيع أن يعمل دونها. ويزول الاستغراب تجاه بروز هذا العمل الفني، حين ندرك أن مخرج الفلم كان قد قال مسبقاً أننا نريد في هذا الفلم التعبير عن موضوع عادي، بسيط، يحدث لكل أحد، ولم نرد البحث عن قصص غير مألوفة، ولا حكايات مذهلة. لقد أراد المخرج البحث عن الأشياء الصغيرة المألوفة، التي تصنع الحياة، ولا يتنبّه لها أحد، فالحياة هي الأشياء المألوفة التي تحدث لنا، وليست تلك الأشياء الاستثناء. ولذا كانت قوة الفلم تكمن تماما في ما قد يحسب أنه نقطة ضعفه، في الشيء العادي، والشيء الطبيعي في أكثر درجات تمظهره. وهكذا كان الفلم ممثلاً قوياً للتيار الواقعي الجديد، حين نجح في تصوير الوضع الاقتصادي السيئ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية عبر حكاية بسيطة.
للأشياء الصغيرة دور أكبر مما نظن. الأشياء الصغيرة هي الجواب دوماً مهما تنوعت الأسئلة، وإدراكها إدراك للكل، فالعناية بشيء تبدأ من أشياءه الصغيرة وتنتهي إليها، فالأشياء الكبيرة في النهاية لا تملك إلا أن تأتي على رَتمها ووقعها. والكل يأخذ روحه من أجزاءه، لذا من لامس الأجزاء الصغيرة من شيء فقد لامس جوهره. وقد قال أحد الحكماء quot;كل الأشياء العظيمة التي حدثت في العالم إنما حدثت على طريقة النمل شيئاً فشيئاً.quot; ويعجب العالم من اليابان، وإتقان اليابانيين وإبداعهم. ولو تأملنا لوجدنا أن لديهم ولع بالأشياء الصغيرة ليس لدى غيرهم. فعلى سبيل المثال، شرب الشاي ليس بأمر عابر لديهم، فلديهم طقوسهم الخاصة المتعلقة بطريقة الجلوس لشربه. وعناية الفرد أو الجماعة بسلوك صغير كهذا السلوك، قد ينتقل معهم بكل زخم رمزيته، ليكون محرضاً وجالباً للعناية في حقول ومستويات أخرى متعددة. وفي مقابل ذلك حين يكثر التفريط لدى قوم، ونجدهم يكثرون من التجاهل والتسطيح للعديد من الأشياء، لأنهم يهجسون دوماً بالقضايا الكبرى، ومشغولون بهموم ثقيلة، تجعلهم لا يلقون بالاً لبقية الأشياء، فيخرجون في النهاية بلا مكسب ولا مغنم، لأن طريق الأشياء الكبيرة ليس مُعبّداً إلا بتلك الصغيرة. ويذكر المؤرخ توينبي أن الناس لا يلاحظون المنحنيات التاريخية، لأنها تحدث عبر حوادث وأحوال صغيرة، ولا يتنبّه لها الناس إلا بعد أن يكون التاريخ قد قال كلمته. وفي كتابه (في مهب المعركة) قال المفكر مالك بن نبي quot;التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى للكلمة، الواجبات الخاصة بكل يوم، بكل ساعة، بكل دقيقة، لا في معناها المعقد، كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء، وشعارات كاذبة يعطلون بها التاريخ، بدعوى أنهم ينتظرون الساعات الخطيرة، والمعجزات الكبيرة.quot;(ص 78).
لقد كان التاريخ ولفترة طويلة تاريخاً يكتب الأشياء الكبيرة، كان تاريخاً عن الأمم والملوك والدول. وبهذه الطريقة كان متجاهلاً للناس؛ جوهر التاريخ نفسه. يذكر عبدالرحمن بدوي في (النقد التاريخي) أن التاريخ في مجمله كان سياسياً حتى القرن الثامن عشر حين تنبه فلاسفة عصر التنوير لأهمية تأرخة أحوال الناس وعاداتهم (ص،235). ومن الأمثلة الجميلة هنا كتاب (التاريخ الشعبي للولايات المتحدة) للمؤرخ الأميركي هوارد زن، وهو الكتاب الذي يعتبر الأكثر مبيعاً عن تاريخ أميركا. وفي هذا الكتاب قدم زن عرضاً للتاريخ عبر وجهات نظر مطمورة، وأصوات غير مسموعة، تجاهلها الكثير من المؤرخين. يقول زن في بداية كتابه quot;وجهة نظري في تاريخ الولايات المتحدة مختلفة، لا يجب أن نقبل تاريخ الدول كتاريخ لنا، فتاريخ الدول منفصل عن تاريخ الناس... إن التاريخ المكتوب للدول، يخفي الصراع الاستغلالي الرهيب الذي تم بين المنتصر والمهزوم، بين السادة والعبيد، بين الرأسماليين والعمال، بين المهيمن والمُهيمَن عليه من المضطهدين بسبب الجنس أو العرق... وفي هكذا عالم من الصراع بين الجلاد والضحية، تكون وظيفة أهل الفكر، ألا يكونوا في جانب الجلادquot;(ص،10). ولذا كان تاريخ هوارد زن ملامساً لجوهر التاريخ، حين لامس الأشياء الصغيرة، وكتب التاريخ من وجهة نظر العبيد، والملونين، والمرأة، والعمال، والمزارعين، والخاضعين على مختلف تنوعاتهم. وحين اصطاد تلك الرؤى الصغيرة المطمورة، في عوالم الاحتلال، والاستغلال، والعنف، والجوع، والقهر، والغضب.
وأيضاً علم الاجتماع لا تتكون مادته الحقيقة من تلك النظريات والأُطر العلمية الضخمة، فمادته الحقيقية هي الشارع، والإنسان العادي في كل مظاهره البسيطة. يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص6): quot;علم الاجتماع بطبيعته متواضع، يستمد أكثر معلوماته من السوقة، ومن السفلة، والمجرمين، والغوغاء. فهؤلاء بمنابزاتهم ومفاخراتهم، وبتعاونهم وتنازعهم، يمثلون القيم الاجتماعية السائدة أصدق تمثيل.quot; ولذا نجح الوردي في ملامسة جوهر علم الاجتماع حين نجح في ملامسة مظاهره البسيطة، حين كتب عن العيارين والشحاتين والسوقة والدهماء والسادة والراعي والرعية، وكتب عنّا كائناً من كنّا. وهكذا كانت كتابات الوردي الأكثر جذباً، لأنها أتت مباشرة على المواضع المناسبة، إضافة لأسلوبه السلس. ويقول الدكتور ابراهيم الحيدري في كتابه الذي كتبه عنه أن الوردي كان الأكثر مبيعاً في العراق خلال القرن الماضي. ومن واقع مشاهدة أستطيع القول أن الوردي كان الأكثر مبيعاً خليجياً أيضاً، حيث شاهدت كتبه تنفد في أكثر من معرض خليجي للكتاب، رغم وفرة أعدادها في البداية. وقد كان الوردي وبطريق غير مباشر هو من ساهم في توريطي الورطة (اللذيذة) في حياتي، حين أصبحت طالباً لعلم الاجتماع.
وحتى تلك الأشياء الحدّية القافزة التي نظن أنها تتجاوز الأشياء الصغيرة مثل ما يسمّى في بعض العلوم بالطفرة أو الثورة هي ليست كذلك في الحقيقة. فالطفرة ليست إلا نوع من التراكم لأجزاء صغيرة تجمعت وعبرت عن نفسها في نقطة محددة، ويقول الفيلسوف الرياضي ليبنتز quot;ما أنا أكيد منه، هو أن الطبيعة لا تعرف القفزات.quot; وكذلك الثورة في حقيقتها ليست إلا نوعاً من التراكم. فيتحدث المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجية الثورات) عن ما يسميه بالثورات الحقيقية. ويقول إن الثورات السياسية المفاجئة التي تجذب المؤرخين هي الأقل أهمية، فتغيير أسماء الحكومات لا يغير أذهان الناس. ولذا هي ليست بثورة ولا تغيير حقيقي. والثورات الحقيقة التي استطاعت تغيير الناس وتغيير أقدارهم، هي تلك التي حدثت من خلال الفكر. ويعلن أن هذه الثورات الحقيقية تحدث ببطء وتراكم، ولذا يصعب على المؤرخ أن يتقصى البدايات الفعلية لأي ثورة حقيقية حدثت في التاريخ. وحين فازت الروائية الهندية أروندهاتي روي بجائزة البوكر الأدبية عن روايتها (ربّ الأشياء الصغيرة) قالت quot; بالنسبة لي ربّ الأشياء الصغيرة، هي انعكاس للرب، الرب الكبير، والمسيطر على هذا العالم... وسواء ما إذا كانت الطريقة التي يرى بها الأطفال الأشياء، أوحشرة ورد ذكرها في الكتاب، أو السمك، أو النجوم.. هنا لا يوجد قبول لتلك الحدود التي نتوهما كبالغين.quot; لذا لا مست روي في روايتها جوهر حياة، جوهر إنسان، جوهر مدينة، وأناس تلك المدينة.. مجموع حكايات لأشياء صغيرة، كانت كالقطب الذي دارت حوله كل الحكايات الكبيرة.. quot;نسيم البحر المالح الساخن، كروم أصفر يلطخ العباءة، صمت الفتى الصغير، صلصلة في قالب صلصة، فقر الناس الآخرين، صوت الليلة الماضية، الأسماك الصامتة...الخquot; وهكذا إذن.. الأشياء الصغيرة، لا يليق بها إلا الانتباه، ولا ينقصها سوى الالتقاط، فليست الشياطين وحدها من يختفي في التفاصيل، بل ربما الملائكة أيضاً.
ما نريد أن نفيده هنا، هو أن الفرد والإنسان العادي هو قطعة المجتمع الصغيرة، هو جوهره، والعنصر الذي ينبغي للمجتمع أن يأخذ خصائصه، ويشكل مادته منه. وصورة المجتمع الحقيقية ليست إلا انعكاساً لصورة هذا الإنسان العادي والطبيعي في مجموعه، لا انعكاساً للنخب والجماعات التي تتمايز وتتغاير معه. فالنخب تقدّم صوراً مختلفة لما تفترض أن يكون عليه المجتمع، أو ما تريده أن يكونه. بينما الصورة الحقيقية للمجتمع هي تلك الموجودة فعلاً، لا تلك المفترضة. وتحسس صورة هذا الإنسان العادي، ومعرفة على أي نقطة يتمركز في حاضره، هو الواجب الفعلي للنخب على تنوعها. أي أن تتعرف صورته، وتقوم بتعميمها وترسيمها في المجتمع لتكون هي المعيار الحاكم، والمثال الذي يقاس إليه. ونستطيع أن نقيس تخلف أي مجتمع عبر شدة رغبة من فيه في التمايز عن الإنسان العادي، عندما يحاول الناس استغلال أي فرصة للتمايز، فتكثر المظاهر الخادعة، والتكلفات المزيفة، ويكثر بينهم المرشدون والمدّعون والقائدون والمستغلون وكل من يريد التهام الإنسان العادي، الذي تصبح منطقته منطقة ضعف وخواء يفترض في الجميع الهروب منها، ولا يبقى فيها إلا السفهاء والرعاع. وفي هكذا مجتمع يكون رأس مال الإنسان هو مقدار ما يعرفه من الأشخاص (غير العاديين)، بدلاً عن أن يكون الإنسان العادي هو رأس المال الذي تتمحور حوله المقاصد. إن ولاء هذه النخب ينبغي أن يكون للإنسان العادي، وليس العكس. هو من يصنعهم، وليس هم من يصنعوه، وهم من يفترض أن يقدموا له، وليس هو من يفترض أن يقدم لهم. لكن ما يحدث هو العكس، ففي مجتمعاتنا للنخب المزايا، وللبقية الرزايا، ولهم المدح عوضاً عن النقد.. والوقوف على الضد من إنسان المجتمع العادي دلالة على فشل النخبة، كما قال أحد الأدباء quot;ازدراء المجتمع دلالة عجز عن دخوله.quot; ويكون الأمر أسوأ حين نجد الاتهام للإنسان العادي، والتثليب في ملامحه، يأتي من قبل هذه النخب نفسها، مع أن صنيعة الإنسان العادي هي صنيعة طبيعية لظروفه، وليست صنيعة اختيارات، كما هي صنيعة النخب عادة.. من المهم أخيراً أن نعرف أن موات المجتمعات، وخمودها، وانكسارها، يُعزى إلى (نُخبِها) أكثر مما يعزى إلى (إنسانها). كما قال الشاعر:
فأول خُبث الماءِ خبث تُرابِه * * * وأول خبث القومِ خبث الجَلائلِ

[email protected]

.