في أكثر من مكان حول العالم, دار جدل حول إحدى معضلات التعليم, وهي هل يفترض في المنهج التعليمي, والتخصصات المطروحة, أن تميل لكي تخرج طلاباً متخصصين فقط, أم أن تميل إلى كفة العلوم الإنسانية (الحرة), فتنتج طلاباً متخصصين لكن لديهم خلفية فكرية واسعة تجعلهم مهيأين للتعامل مع مختلف الوجوه في الحياة.. لأيهما الأولوية؟!! نعم, كلا الجانب العلمي والفكري مهم, لكن الملاحظ أنه بعد الثورة التقنية في العالم, أن الكفة مالت بقوة ناحية التركيز على العلوم والتقنية. ممّا جعل البعض ينبه إلى خطورة مخرجات العملية التعليمية التي تركز على هذا الجانب فقط, من حيث أنها تنتج أفراداً ذوي جانب أحادي في الرؤية, والتعلم, ممن تضمحل لديهم القدرة الفكرية والعقلية في النظر إلى مختلف جوانب وممارسات الحياة, فيكونوا بالتالي أفراداً أقل افادة وفاعلية. وهذه المفاضلة بين الجانبين سمّاها بعض التربويين بالمفاضلة بين الثعالب والقنافذ (Foxes and Hedgehogs) استناداً إلى مقطع شعري قديم للإغريقي أرخيليوس quot;الثعلب يعرف أشياء كثيرة... بينما القنفذ يعرف شيئا واحداً كبيراً.quot;

إن بخس حق العلوم والفنون الإنسانية والحرة خطأ شائع, وفي المحصلة ستخسر الأمة التي يقع فيها مثل هذا الاختلال, فمسألة أن يكون المجتمع صحياً ومبدعاً ومنتجاً, مسألة مرتبطة بالوعي والفكر أكثر مما هي مرتبطة بمدى (تعلم المتعلمين), فالشهادات والمناصب العلمية لا تبرئ جاهلاً من جهله, بل قد تكون عقبة في سبيل وعيه, ونضوج درايته. والفجوة الناتجة عن مثل هذا الاختلال سمّاها عالم الاجتماع (اوكبرن) بنظرية (التخلف الثقافي) حين يكون هناك سرعة في تطور المجتمع في جانبه المادي والاقتصادي, بجانب جمود وتأخر في الجانب الغير مادي, وهو الجانب المعنوي والثقافي. وقد ذكر المفكر مالك بن نبي أن عالم الأفكار أهم من عالم الأشياء, فالأول يجلب الثاني, وليس العكس.

هذا الكلام يأتي وقد لاحظت كيف أن هذه الفجوة ماثلة بوضوح لدينا, فمن بين عشر جامعات سعودية تم افتتاحها مؤخرا لا يوجد سوى جامعة واحدة لديها كلية للعلوم الإنسانية, ولم تفتتح بعد.!! وأيضاً خلال سنوات وعبر أكثر من مدينة أميركية أستطيع القول أنني قابلت طلاباً من السعودية والدول العربية أعدادهم ربما وصلت إلى المئات, ولم أجد من بينهم من هو متخصص في أحد العلوم الإنسانية, إلا (واحداً) فقط في تخصصه في العلوم السياسية..!! وقبل سنوات وفي زيارة لإحدى جامعات بلده, قال رئيس عربي في جلسة نقاش مع مسئولي الجامعة quot;لا حاجة للعلوم الاجتماعية.quot;!! وقد اعتذر مكتب (فخامته) لاحقاً, بأن الناس لم تفهم ماذا كان يريد أن يقول.. وعموماً, الحال المشاهد الآن يخبر أن العلوم الاجتماعية تكون أقرب عرضة (للإسقاط من غيرها) حفاظاً على (الميزانيات), أو حفاظاً على (الأذهان). حيث يكون من طبيعتها أن تقدم استثارة نقدية, ونتائج علمية, قد تصل لدرجة أن تستحث المجتمع لأن يقف ضد نفسه. إذا وضعنا في الاعتبار قول مالك بن نبي أن بعض المجتمعات quot;قد تتعايش مع المرض حتى يصبح جزءاً من شخصيتها.quot; هذا يعني لنا أن العالم العربي لديه ضعف في الاهتمام بمسألة بناء الإنسان, وفي تعرّف ملامحه, وإدراك مشاكله وأبعادها، تعرفاً (علميا) لا (ارتجالياً). فبدون هذه العلوم وما تتضمنه من مناهج بحث وتجريب واستدلال, يكون الباب مُشرعاً لأن تكون مختلف الحالات والمشاكل عرضة للتسطيح والتسفيه, وأن تختزل المشاكل وحلولها, عبر جلسة نقاش, أو كلمة مسئول, أو خطبة خطيب, أو مقالة كاتب. يأتي هذا الكلام وعندنا شقين للمشكلة, أحدهما تابع لمتطلبات (سوق العمل), والآخر (فكري), حيث أن مثاليتنا الزائدة, تدّعى ضمناً, أو تصريحاً, أننا لسنا بحاجة لهذه العلوم. وفي عالم مثل عالمنا الخاص, والمثالي هذا, نجد أن أحد المؤلفين, وهو دكتور متخصص في علم الاجتماع قد كتب كتاباً يقول فيه: quot;إننا لسنا في حاجة إلى علم اجتماع, لا في شكله العام, ولا فيما يسمّى اليوم بعلم الاجتماع الإسلامي, أو أسلمة وتأصيل علم الاجتماع. إن هذا الأخير في تصورنا ضرب من الترف, ونوع من العبث, الذي يضر ولا ينفع..quot; (أحمد خضر,علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام).
وفي كتابه (إصلاح التعليم في السعودية) قال الدكتور أحمد العيسى quot;حان الوقت لاعتماد فلسفة تربوية جديدة للنظام التعليمي السعودي, تقوم على تخفيض طغيان الفلسفة المثالية, وتعزيز فرصة الفلسفة البراغماتية... الفلسفة المثالية ترى أن المنهج هو عبارة عن مجموعة من المعارف النظرية... أمّا الفلسفة البراغماتية فتهتم بالتجريب, والتطبيق, فالتفكير -بحسب هذه الفلسفة- ليس نهائياً إلا بعد تجريبه واختباره.quot;(ص103). الفكر التجريبي حيوي وواقعي ومتغير, ويتيح فرصة للتنوع والتجدد. و الاعتماد فقط على الأسلوب النظري يقود إلى المثالية التي تنعزل عن الواقع, مما قد يخلق الازدواجية والنفاق واللامبالاة, حيث أن عالم المُثل عالمٌ مكتظ بالأشياء الجميلة والمكتملة, بينما يكون المشهد مختلفاً على أرض الواقع. وهناك قول أن quot;الأفكار كلها تكون صحيحة مادامت باقية في الرؤوسquot;, فما لم يتح للأفكار أن تواجه المسائلة والتجريب والاختبار, فما الذي يمنعها من أن تكون صحيحة (على الأقل في رؤوس أصحابها)؟!! والحل المثالي قد يعقب مشكلة أخرى, وهي كيف يتشربه المجتمع ويجعله جزءاً من كيانه, إذا كانت صياغته قد تمت بعيداً عن الواقع؟!! وإدراج البعد التجريبي لدينا, يتطلب بالتأكيد التوسع في المناهج الجامعية والبحثية, لتكون هي ابتدءاً تجريبية وملتصقة بالواقع لا مجرد شروح نظرية, وبحوث تخرج فقط من رف المكتبة لتعود إليه. وهذه مشكلة من أهم المشاكل التي قد تواجه العلم, أن يكون وحدة منفصلة عنا وعن الواقع, فلا نستطيع التأثر به أو التأثير فيه. وهي ما يتعارض مع أهم خصوصية للعلوم الإنسانية, التي تكون كما قال الناقد الروسي (باختاين) في معرض حديثه عنها quot;أفكار عن أفكار, تجارب عن تجارب, خطاب عن خطابات, ونصوص تعالج نصوصاً...quot; وإدراك أن هناك خطابات بجانب الخطاب, يمثل نقلة نوعية مهمة كفيلة بإثراء الموقف والمشهد الفكري. ومن جانب آخر هناك من يقول أن التوسع والتركيز على هذه العلوم يجعلنا ننظر للعالم بأعين غربية, من حيث أن مناهجها رسمت لديهم, بينما الأقرب هو العكس, فالتركيز على هذه العلوم والاهتمام بها والتقديم لها عبر المال والجهد والروح, هو الكفيل بتحريرنا من مناهج الغير, بحيث نستطيع أن ننتج مناهجنا ومدارسنا المدركة لنا, ولطبيعة وملامح هذه الثقافة التي نمتلك.

هناك نقطة وجيهة ومهمة أثارها بعض الزملاءعند الحديث عن العلوم الإنسانية, وهي أن سوق العمل لا يتطلب هذه التخصصات. وهي نقطة مهمة تحتاج إلى بعض التأمل, فهل يكون سبب ضعفها يا ترى (سبب أم نتيجة؟!!) بمعنى هل سبب عدم وجودها, وتحقق تأُثيرها -بكل ما يتضمنه ذلك من حيوية- عائد إلى ضعف المجتمع وعدم قدرته على الإنتاج والإبداع والنمو بخلق فرص جديدة, أم لأن هذه العلوم في الأصل لا يوجد لديها خدمة وظيفية كبيرة يمكن أن تقدمها..؟!! ويبدو أن الأمرين مرتبطين, فكلاهما قد يكون سبب ونتيجة. وما هو مُتأكد منه, هو أن خفوت الدراسات الإنسانية وعلومها, مجلبة لضعف المجتمع وخموله, عبر طغيان أحادية النظرة, والرؤية, والخطاب. فتضعف القدرة على بناء المجتمع المدني المؤسساتي والذي بدوره يصنع ويولد فُرصه بنفسه, ومن غير هذا الإثراء للمجتمع يصعب على المجتمع أن يواكب تعقده الحاصل بمرور الزمن, ويصعب على هذه العلوم أن تجد قبولاً ومساحة لوظيفتها فيه. وانفتاح السوق وتعقد بناء المجتمع واحتياجاته, يتطلب التجديد والتنوع في التخصصات, ولكن النظرة التي قد تبقى هي النظرة السائدة النمطية التي ترسخت وفقا لتخصصات محددة, كان الطلب عليها وافراً, ولازال. وأذكر عالم اجتماع مسلم, قال في أحد كتبه أنه كان على وشك التخرج من جامعته الغربية حين وصلتهم عروض توظيف من شركة سيارات مشهورة, ويقول ذهبت إليهم وأنا أتساءل أي علاقة بين علم الاجتماع والسيارات, وتفاجأ بأن مدير العلاقات العامة في الشركة كان أستاذ علم اجتماع متعاقد, ويقول انه اكتشف هناك ما هي مواضع استخدام هذا العلم هناك لدى نظام ليبرالي ديمقراطي غربي حقق النجاحات الاقتصادية المتنوعة. المجتمع إذن يستطيع أن يثري نفسه عبر هذه العلوم, ويثريها أيضاً, ونستطيع أن نتأمل كيف أن المجتمعات التي تحقق نجاحاً على مستوى العالم, لم تخفت لديها هذه العلوم, بل في الجامعات الكبرى نجد أن العلوم الإنسانية مزاحمة ونشطة جداً, ولا يقل الاهتمام بها عن غيرها من العلوم, بل ربما زاد عنها. ولنا أن نسأل: لماذا تحتاجها المجتمعات المتقدمة بقوة وكثرة, ولا نحتاجها نحن؟!
سؤال (القنافذ والثعالب) كان مطروحا في أميركا في فترة من الفترات, حيث اتهمت جامعاتها بأنها تقوم بتخريج القنافذ فقط. لقد كانت فترة الستينات في أميركا هي الفترة التي أُدخل فيها صفاً متنوعاً وواسعاً من المواد الإضافية للمناهج الجامعية, بدءاً من فصول في البيئة, حتى فصول في القصة الشعبية السواحلية. وفترة الستينات هي التي شهدت اضطرابات طلابية واسعة, مما يكون قد شجع على فتح نافذة فكرية واسعة للطلاب على العالم, فتخف موجة الاحتقان والنقد الداخلي. أمّا في السبعينات والثمانينات فعلى العكس, فقد كانت فترة تطور التقنية وظهور الكمبيوتر مما وجه بقوة إلى التخصص الدقيق, وازدهرت التخصصات الهندسية والتجارية والمهنية. أمّا جامعة هارفارد فقد رفعت راية الخطر من السبعينات, حيث لاحظت أنها أخذت تنتج المزيد من (القنافذ), وتنحو بعيدا عن العلوم الإنسانية. ولذا بين عامي 1971 و 1981 تبنت منهجاً إصلاحياً تمثل في إضافة مناهج رئيسية لجميع التخصصات, تزود الطلاب بمهارات التفكير, وملكات النقد, عوضاً عن الطريقة السابقة التي تقوم بتزويد الطلاب بالمادة العلمية فقط. وقد كتب إصلاحيو هارفارد في تقريرهم quot;ببساطة, هناك حقائق كثيرة جداً, ونظريات كثيرة جداً, ومواضيع كثيرة جداً, مما لا تقدر أن تحتويه المناهج الرئيسية...quot; لذا كانت فرضيتهم تقول بدلاً من المحاولة الصعبة لتقديم كل شيء في المناهج, يكون الأفضل أن يزود الطالب بالمهارات التي تجعله قادرا على التحليل والتفكير, فتتولد لديه بذلك القدرة الذاتية على اكتساب المهارات والمعرفة بنفسه. وهكذا على طريقة هارفارد يكون الطالب المتعلم quot;هو ذلك الذي يحلل المعلومات, وليس الذي يكتسبها فقط..quot; وأصبح منهج هارفارد للإعداد العام للطلبة هو الأنموذج الذي تحاول أن تحاكيه الكثير من الجامعات حتى الآن.

وهذا هو عين ما تطمح إليه كل تربية ناجحة, وهو أن تخرج المزيد من الوعي, والفهم, بطلبة يدركون الأبعاد المتعددة, كما الثعالب, لا طلبة حشروا في تخصصاتهم فقط, ولا يدركون إلا بعداً واحداً متقلصاً كما فهم القنفذ... فينطبق على كثير منهم وصف أنجلز أنهم quot;خارج مختبراتهم نصف أميين.quot;

[email protected]