تحدث المقال السابق (مزيداً من الثعالب... لا القنافذ) عن ضرورة العلوم الإنسانية في عالم اليوم، وعن أهمية الموازنة في مخرجات التعليم بين العلوم الطبيعية، والإنسانية. والجانب الفكري والذهني في مسألة ضعف وتأخر العلوم الإنسانية هو الجانب الأقوى تأثيراً من العامل الاقتصادي، ومن قلة الدعم المؤسساتي لهذه العلوم. فمن تأثيراته يكون (الفقر) في جانب شرعية هذه العلوم، وهو ما يولد تناولها بصورة ضعيفة وعدم اهتمام، وكأنها علوم دخيلة وزائدة. وهذا من تجليات الاعتياد على الخطاب الواحد، والذي من أبرز ممارساته، أنه جعل الكثير من جوانب الحياة التي هو غير قادر على احتوائها (من لزوم مالا يلزم)، فيسلب الشرعية منها، ويكون خصمها وجلادها في آن واحد. وهذا ليس إلا دلالة الشبع المعرفي المتوهم، فالمعرفة الحقيقية تكون متمرحلة، وبانية، وناقدة، ولا تتجمد عند نقاط معينة. ومادمنا نلاحظ اليوم ضعف الجانب الفكري في تقبّل مثل هذه العلوم، فلنا أيضاً أن نلاحظ أن الممانعة (المعتادة) ضد الأفكار حتى لو لم تجرب ويقترب منها، ليس عائدا بالضرورة إلى خلل فيها، بقدر ما قد يكون عائدا إلى مناخ غير قابل للاحتضان. فنحن ننسى دوماً أن (الجدب) عيب في التربة، لا في البذور.
والفكر الإسلامي الاجتماعي لم يتطور، رغم أن الدين نفسه قد جاء بمعالجات عميقة ونظرة متجددة للأوضاع الاجتماعية. هذا ما يراه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في كتابه (التأزم السياسي عن العرب وسوسيولوجيا الإسلام) حين أعلن استغرابه من إغفال الفقهاء والمفكرون المسلمون للبعد السوسيولوجي للإسلام، فبقي تداخلهم معه ضعيفاً. ويناقش الأنصاري ضرورة المعرفة والأدوات التي تتيح لنا إدراك الشروط الموضوعية، وتعقب الأزمات من جذورها، عوضاً عن النظرة التبسيطية والتبريرية المثالية التي تسود عوالمنا اليوم. فيرى أن الاسلام قد قدّم منظومة سوسيولوجية متكاملة أسست للدولة ومجتمعها المديني والمدني، ونجد المثال الواضح يتجلي في كيف أن الإسلام وفي فترة مبكرة قد قدّم النصوص والثقافة التي كانت محرضة على عدم (التعرّب) مرة أخرى. ويؤكد أننا نجد أن الإسلام دين مرسل للناس على اختلافهم، واختلاف أماكنهم، ومع ذلك يعمل على إحداث نقلة في حياة الناس للانتقال من بيئة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر (من البادية إلى المدينة). ومن المفهوم أن الإسلام قد حرض على ذلك لأن الانتقال إلى البيئة الجديدة يمثل فرصة أفضل لتحقيق مصالح الناس، وهو أمر يماثل محاولة تحقيق نقلة في حياة الناس اليوم للانتقال إلى بيئة حضارية وحديثة تكون فرص المصلحة فيها أفضل وأكبر. لولا أن الرؤوس التي ترى أن هذا من (لزوم ما لايلزم) لا تزال كثيرة العدد.
وعلى العكس من ممارسة الامتداد وراء هذه النقلة الحضارية المبكرة، نجد أن المعالجات والشروح الفكرية لدينا ظلت بدائية وسطحية وذات تخوّف وتوجس. ومن نتاج ذلك انقطاع التوليد الفكري، وعدم وجود المناهج المتواصلة التي تستطيع أن تحافظ على الامتداد والتمرحل، وعلى إنتاج المدارس والمسارات. وما ذكرنا لإنجازات بعض الأفراد مثل ابن خلدون وغيره إلا إثبات لهذا القول. فلو كانت البيئة فعلاً بيئة حاضنة لمثل هذا الإنتاج لوجدنا أننا نذكر المدارس والمراحل، عِوضاً عن أن نذكر أفراداً (مُنبّتين) تناثروا على صفحات تاريخنا كشواذ عن القاعدة.
وسؤال المجتمع اليوم سؤال لا يقبل الإجابات المسبقة. ومن مزايا العلوم الإنسانية أنها تأتي مترابطة مع الزمن، فهي تتجدد مع تجدد السياقات التي تأتي عبرها. والإجابات المسبقة عادة ما تكون إجابات محفورة في الأذهان، ومغلقة تجاه السياقات الجديدة. والقراءة التجريبية التي تأتي عبر مناهج حديثة للعلوم الاجتماعية قادرة على إحداث تغيير، وعلى إحداث مصادمة مشروعة للقناعات الذهنية. فكما قيل انك قد تعجز عن إقناع شخص بمحتوى كتاب تؤمن به، ولكن في المقابل سيعجز هو عن عدم الاقتناع بالآيات المشاهدة عياناً. وإحدى المدارس الفكرية الإسلامية الجريئة والتي لم تأخذ حظها من الانتشار، كانت المدرسة الفكرية التي انتهجها محمد اقبال ومالك بن نبي وجودت سعيد. فهي تجريبية أكثر من غيرها، وتُحيل إلى متابعة آيات العيان والمشاهدة، وتكون نزّاعة دوماً لأن يكون المرجع عند النزاع (الحقائق الخارجية) وليس (الصور الذهنية). وفي نظرة جديدة تؤكد أهمية العلوم الإنسانية وطبيعة اتزانها نجد الشيخ والمفكر السوري جودت سعيد يذكر أن القرآن حين يذكر آيات الآفاق والأنفس (أي السنن الحاكمة) فهو يذكرها دوما متصلة بالمجتمع والأنفس لا بالطبيعة، كما جاء في كتابه (اقرأ وربك الأكرم). ونجده أيضاً يقارب هذه النقطة في كتابه الآخر (حتى يغيروا ما بأنفسهم) فيقول quot;من تمكن من معرفة الخواص التي يخلقها الله تعالى في المواد، يمكنه أن يسيطر عليها. كذلك من تمكن من معرفة الأفعال التي يخلقها الله تعالى مما بالأنفس يمكن له أن يسيطر على المجتمع. وفي الحقيقة تعتبر هذه النقطة من أعظم ما جاء به الأنبياء، ونزلت من أجله الكتب، وأُمِر من أجله بالاعتبار بسيَر الماضين، والنظر إلى الأنفس. وما لم يرجع المسلمين إلى هذا العلم، وهذا الفهم، فستظل أعمالهم تسيطر عليها الفوضى والتدابُر مع القلق والحيرةquot;(ص77).
ومفهوم القوة اليوم يختلف عنه بالأمس. بالأمس كانت القوة أن الشخص (أ) يجبر الشخص (ب) على فعل ما يريد. أمّا القوة اليوم فهي أن الشخص (أ) يجعل الشخص (ب) يعتقد ما يريد منه أن يعتقده، فيفعل ما يريده منه عن طيب خاطر، وبدون حاجة للقسر. هذا هو (باختصار شديد) المفهوم الحديث للقوة كما تحدث عنه فوكو وآخرون. وهكذا فإن أي اختلال في موازين الفهم والإدراك والذكاء، سيجعل من الشخص ألعوبة في يد غيره، بغض النظر عن اعتقاداته عن نفسه. وهنا تبرز أهمية الفكر المنهجي والثقافة في عالم اليوم، فالتناول الثقافي هو القادر على النظر عبر أكثر من بعد وزاوية، وإذا كانت الهيمنة اليوم (ثقافية) فهي بالتأكيد تحتاج لمجنّدين (مثقفين). فالمؤسسات اليوم على تنوعاتها -الاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية- قد تضخمت وخلقت خطاباتها المتنوعة التي جعلت الأفراد لا يرون (شرعيتهم) إلا من خلال سياقاتها... والرؤية الفكرية المنهجية تمثل ضرورة في عالم اليوم لأنه عالم تعقدت فيه المسائل، فتولدت بذلك الحاجة للأدوات التي تتناسب معه. والشعوب المتقدمة قد تفعل كما فعلت أيام الاستعمار، فهي لا تريد أن تقدم كل ما في جعبتها للشعوب الأخرى كي لا تصبح مثلها. وعندي مقال قديم للراحل رجاء النقاش يناقش فيه كيف أن الاستعمار البريطاني في مصر كان داعماً للعلوم الطبيعية ومعادٍ للعلوم الإنسانية الحرة، وكيف أن هذا كان بسبب الوعي الذي تحدثه تلك العلوم في عقول الشباب، مما يجعلهم وطنيين، وحريصين على مصلحة البلد، ويخلق منهم مقاومين للمستعمر ولخطابه المزيف.
ومحاولة الخروج للعالم الواقعي، والاحتكام إليه عبر المناهج التجريبية أو غيرها، ممارسة لا تدّعي الكمال، ولكنها تزعم قدرتها على النقل إلى مراحل أفضل من الفهم والوعي. وهي تمثل علامة قوة لأنها تساعد على التحرر من الخطابات السائدة، وتمد بالقدرة على الوقوف أمامها. فعلى سبيل المثال، عبر المعلومات الإحصائية قرأت ذات مرة أن نسبة من تستقبلهم دول العالم (الثالث) من اللاجئين هي أعلى من النسبة التي تستقبلها دول العالم المتقدم، وهذا واقع يختلف عن الانطباع الذي تخلقه حكومات العالم (المتحضر). ووجدت أيضاً أن نسبة العراقيين الذين يرون أن السعودية أقل الدول صداقة لهم هي 2.2% مقارنة بـ 10.5% لإيران، بحسب ما جاء في المسح الميداني للعراق (أكسفورد 2004)، وهذا بعكس الخطاب الذي تحاول أن تروجه حكومة المالكي. وأيضاً أكثر من 70% من سكان إحدى المحافظات في اليمن لا يرغبون بالاحتكام إلى الأعراف القبلية، ويرغبون عوضاً عنها في تطبيق النظام المدني الحديث للدولة، وهو مغاير لما تحاول إفهامنا إياه الحكومة اليمنية التي لا تريد القيام بالكثير من مسؤولياتها، بدعوى عدم رغبة وتجاوب الشعب. وهذا بحسب ما جاء في الدراسة الميدانية القيّمة للباحث اليمني سمير العبدلي (ثقافة الديمقراطية في الحياة السياسية لقبائل اليمن) والصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية 2007.
وفي كتابه (وهم الانسجام: العلم والدين في الإسلام)(1) يناقش البروفسور والفيزيائي التركي تانير إيديس كيف أن تجربة العالم الإسلامي جاءت مختلفة عن تجربة العالم الغربي الذي سبق له أن تصادم بقوة مع العلم. بينما في العالم الإسلامي يكون الزعم أن البيئة حاضنة للعلم، بينما هي في الحقيقة تمثل بيئة (أزمة علمية). وأحد فصول هذا الكتاب قد خصصها الباحث للحديث عن العلوم الإنسانية. فيقول أن أحد أسباب استخدام علم الاجتماع هو الرغبة في توليد نوع معين من التغيير الاجتماعي، وهذا ما يكون غير مرحب به، في بلد كتركيا مثلاً. إضافة لأن هناك عدة أسباب تقف خلف إضعاف العلوم الإنسانية لدينا بجانب كونها متداخلة نشطة مع مسارات قائمة وسابقة، ومن ذلك نظرية المؤامرة، تاريخ الصراع مع الغرب، الضعف المؤسساتي في العالم الإسلامي، وأيضاً عدم الاستعداد لدى المسلمين للانفتاح والاستفادة كما فعلوا مع علوم أمم أخرى في العصور الإسلامية المبكرة -ربما لأنهم ومنذ زمن طويل يرون أن ذلك (من لزوم ما لا يلزم)-. والنقطة التي تهمنا هي ما لاحظه الباحث وكيف أن هناك توافق زمني حالي بين فكر مرحلة ما بعد الحداثة والفكر الإسلامي. فقد رفض الفكر الإسلامي الحداثة وشكك في خطابها، كونها تقدم الحلول ضمن إطار عقلانيتها وصياغتها الغربية، وهو نفس ما فعله المنهج ما بعد الحداثي حين رفض نفس الخطاب. وما بعد الحداثة هو بالمناسبة الفكر السائد حالياً في العالم الأكاديمي للجامعات الغربية. لقد قدّم عصر التنوير والحداثة الكثير من الوعود لعالم أفضل، وقد أتضح أنها لا تملك غير صورتها للعالم، وتطلب من العالم محاكاة هذه الصورة، ولذا رأى منهج ما بعد الحداثة أن هذه (العقلانية) المزعومة للحداثة لا تمثل سوى مشروع (أيدلوجي) لا أكثر. أمّا ما بعد الحداثة فمنهج يستخدم أدواته النقدية، ويدرك قصوره قبل غيره، ويعرف أن للعالم صوراً وأشكالاً متعددة يفترض لها أن تظهر وأن يسمع صوتها. وبمعنى آخر، العلوم الإنسانية علوم تدور حول (المعاني)، وفكر ما بعد الحداثة لم يسيطر على المعاني كما فعل فكر الحداثة، لذا فالمعاني لها أن تكون مستخرجة وتابعة للمنظومات التي تحتويها، كالدين مثلاً. فلو أخذنا معنى (الالتزام الديني) على سبيل المثال، نجد أنه أمرٌ يفسّر عبر الدين نفسه، وليس من قبل منهج خارج عنه. ولنا أن نعرف أن نقطة الالتقاء بينهم تكمن في إسقاط الحداثة، أمّا ما بعد الحداثة فأدواتها ليست للبناء، فيما لو أراد الفكر الإسلامي ممارسة ذلك. ويكمل الباحث أننا لهذا السبب نجد أن الكثير من المفكرين المسلمين والعرب قد استفادوا وتبنوا أدوات ومناهج ما بعد الحداثة، كما فعل ادوارد سعيد في نقده (للاستشراق)، فهذا ما يجعل الطريق الآن ممهداً أمامهم لبناء تطورهم الثقافي التابع لهم ولحضارتهم، من غير التعرقل بتلك الفكرة التي سادت طويلاً وهي أن منهج العلوم الإنسانية مصبوغ بالصبغة الغربية، ولا يمكن له أن يُستبطن من قبل الفكر المسلم كما كان الأمر مع الحداثة (المنهج الوضعي على سبيل المثال). إن نقطة أن ما بعد الحداثة قد قدمت للعلوم الإنسانية مناخاً عالمياً، وغير مصبوغ بالنظرة الغربية، نقطة تحتاج إلى الكثير من التأمل، وتمثل فرصة للمسلمين لإعادة تمثّل العلوم الإنسانية والإفادة مما توصلت إليها من مناهج متقدمة. إن الثقافة الإسلامية منظومة كبيرة، وضخمة، وممتدة، وهي مثقلة بالعديد من المسارات والخطابات، ولذا فليس من (لزوم ما لايلزم) أن يكون هناك انطلاقات فكرية منهجية تساعد على التنقيح والتنشيط والحذف والإضافة لهذه المنظومة. مما نزعم أنه سيقدم الكثير.
1- Taner Edis. 2007. ldquo;An Illusion of Harmony: Science and Religion in Islam.
التعليقات