عند موت شخص عزيز. يحدث أن يبقى الإنسان ذاهلاً لفترة من الوقت؛ غير مصدق أنه قد فقد هذا الشخص إلى الأبد. وهذا الشعور بالرفض وعدم التصديق كان شعور الكثيرين تجاه ما بات يعرف بكارثة جدة. حين شاهد الجميع كيف غرقت أجزاء من المدينة، وكيف توالت الأنباء المؤلمة عن (شهداء الغرق)، عسى الله أن يحفّهم جميعاً بالرحمة والرضوان. ولم تكن هذه الصدمة وهذا الذهول من نصيب أهل جدة فقط، بل نصيب الكثيرين ممن أحبّوها. فمعروف عنها أنها المدينة التي حظيت بحب (استثنائي)، لم يتحقق لأي مدينة أخرى في البلد. وفي ذات جدة، كان هناك من استفاقوا من الدهشة بسرعة، ومن نزلوا سريعاً إلى الميادين والشوارع.. لينظموا أنفسهم، ويقسِّموا أدوارهم، للمساعدة، ولرفع الضرر عن الأماكن المنكوبة. لقد كانت النتائج من جرّاء هذه الأزمة فادحة، وعميقة. كشفت عملياً عن ما هو مكشوف أصلاً، من عدم استعداد، وعن فساد تخلل الجهات الحكومية التي أُفترض لها أنجاز كل تلك المشاريع المطلوبة للمدينة. لقد كانت النتيجة أن الاحتياج كان كبيرا، وفوق قدرة الجهات الحكومية على التغطية.. توفير أغذية، وملابس، وكل تلك الاحتياجات الأولية للأفراد والأسر المتضررة، إضافة إلى الدعم والمؤازرة للمكلومين ممن فقدوا ذويهم في هذه الفاجعة. ولو لم يحدث أن تبرع الكثير بجهدهم ووقتهم لما كان لكل هذا الخطوات والمساعدات أن تصل إلى أهدافها. وقبل أيام كان عدد المتطوعين في الميدان قد وصل إلى أكثر من سبعة الآف، ويفترض أن هذا العدد قد ظل في ازدياد. أمّا أعضاء صفحة الحملة الشعبية لإنقاذ مدينة جدة على الفيس بوك فقد قارب عددهم الأربعين ألفاً.
* * *
توافد أبطال التطوع في جدة جاء متزامناً مع اليوم العالمي للتطوع. فيوم الأمس كان الخامس من ديسمبر، وهو اليوم المعتمد من الأمم المتحدة، ليحتفل فيه روّاد ثقافة التطوع في أرجاء العالم. فيكون يوماً تُشحن فيه الإرادة، وتتجدد الرغبة من أجل خدمة المجتمعات وأهلها. فهناك من المهام مالا يتحقق إلا بما هو شعبي، وبما هو تطوّعي. لقد توافد أبطال التطوع في جدة بالآلاف، ومعظمهم من الشباب، فتيان وفتيات. وكما تفيد الأخبار المتتابعة فإن الحضور النسائي كان
مشهوداً في هذا الموقف. وهو موقف ينبّه ويذكر الجميع بالحقيقة التي تقول أنه مجتمع لا يخطو، ذلك الذي يُراد له أن يخطو بقدم واحدة. ومن ذلك ما ذكرت إحدى الصحف عن قيام فريق تطوعي نسائي بصعود أحد الجبال القريبة من جدة، من أجل تقديم المساعدة للأسر المتضررة. وقام أحد المتطوعين، وهو الشاب محمد الرحيلي، بتقديم عرض بودكاست له على اليوتيوب يقدم فيه مشاهد تعكس سرعة الشباب في الاستجابة، وفي القدرة على العمل بتناغم مع بعض الجهات المسئولة الأخرى كالدفاع المدني. وفي الأيام الماضية كانت أيام المتطوعين تبدأ من الصباح الباكر وحتى الساعة العاشرة بالليل. والآن ومع بداية العودة إلى مقاعد الدراسة، لابد أن الكثير من مراكز الإشراف التربوي في المدينة قد بدأت العمل لمضاعفة أعداد المتطوعين وسد أي احتياج مطلوب.
* * *
التطوع ثقافة. وهو ترجمة عملية لتلك الحكمة البسيطة، والقديمة قِدم الأنبياء، والتي تخبر أن سر الحياة الأكبر يكمن في العطاء، لا في الأخذ. ويكون محظوظاً ذلك المجتمع الذي يكون التطوع فيه (تطوعاً) بالفعل ومبادرة، وليس فقط كردة فعل على أزمات ومشاكل. وهذا يكون جانب مهم في التطوع، حين يمثل مساراً تنموياً مهما للشعب والمجتمع. لدينا الآن الكثير من النقص في جانب ثقافة التطوع، ومن أسباب ذلك عقبات ثقافية. منها على سبيل المثال الانطباع السائد أن عمل التطوع مرتبط بالمال، ولا ينظر له على أنه احتياج إلى طاقات وأذهان أكثر مما هو احتياج إلى دعم مادي. وأيضاً الانطباع الآخر الذي يقول أن الحكومة هي التي يفترض أن تقدم وتخدم المجتمع وليس الأفراد أو الجماعات الشعبية. والحقيقة أن الفرد الذي يكون المجتمع محظوظاً به، هو ذلك الفرد الذي يقدم لغيره، ولا يقف ليسائل نفسه هل هذا من واجبي، أم واجب غيري، أم واجب الحكومة؟!!. ولو كان الشخص لا يقدم في حياته، إلا ما يقدمه لتلك الوظيفة التي هو مُجبر على العمل فيها، لصح أن نقول ما أقل قليله، وكم هي (متقلصة) تلك الحياة التي يحياها. إن المجتمعات محظوظة بأفرادها المتطوعين، لأنهم أشخاص بأرواح ايجابية، لم ينتظروا فرصة العمل، بل ذهبوا إليها بأقدامهم. وإنفاق الجهد والوقت من المتطوع له دلائله المتعددة على تفرد مثل هؤلاء الناس. حين انعكست في شخصياتهم مَعانٍ جوهرية للحياة، مثل الامتنان، امتنان للبلد الذي هم فيه، وللأرض، وامتنان للناس، الذين قد أفادوا من بعضهم، فحان وقتهم ليفيدوا آخرين... وأيضاً معان أخرى متعددة كالعطاء، والتواصل، والمشاركة، والمحبة، وحب المعرفة والاكتشاف، وغيرها الكثير.
* * *
لي قريب يقضي أوقاته منذ سنوات متطوعاً للعمل في الأنشطة الترفيهية والرياضية للطلاب الصغار من الصم والبكم وذوي الإعاقة الخاصة. نعم، لديه عائلة وأبناء، ولديه وظيفة ومشاغل في الحياة، ولكن أذكر كيف كان يخبرني دوماً عن أن أفضل أوقاته في الحياة وألذها كانت تتجسد في تلك اللحظات التي يقضيها مع أولئك الطلاب. ويحدد الخبراء عدة مزايا للتطوع تعود فائدتها في المقام الأول على المتطوع نفسه. ومن ذلك الخبرة العملية، والحصول على صحة جيدة، وعلى رضا ذاتي، وأيضاً التعرف على آخرين والتواصل معهم من خلال وسيط حيوي حقيقي، وهو العمل التطوعي. ومن ضمن ذلك أيضاً اكتساب المعرفة، واكتشاف أشياء جديدة، وتأمين احتياجات حقيقية للمجتمع والناس.إضافة إلى أن مساعدة الآخرين هي طريق للبركة، ومصدر من مصادر الفلاح في الدنيا والآخرة. وفي بعض الدول الغربية، وكونهم أصحاب خبرة طويلة في الثقافة التطوعية، نجد أن المزايا والمحفزات لديهم للعمل التطوعي تتنوع وتتعدد. ومن ذلك أن الجامعات المميزة تحرص دوماً على قبول الطلاب الاستثنائيين. وأحد أهم المعايير لتحديد الطالب الاستثنائي لا تكمن في درجاته السابقة، بل تكمن في (أعماله) السابقة، والتطوعية تحديداً. وكيف استطاع أن يكون استثنائياً في حياته عبر تقديمه لما هو إضافي وتطوعي وزائد عن ما قدمه غيره.
* * *
التطوع في أماكن مختلفة في العالم، أصبح ظاهرة قد أخذت حقها من التمرحل والنضج. وكملمح على أحد جوانبه المتطورة، أذكر أني شاهدت كتاباً باللغة الانجليزية أسمه (أفضل مائة إجازة تطوعية). وهذا الكتاب يقدم دليلاً لمن يريد أن ينفق إجازته في تقديم عمل تطوعي في أماكن مختلفة حول العالم، كالمساعدة في بناء منازل ريفية للفقراء في قرية أفريقية، أو تعليم اللغة للأطفال في جزيرة آسيوية، أوغير ذلك. وللكتاب عنوان فرعي (أثرِ حياتك)، فهو يزعم أن مثل هذه التطبيقات الخلاّقة والذكية كفيلة بإثراء حياة الإنسان، ووسيلة لإضفاء البهجة والسعادة له. واعتقد أن هذه الفكرة، تمثل التفاتة ثورية وحديثة لمفهوم السفر والترحال؛ أن ينفق أحدهم مالاً ليسافر إلى منطقة أخرى، فيساعد أُناساً آخرين لا يعرفهم. وبالطبع هناك الكثير ممن مارسوا مثل هذا الأمر من السفر والتطوع، قديماً وحديثاً، من البلدان الإسلامية أوغيرها. لكن هذا الكتاب، وهذه الطريقة الإعلامية، تفتح الباب لأن تكون هذه الممارسة شعبية ومعروفة. وأن يكون هذا النوع من السفر أحد أنواع الإجازات الرائجة، والمتعارف عليها. فلطالما كان السفر بوابة للبؤس والملل، خصوصا لمن اعتادوا ارتياد الفنادق المتشابهة، والمدن إياها، المكتظة بالسيارات والمبان. واليوم، هناك الكثير ممن يمتلكون الصحة، والوقت، والمال، ومع ذلك فهم عالقين في دائرة من (الضجر). أو بالأصح دائرة مؤلمة من الضجر، كتلك التي صوّرها بودلير ذات لوحة شعرية.
* * *
في الأسابيع الماضية كانت لي فرصة جيدة أن انضممت إلى فريق متطوعين يعملون على إنشاء متحف تاريخي للمدينة التي أعيش فيها في الولايات المتحدة. هؤلاء هم ثلاثة من المتطوعين، رجلان وامرأة، أصغرهم في السبعين من عمره. ويعملون بكل نشاط وحيوية من أجل تقديم شيء من الوفاء لمدينتهم وارثها التاريخي. ما لاحظته هو أن المشاريع التطوعية وغير الربحية هنا تثري نفسها بنفسها. فتجد الكثير من المصادر الشعبية الأخرى التي تسند وتدعم، مما يعزز فرص الأفراد ويشجعهم على انجاز أمثال هذه المشاريع التطوعية. مشروع المتحف الآن في بدايته، ويحتاج إلى سنوات وإلى دعم يصل إلى ملايين الدولارات. لكن الخطوات المبدئية التي حدثت في الأسابيع الماضية كانت مهمة ومتعددة، وكلها اعتمدت على التعاضد التطوعي من غير إنفاق أي مبلغ. فمثلا عن طريق أحد الأصدقاء تواصلت مع أستاذة جامعية تقوم بتدريس تصميم مواقع الانترنت، وحين علمت بالفكرة، أبدت استعدادها وسرورها لتصميم موقع كامل خاص بالمتحف. وقالت سأضع طلاب الصف الذي عندي تحت خدمة هذا المشروع. اثنان من الفنانين أبديا استعدادهما لتصميم شعار الموقع، وكل الجرافيكس والتصاميم المطلوبة له بلا مقابل. جريدة محلية تعلن استعدادها لتوفير إعلانات مجانية على صفحاتها عن المشروع واحتياجاته. إضافة لعدد من الأفراد والطلاب الذين أبدوا استعدادهم الانضمام للمشروع، والبحث عن الداعمين المحتملين، بدءاً من الفصل القادم. والطلاب قد يتطوعون من أجل أن يكتب هذا في سجل انجازاتهم، والداعمون أيضا قد يفعلون ذلك من أجل أن لا يدفعوها للضرائب. ولكن في العموم هذه كلها طرق ذكية تدل على جعل عملية التطوع عملية حيوية، تفيد عمليا الكثير من المنتمين إليها. وهذا ما لفت انتباه الفيلسوف والسياسي الفرنسي اليكس دوتوكفيل، حين زار أميركا وكتب عنها قبل زمن بعيد، وهو القدرة والمرونة على التنظيم المدني في أميركا. فأي مجموعة تستطيع أن تجتمع وتقرر ما تريد فعله وانجازه بتطوع، وبمبادرة، ومن دون أي تعقيدات ومصاعب معيقة.
* * *
وأنا اكتب هذا المقال، كنت اقرأ عن بعض النشاط التطوعي في عالمنا العربي. وجدت أن هناك أخبار وانجازات جميلة وكثيرة عن التطوع، تمت في جدة والرياض والخرطوم وبيروت وأماكن أخرى. لكنها قد احتاجت إلى أن تظهر في الصورة، وأن تكون مُشاهدة وماثلة أمام الجميع، من أجل أن تنقل عدواها وتأثيراتها الإيجابية. لذا أحببت هنا أن نقدم الشكر الجزيل لأبطال التطوع في جدة. ليس من أجل ما قمتم به لأجل جدة، فهذا من حقها عليكم. ولكن من أجل أنكم قد قدمتم لنا درساً عملياً رائعاً ومشاهداً. أجزم أنه سيحدث نقلة عميقة في فهم ووعي الكثيرين، عن العمل للمجتمع، وعن التطوع، وعن حب الأرض... وحب الناس.
التعليقات