بعد منتصف العام 2001 بقليل. كنت قد خرجت من الباب الجانبي لإحدى المكتبات في وسط مدينة بورتلاند بولاية أوريجن الأميركية، لأشاهد أمامي ملصقاً دعائياً ضخماً، وقفت أتأمله لوهلة.. كان المنظر مهيباً، فالصورة التي كانت تمتد على جدار البناية المقابلة، كانت تعرض فارساً مسلماً، وبجانبه فارس مسيحي، ومن خلفهم تبدو مجموعة فرسان آخرين..!! عرفت فيما بعد أن هذه الصورة كانت إعلان عن كتاب (مقاتلو الله) لجيمس ريستون، وأن الذي في الصورة كان صلاح الدين الأيوبي، وريتشارد قلب الأسد الذي بجانبه. في الأيام اللاحقة شاهدت إعلانات مختلفة عن هذا الكتاب الشهير، الذي رافق صدوره زخم واحتفاء إعلامي، وبدأ وكان القوم هناك يعشقون المحاربين، وحكايا الحرب.. أيضاً، بعد أيام أعلنت إحدى القنوات التلفزيونية أن الرئيس بوش يقرأ في هذا الكتاب. وكان ذلك قبل وقوع هجمات سبتمبر بشهر تقريباً.

وفي نفس تلك الأيام، أذكر أني وجدت رابطاً في إحدى المنتديات العربية لموقع الكتروني اسمه (مقاتلو القمر). هذا الموقع كان عبارة عن مكتبة فيديو تعرض التمارين الجهادية التي تحدث في أفغانستان وأماكن أخرى. وعبر بعض التجميلات والأناشيد الإسلامية، كان الموقع مغرياً ومغوياً للشباب للانضمام لتلك الثكنات التدريبية. مقاتلو القمر.. كان اسماً رومانسياً حالماً، يربط بين القتال والقمر، بين القتال والجمال، رغم أننا نعرف أن القتال هو (كُره). لم تكن أميركا حينها قد غزت أفغانستان، ولا احتلت العراق، ومع ذلك ففكرة إيذاءها والعداء لها كانت قد وصلت إلى مستويات عالية.

هذا ما كان في تلك الفترة! مقاتلو القمر، أُناس حملوا تلك الفكرة وأشاعوها بعاطفة جياشة، وبوش الذي قرأ عن الحملات الصليبية قبل أن يرفع لواءها. في تلك الفترة كانت فكرة الصراع والانتقام من الآخر فكرة مغرية، ومورّدة كخدود الصبايا. فلم يعلم أحد أن للأذية وللاعتداء ثمن، وأن أي لعنات تريد صبها على الآخر ستعود إليك، وأن quot;ما يجول هناك سيأتي هنا.quot; فالمجتمعات والجهات التي احتضنت المتطرفين المسلمين لم تكن قد تعرضت للأذى بعد من تلك الفكرة، أو دفعت ثمنها كما حدث في النهاية. كما أن المجتمع الأميركي لم يكن قد دفع بعد ضريبة (بوش المحارب) وأعوانه من اليمين المتشدد وأحفاد ليو شتراوس.

كما كان فأر كافكا الصغير يصرخ بأسى quot;انه عالم ينمو صُغراً.quot; نجد أن العالم اليوم عالم صغير وضيق ومتصل ببعضه البعض، وأن ما يجول هناك سيأتي هنا، وأن أي امتهان واعتداء على أحد، هو خطأ، سرعان ما يتضاعف ويخلق ارتداداته التي تعود على من ارتكبها. هذه الاستباحات التي حدثت في العالم والتي استفادت منها مجموعات ونخب وأطراف مختلفة، لم تكن لتحدث لولا أن لديها جذوراً واستنادات فكرية وثقافية في كل عالم من العوالم التي انطلقت منها. هذه الاستنادات ترتكز وتتأسس على فكرة الآخر، ولعبة الآخر، وكيف أن الآخر مذموم، محتقر، وأن امتهانه وإذلاله واستباحته أمر سهل على النفس، ومحبّب أحياناً..!! يذكر بعض باحثي الأنثروبولوجيا أن كراهية الأغراب غريزة أساسية عند الحيوانات، وبعض منهم يرى أن هذا يعود إلى تركيبة جينية لدى الكائن الحي، بما في ذلك الإنسان..!! لذا فهذه الأفكار المؤذية التي تؤذي الآخر ثم تؤذينا، لم تكن لتوجد وتزدهر لولا أن هناك ثقلاً شعبياً يدعم المتطرفين، ويستحلي وجودهم..!! مثال ذلك ما يحدث في مجتمعاتنا اليوم. فالجماهير ستعتبره (بطلاً ونجماً) من يشتم الآخرين، ومن يتعدّى على أُناس من طائفة أو دين آخر.. فهو من يدغدغ العواطف والقلوب، ومن يجيد اللعب على أوتارها. والحقيقة أنه لا بالبطل ولا بالنجم.. ومن يستحق ذلك هم من يمارسون النقد لثقافتهم ولأي منظومة يتبعون لها، ففي النهاية هم من سيكون مفيداً لها..

أهل الحس الثقافي والنقدي لديهم مهمة واسعة. فهم من يعرف أن أي استباحة لأحد هي استباحة للإنسانية ككل. ومن يعرف أن من يستسهل أذية الآخر هو كمن يستسهلها على نفسه، فما يجول هناك سيأتي هنا. الحس النقدي الذي يدرك الأبعاد المتعددة هو دلالة قوة ودلالة حياة لأي ثقافة تحوزه على هذه الأرض. وعند الغرب نجد أن هناك حس نقدي مزدهر ومناعة، داخل الحقل الأكاديمي، أو تجاه أي ممارسات مؤسسية تصدر عنه. الأمر المهم الآن يتعلق بنا نحن، فالنقد الوحيد الذي يزدهر لدينا هو نقد الآخر. وقد يكون هذا النقد محقاً، لولا أننا لا نفيد شيئاً منه. واجب الثقافة والمثقفين يتمثل في تجريد النماذج الصراعية والمتطرفة من الحصول على أي شعبية ودعم جماهيري. فإذا كان الخطأ يتضاعف ويخلق ارتداداته التي تعود على من ينتجه، فهو للأسف لا يعود فقط على الجماعات والنخب التي أطلقته، بل يعود على الناس. فعندما غزا صدام الكويت، كان الشعب العراقي أول من تفاجأ بذلك، وهو الذي دفع ثمن ذلك الحصار الظالم، وليس صدام ومن حوله. وأيضاً، عندما نفذت القاعدة هجمات سبتمبر كانت الشعوب العربية والمسلمة آخر من يعلم، ومن هذه الشعوب من كان أول من دفع الثمن..!! لذا كان واجبنا فردا فردا ممارسة المناعة ضد مثل هذه الممارسات الصراعية التي تستفيد منها بعض المجموعات والنخب المتسيدة. لقد رأينا كثيراً من النخب وهي تبرر القتل وتبرر الظلم والتعدي وتبرر أي شيء تريده.. وآخر ما يأتي في اعتبارها حياة الناس، وقيمة الناس.. فهي لو لم تستخدم هذه الحياة، وهذه القيمة، لما استطاعت أن تتسيد، وأن تظل موقدة للصراع..!! وشتان بينهم وبين من يرعى الناس، وحقوقهم، ويستحق سيادتهم. لقد جاء في المأثور الصوفي أن الله اختار الأنبياء كلهم من رعاة الغنم لأنه شاهد رحمتهم بالخراف ورعايتهم لها فاختارهم لرعاية عباده.

هذه حقيقة لابد أن ندركها، وأن نجدد إدراكنا لها، وهي ألاّ تفعل في غيرك ما لا تريد أن يفعل بك. عند الفلاسفة تسمّى هذه بالقاعدة الذهبية (The Golden Rule). وهي قاعدة تواطأت عليها الأديان، وارتكزت عليها خلاصات الفكر البشري. فكونفوشيوس قال quot;ما لا تحب أن يفعله الآخرون بك لا تفعله بالآخرين،quot; وقال المسيح عليه السلام quot;فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، أفعلوا هكذا أيضاً أنتم بهمquot;(انجيل متى). والنبي محمد عليه السلام يقول quot;وليأت إلى الناس الذي يُحب أن يؤتى إليهquot;(مسلم). ومشابه لذلك أيضاً ما قاله الفيلسوف كانط quot;افعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك، وفي الأشخاص سواكquot;(المموسوعة الفلسفية للحفني). وهكذا، أن تتملكك حقيقة أنك على حق وغيرك على باطل، فليس من مشكلة هنا فهذه حقيقتك.. ولكن أن تستبيح الآخرين بناء على حقيقتك فهذه أكبر مشاكلنا في الحي العالمي اليوم. اعرف أن علاقتنا مع الغرب ليست علاقة سطحية، وأنها متّقدة بالكثير من الجدل والصراع. ومن ذلك مسألة تغاضي الغرب ودعمه للكيان الإسرائيلي الذي يجرم بلا حساب، وهي المعضلة الرئيسية في هذه العلاقة. لكن المشكلة كانت أننا عِوضاً عن التركيز على ما هو رئيس، ومحاولة حصر وتضييق هذا النطاق الصراعي، نجد أن المشاكل ومناطق الصراع ازدهرت وتمددت حتى لم يعد هناك متسع ولا طاقة لتتبع المُشكل الرئيس والحقيقي. وعوضاً عن احتلال واحد ضعنا بين عدة احتلالات..!!

حين يمشي الناس على درب من الشوك، ستتشابه لغتهم، فالجميع سيصرخ (أوج.. أوج). لقد دفع الشرق والغرب الثمن الكثير، نتيجة للاستباحات السابقة، والهجومات المندفعة. حين حاول كل منهم تصدير مشاكله وأذياته ولعناته على الآخر.. ودفع الثمن والتألم كان فرصة لإعادة التفكير، ولنقد الذات عوضاً عن نقد الآخر. فالغرب لم يكن ليتأمل طمعه وتعديه وتدخله في أحوال كثيرة قبل اليوم، وقبل أن يدفع الثمن. وفي الشرق لم نتأمل ضعفنا، وضعف البُنى المؤسسية والمجتمعية التي تتأسس عليها المجتمعات الشرقية والتي تكون السبب وراء كل خلل ونقيصة.. من هنا، كان مهماً لأي كيان أن يهتم بنقد ذاته. وبما أننا شاهدنا كيف أن الجزء المتطرف يضر الكيان الذي ينتمي إليه قبل أن يضر الغير، لابد إذن أن يكون هناك جزء ناقد ينقذ الكيان من جزءه المتطرف. لذا الحديث هنا يكون مهماً على مستوى المصالح قبل أن يكون كذلك على مستوى المبادئ.

مع نفر آخرين، يتبنى الموسيقار الياباني يايو ما مشروع درب الحرير (The Silk Road Project). منذ سنوات يعمل برنامج هذا المشروع على إقامة مختلف المعارض والاحتفالات الفنية التي تقدم عبر عارضين وفنانين من مختلف الأماكن والثقافات في العالم، لعرضها أمام طائفة متنوعة أخرى من البشر. الفكرة من يايو ما ومن معه أن هذا العالم يستحق السلام.. لذا أسم البرنامج مستلهم من درب الحرير القديم. حين تزاوجت وتمازجت ثقافات العالم القديم وحضاراته على هذا الدرب الذي امتد من الصين وحتى أوربا وأفريقيا. لقد كان للجميع درب إثراء ومعرفة، بجانب كونه درب تجارة ومصالح. العالم اليوم بحاجة إلى إعادة استلهام هذه التجربة، لتذكير البشر بما هو مشترك بينهم، وبقدرتهم على التعاون والتآخ، وأن ما يجمعهم هو أكثر بكثير مما يفرقهم.. هذه تجربة معنوية ورمزية يكون من الأفضل للعالم لو تعلم منها، عِوضاً عن أن يتعلم عبر التجربة والألم. وشتان شتان، بين من يتعلم على درب من شوك، ومن يتعلم.. على درب من حرير..!