الحرب بالوكالة، مصطلح يدل على أوضاع سياسية معقدة ومتداخلة. وكثر استخدام هذا المصطلح مؤخراً تبعاً للوضع المتأزم في اليمن. قول يخبر أن الحكومة اليمنية تحارب الحوثيين تبعاً لأميركا، وقول آخر يرى أن الحوثيين يحاربون تبعاً لإيران، عدا عن القول أن الجيش اليمني كان يحاربهم سابقاً بدلاً عن السعودية، ثم القول الجديد أن السعودية تحارب الحوثيين بدلاً عن الجيش اليمني. وقد تتبعت الآراء التي تؤيد وجهة النظر الحوثية عبر الانترنت، أو وسائل الإعلام، ووجدت ما يقارب عشر فرضيات كلها تؤكد بطريقة أو بأخرى أن التدخل السعودي كان مقصوداً، فهل هذا صحيح؟!! في الحقيقة اكتشاف مثل هذا الأمر ليس بهذا التعقيد، وكل هذه الفرضيات لا تثبت ولا تقف أمام ما حدث في الواقع. فنفس اليوم الذي بدأت فيه المواجهات، هو نفس اليوم الذي قتل فيه جنديان من حرس الحدود السعودي، وقد كانت تلك اللحظة هي بداية الاشتباك، فكيف يكون التدخل قد أتى وبدأ من الجهة السعودية؟!!.

* * *

وبعض من تحدث وكتب عبر وسائل الإعلام، قد قدّم بعداً طائفياً للمواجهات، وهؤلاء كأنهم لا يعرفون أن السعودية تحتضن في جسدها طوائف مختلفة، تماما كما هو الجسد اليمني..!! وقرأت لأحدهم ممن كتب في صحيفة عربية يمتدح ويبارك أفعال الحوثيين كلاماً يقول فيه أن quot;التبشير المذهبي (الوهابي) في شكله الاستفزازي قد فجر انتفاضة زيدية لم يعد منذ العام 2004 يمكن إخمادها...quot; ومن فمك أدينك..!! فمنذ متى والصراع الثقافي أو التبشيري يرد عليه بتمرد ورفع السلاح وانتفاضة؟!! فكل منطقة اجتماعية في العالم معرضة لأن تغزو أو تُغزى ثقافياً.. والدعوة السلفية قد تمددت في اليمن كما تمددت في مناطق عربية أخرى.. وأهم أسباب ذلك التمدد كان القناعة الواسعة لدى الكثير أن المذهب السلفي القادم من الجزيرة يمثل لهم التطبيق الصحيح للإسلام. هذا ما سمعته من أفراد من أهل تلك المناطق، وقد يُقبل أن يتفق أو يختلف مع هذه النقطة، لكن ما لا يقبل هو أن يأتي أحدهم ليشرّع حمل السلاح استناداً عليها. كثير من المناطق العربية فيها صراع واحتكاك اختلافي وثقافي، بما فيها مناطق اليمن نفسها والتي تجاور فيها الزيدي مع السلفي بتسامح، ولكن لم يذهب أي منها بعيداً كما ذهبت (صعدة)، أو كما أريد لها أن تذهب... فكثير من الذين تكالبوا يدافعون ويتبنون المنطق الحوثي الآن، لم يكونوا من أتباعه، ولا متقاربين معه بالأساس، لكنهم اهتبلوها كفرصة يثبتوا من خلالها فرضية الصراع، وفرضية الطائفية، وفرضية المؤامرة.

* * *

ليس للمنطق الحوثي أي وجاهة أو ثقل ذاتي يمكنه من التمدد والانتشار والتأُثير، وقد كان ذا تأثير محدود لسنوات طويلة. فهو منطق بني على التعصب لحكم سلالة معينة، ينبغي أن تحكم دون بقية المجتمع. ويكثر للمحاججة من قبل نخبته استخدام آيات القرآن الكريم، وهذه حيلة قديمة جديدة قد ردّها الإمام علي بن أبي طالب على من استخدموا القرآن بهذا الشكل، حين قال أنها كلمة حق يراد بها باطل. إضافة إلى استخدام الشعارية والتجييش. ومن المفارقات أن هذه الحركة تدّعي أنها تأسست لمجابهة أميركا، ومع ذلك لم تفكر أميركا أن تضعها على قائمة الحركات الإرهابية التي تعمل ضدها، فأين يا ترى قد استخدمت أسلحة هذه الحركة..؟!! من الواضح أنها حركة قد استفادت من الوضع السيئ لمنطقة صعدة وما حولها. فقد جاء في كتاب (الحوثية في اليمن) لمجموعة من الباحثين والصادر عن مركز الجزيرة العربية للدراسات في صنعاء، أنها مناطق quot;تكثر فيها الأميّة والجهل وتقل نسبة التعليم ومعدلاته في أوساطهم، كما أنها مناطق قبلية منغلقة على ذاتها ولم تحتك بغيرها مدنياً نتيجة وعورتها وتقاليدها المتشددة، وهذا ما جعل هذه المناطق وإلى عهد قريب خارجة عن سلطة الدولة ونفوذها، كما أنها تفتقد للخدمات الرئيسية من طرق وكهرباء ومياه وهواتف ومراكز تعليمية وصحية وغيرها، وغالباً ما يعتمد الناس فيها على الزراعة أو الرعي أو التجارة، وهي أشبه بأماكن نائية إلى حد كبيرquot;(ص،152). إذن نحن أمام منطقة فقيرة ومعزولة، ولكن من استفادوا من هذا الوضع واستخدموه ليسوا كذلك، بل هم نخبة حزبية ومذهبية، فالنخبة الحوثية المتحكمة كانت بالأمس حليفة للسلطة، وأعضاء في حزب المؤتمر الشعبي الحاكم. ورغم أن المنطق الذاتي للحركة ضعيف، إلا أن هناك عدة نقاط أخرى قد زادت من قوة هذه الحركة عبر الوقت، بحسب هؤلاء الباحثين. مثل استخدام غطاء أيدلوجي مذهبي يقدم خطابه المتعاطف مع الأوضاع الصعبة للناس في المنطقة. وتيسر انتشار السلاح، ووجود داعمين ومتعاطفين لهم في مراكز حكومية. وأيضاً اللحمة القبلية السائدة في المنطقة، والتي قوّت من بُعدهم المذهبي. إضافة إلى التذمر السائد من النظام الحاكم وسوء إدارته للبلد. إن هذه المواجهات العسكرية وكما كتب أحدهم إنما هي (فتنة) تقتات على الخلل السياسي والاجتماعي الموجود. والفتنة تختلف في كونها قابلة لأن تتمدد، وتزداد، وتستقطب عبر ذهابها إلى مناطق أبعد. وهذا ما قد يجعل الجسد الحوثي يكسب مناطق وقطاعات لم يكن ليكسبها سابقاً قبل المواجهات. فاختلاط ما هو مدني بما هو عسكري، وتعقد الأوضاع في المنطقة. مشابه للأوضاع في أفغانستان، ولحكاية طالبان.

* * *

بمرور الوقت تعقدت الأوضاع في أفغانستان. عام 2009 هو العام الأكثر دموية على قوات الاحتلال في أفغانستان، من حيث عدد القتلى. وأيضاً من ناحية عدد القتلى من الجنود الأفغان. وبمرور الوقت أصبحت طالبان أكثر قوة من أي وقت مضى. التذمر من سلطة فاسدة، وسوء الوضع الاقتصادي، إضافة إلى وجود الاحتلال وضربات جوية غبية ولا مسئولة منه، قامت بقتل الكثير من المدنيين، كلها أمور قد جعلت السكان في حالة سخط وغضب. وكل من لم يكن طالبانياً قد أصبح أو مال إلى أن يصبح كذلك. فبحسب بعثة الأمم المتحدة إلى أفغانستان، فإن عام 2009 شهد أيضاً أكبر عدد من القتلى المدنيين في أفغانستان. وتقول المنظمة أن الأطراف الثلاثة كلهم مسئولون عن هذه الجريمة (طالبان-الاحتلال-الحكومة الأفغانية). ومع اشتداد الأزمة، أدركت أميركا حاجتها إلى تغيير سياستها. فكما كتب فريد زكريا مؤخراً أن أميركا لا يوجد لديها مشكلة مع ثقافة طالبان، وإنما مع الجزء الطالباني المتصل والمرتبط بتنظيم القاعدة. وكذلك فعلت كلينتون، وأوباما في خطابه الأخير حين أشار إلى إمكانية التحدث مع معتدلي طالبان. لقد أدركت أميركا أن غضبها واندفاعها (لاجتثاث) طالبان لم يكن لينجح... وفي منطقة صعبة التضاريس وقبلية كمثل المنطقة التي تحتضن طالبان، أو التي تحتضن الحوثيين. نجد أن الولاءات وصراعاتها وانتقالاتها قد تحدث عبر قفزات، ولذا فكما أن المواجهات قد بدأت من نقطة لم يعلمها أحد، فإنها ستنتهي أيضاً في نقطة لا يعلمها أحد... وكل ما يعلم هو أن أي زيادة في عمر المواجهات لن تكون من صالح أحد. خصوصاً أن المنطقة صعبة والقوى العسكرية الشعبية في هذه المناطق متداخلة مع المدنيين، مما يحتم وجود النتائج المأساوية. والدرس هنا أن حالة التذمر الشعبي الواسعة ضد حكومة فاسدة، وأوضاع صعبة، قد جعلت الجسد الطالباني يتمدد ويحظى بالدعم عبر الوقت، وهو ما يمكن أن يحدث في الحالة الحوثية.

* * *

لا نتحدث هنا عن الميدان العسكري، فللميدان رجاله الذين يعرفون كيف يتعاملون معه. والذين لابد أنهم أفضل من يثمّن ويعرف أهمية كلمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين قال أن السعودية لن تسمح لأحد بتدنيس أراضيها، وأنها في الوقت نفسه لا تقبل التجاوز على أحد. إضافة إلى التصريح السعودي المتكرر بأن هدف الضربات العسكرية هو لتطهير الحدود من المتجاوزين، وإبعادهم عنها مسافة كافية. ما نتحدث عنه هنا هو جانب التعاطي مع هذه القضية إعلاميا وشعبياً. فالذي يسمع ما يقال ويكتب من قبل البعض، يجد وكأنهم لا يريدون لهذه المواجهات أن تنتهي. فيكثر الحديث مثلا عن (الاجتثاث). ومن يتحدثون عن هذا الأمر يبدو أنهم لا يعرفون عن ماذا يتحدثون. فلا يوجد شيء على أرض الواقع اسمه اجتثاث. والقوم لهم ثقافتهم المخالطة والمتسربة في المنطقة، والتي لا يمكن عمل شيء حيالها عبر هكذا مواجهات. وكل هذه تعبئة شعبية عبر الانترنت أو إعلامية متعاطفة قد تفاقم وتؤجج المشكلة حين تربط المواجهات وبقاءها بالاجتثاث، أو بإيقاف التسلل، وحين تقدم لها بعدا طائفيا مضادا... فالاختلاف الطائفي ليس المشكلة هنا. كما أن التسلل لم يكن المشكلة بحد ذاته، فقد كان موجوداً قبل الحوثيين وسيوجد بعدهم، كشيء ظاهر ومعروف في حدود متسعة بين دولتين تتفاوتان اقتصاديا.. المشكلة كانت في محاولة التسلل من قبل جماعات هدفت لاعتداء وتخريب.

* * *

قبل سنوات كتبت لأصدقاء أصف لهم رحلتي إلى اليمن. وقد كتبت جملة لوصف خروجنا من صعدة، قلت فيها quot;خرجنا منها وقد حملنا معنا وجوه الباعة والأطفال.quot; أذكر أني تعمدت كتابة هذه الجملة (الشاعرية) تأكيداً على وصف وضع (غير شاعري)، كنا قد شاهدناه في تلك المنطقة، ومن ذلك فتية في عمر الزهور يحملون بنادق الكلاشنكوف على أكتافهم. وجوه الباعة والأطفال كانت تعكس الجانب المدني البسيط للمجتمع. تعكس ما يستحق العناية، وما يستحق التمدد، والحياة. لقد كانت صعدة ومنذ بداية التسعينات منطقة حدّة وتنافر، وبيئة خصبة لطلاب الصراع. وكانت صعدة، المنطقة التي تطورت فيها عبر الزمن مجموعات عسكرية شعبية، ولم يكن هناك لا منطق ولا رؤية سليمة لدى من سيطروا على هذه القوى. والحل للمنطقة اليوم يحتاج لأن يكون منطق تنمية ورعاية واحتواء أكثر من أن يكون منطق حرب وسلاح. وقد رأى بعض المراقبين أن الرئيس علي عبدالله صالح لن يكسب الحرب ضد الحوثيين ما لم يكسب من هم ضده في اليمن عبر انجاز حلول عادلة معهم، ومن ذلك المعارضة في اليمن الجنوبي. ولا يفترض لحكومة اليمن أو لحكومات الخليج أن ينتظروا طويلاً قبل أن يدركوا الحقيقة التي أدركتها إدارة أوباما عن أفغانستان، حين قال في خطابه الأخير quot;لكي ننجح هناك، الإستراتيجية تتطلب إشراك جهود مدنية ودبلوماسية.quot; الجهود المدنية والتنموية لا محيد عنها... ليس من أجل مطالب الحوثيين، فعلي ما يظهر فإن القيادة الحوثية لا تفكر ولا تريد أن تفكر، حيث لا تزال مواقعها تعرض مقاطع الفيديو للفتية الصغار وهم يلعبون بالنار... ولكن من أجل قطاع واسع وعريض من الشعب اليمني تكالبت عليه المشاكل، وانفتحت عليه منافذ الخلل السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لقد خلص كتاب (الحوثية في اليمن) إلى أن الحركة الحوثية quot;حركة تمرد تحت غطاء مذهبي لغاية سياسية، ومدعومة من جهات خارجية...quot;(ص،341). إذا هي فتنة حوثية قادرة بامتياز على مضاعفة سوء الأوضاع في اليمن. وسيادة منطقها الصراعي وانتشاره سيكون على حساب المنطق المدني والاجتماعي المنتج والبسيط الذي تفتقده المنطقة. وهو المنطق الذي يجب أن يستمر، ولابد من الوقوف ضد كل من يقوم بتعطيله ومنعه، سواء كانت المجموعة الحوثية، أو الحكومة اليمنية، أو أي جهة أخرى.

* * *

في دفتري الصغير عبارة أعجبتني كنت قد نقلتها من كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، تقول:
quot; قال عمر بن عبدالعزيز: ما أحسن تعزية أهل اليمن. وتعزيتهم: لا يحزنكم الله تعالى، ولا يفتنكم، وأثاباكم ما أثاب المتقين، وأوجب لكم الصلاة والرحمة.quot;


[email protected]