القارئ اليوم هو أكثر القرّاء حظاً عبر التاريخ. شخصيته الآن أكثر وجودية، وأكثر عمقاً. فهو لا يقرأ فقط، بل يكتب ويتفاعل ويعكس ما لديه. مساحة الفرد اليوم اتسعت، وهذا قد تم على حساب النخب، فقد تقلصت مساحتهم إلى درجة
غالبا ما نتساءل، عندما ننشر مقالا في إيلاف، من هو قارئي الافتراضي - الإيلافي هذا، إلى أي جيل، تيار، ينتمي، ماذا ينتظر مني حتى أكون في حسن ظنه، ما هو العنوان المناسب الذي يجذبه لفتح مقالي، أي موضوع قريب من قلبه وعقله، هل أغلبه أنثوي أم ذكري، وأية طريقة مثلى للتأثير فيه/ فيها، حتى أشعر أني ساهمت في التغيير الفكري والاجتماعي المنشود... |
كبيرة. وعندما اخترعت الطابعة قبل خمسة قرون، جن جنون النخب. فكيف يمكن للفرد العادي أن يمتلك الكتاب ويمارس القراءة بنفسه؟!! حين أصبح الفرد قارئاً، خسرت النخب ثقل دورها في تفسير الكتب للناس، وفي تلوين المعرفة بأمزجتها. وأتيح للفرد أن يطّلع ويمارس قراءة غير القراءة السائدة والمسيطرة. ولذا قد قيل أنه quot;لولا غوتنبرغ لم يكن كالفِن.quot; لقد قدّم رجل الدين كالفن قراءة مغايرة، ونشر تيار وخط البروتستانتية (الجديد)، ولم يكن ليفعل ذلك لو لم يكن جوتنبرج قد اخترع الطابعة قبل ذلك بوقت بسيط. واليوم، عبر ثورة الكتابة في الانترنت، أصبح الفرد يمارس الكتابة بيسر وكثافة. وكما أن الفرد قد أصبح بالأمس مشاركاً للنخب في القراءة، فهاهو اليوم يشاركهم الكتابة. بالأمس شاركهم في جني المعرفة، واليوم هاهو يشاركهم في صياغتها.
نعم، أصبح الفرد اليوم مشاركاً في عملية المعرفة. وردود القراء وتعليقاتهم على القطعة المكتوبة أو الخبر قد تقدم انعكاساً وربما تفسيراً، أو محاكمة لما هو مكتوب. المفاهيم والأعراف ومختلف الدلالات المعرفية تتشكل وتصاغ اجتماعياً وعبر الزمن. وعبر هذه القوة الملموسة التي وصل لها صوت الفرد اليوم، نستطيع أن نتحسس رأياً عاما يعبر عن نفسه بقوة، فالآراء اليوم تأتي بارزة وساخنة ومباشرة. صحيح أنها تأتي عادة بطريقة غير منتظمة ولا مرتبّة لأن القرّاء يأتون من مشارب وتوجهات مختلفة. ولكن ما يحدث هنا قد يكون مماثلاً لما تقول به نظرية الفوضى: في وقت الفوضى والحركة غير المنتظمة ينبغي أن تستمر الملاحظة لأن الأنساق سوف تبرز..!! وهكذا، لابد أن يبرز في النهاية نسق رأي عام، بارز، ومعبّر أكثر من غيره.
ولزمن طويل، كان هناك شروط اجتماعية وظروف شخصية منعت الإنسان من رؤية غيره. كان الإنسان يعتقد وكأن الأصوات الأخرى المغايرة له والمختلفة معه، قد وجدت بالصدفة، أو بالغلط. وأنه هو وحده صاحب الكيان السليم والمتناسق. والانفتاح والقدرة على التعبير الموجودة اليوم، لم ترحم ولم تستأذن أحدا. لقد أُجبر الفرد على رؤية العالم عبر زوايا مختلفة، وأصبح يسمع ويتشارك ويتحاور مع آخرين من غير اختياره، ومن خارج دائرة ارتياحه. صراع الرأي اليوم أصبح صراعاً يكون البقاء فيه للأصلح وللأكثر أهلية. الكثير من الجماعات والأيدلوجيات والأفراد أصبحت تغيّر من نفسها، وتعدل من رأيها. لم تعد تلك الكيانات المغلقة التي لا تريد مشاركة الآخرين، فهي اليوم مجبرة على مشاركتهم وعلى سماع رأيهم.
ولأن القرّاء يأتون من مشارب وأطياف متنوعة، يصعب على الكاتب اليوم أن يعرّف ويحدّد قارئه. خصوصاً في وسيلة نشطة ومفتوحة ومشهورة مثل (إيلاف) لها روّادها القادمون من كل مكان قد يوجد فيه إنسان عربي. تجربة ردود القرّاء وتعقيباتهم هي تجربة تنضج ببطء. وردود وكتابات القرّاء، تجربة تخبر عن حضور القارئ، وحضور رأيه، وهي ذات تأثير مهم. صحيح أن القليل جداً من القرّاء من يشارك ويمارس الحضور، لكن تأثير هذا القليل ليس ببسيط، فله تأثيراته التي تنتقل كالعدوى. فيكفي القارئ الآخر أن يرى غيره من القرّاء ممن يمارسون الحضور والاختلاف وإبداء الرأي، فيستشعر قدرته هو أيضاً على الحضور والاختلاف والمغايرة متى ما أراد. لقد خفت بذلك سلطة النص المكتوب، وسلطة الكاتب. في عالم الكتابة اليوم، الكاتب لم (يمت) كما أن القارئ ليس (بغائب). والقطعة المكتوبة اليوم لم تنتقل من ملكية الكاتب إلى ملكية القارئ، بل أصبحت قطعة تفاعلية بينهم، الكاتب يتبنى المبادرة ويرسم هذه القطعة، والقارئ يقدّم الانعكاسات عنها، والكاتب من ثم يتحول بدوره إلى قارئ آخر كامن يمكن أن يشارك في أي لحظة. وغير ذلك القرّاء اليوم يقدمون استثارات لا متناهية للمواضيع. فلطالما حاول الكاتب أن يكون موضوعيا، بينما القارئ المشارك قد لا تعنيه هذه الموضوعية في شيء، بل يشارك ليعبّر عما لديه بأقصى قوة واندفاع، وهو ما قد يأخذ الموضوع إلى أقصى اليسار حيناً، وحيناً آخر إلى أقصى اليمين. وهم بذلك قد يذهبون إلى مناطق أبعد مما ذهب إليه الكاتب.
بقي أن أقول أن حضور القارئ اليوم وظهور رأيه لا يعني تداخله مع كتابة الكاتب في حال من الأحوال، فهي بمعزل عنه. وصوت القارئ حين أصبح مسموعاً لا يفترض به أن يثير ضجيجاً في داخل رأس الكاتب. فكما قلنا أن تميز مشاركة القرّاء تكمن في فرادة كل منهم، وهذا أيضاً ما يعتبر مميزاً للكاتب في الأساس. حضور القارئ الكثيف والبارز قد يدفع الكاتب إلى التأثر وإلى محاولة التقرب من هذا القارئ وحوز رضاه، وهذا قد يداخل ويماثل بين عالمين متمايزين. فعلى سبيل المثال، قد يلجأ كاتب اليوم إلى التبسيط والتسطيح للكتابة من أجل كسب شريحة واسعة من القرّاء، وقد ينتقل من تبسيط اللغة، إلى تبسيط الأفكار أيضاً. وهذا ما يكون على حساب الكتابة نفسها..!! هل القارئ اليوم هو قارئ جديد ذو نفس مختلف وطويل ومتمكن؟ نستطيع الإجابة بنعم، وإلى حد كبير.. ويخبر الروائي الإيطالي (امبرتو إيكو) أن القارئ اليوم في حاجة إلى من (ينهكه). وفي مقابلة أجرتها معه الكاتبة اللبنانية جمانة حداد، يرد إيكو على سؤال حول صعوبة كتاباته بالقول quot;...لقد ملّ الناس الأشياء السهلة. إنهم في حاجة إلى تجربة متعبة، معقدة تنطوي على تحديات كفيلة أن تشعرهم بالرضا عن أنفسهم، وعن قدراتهم الفكرية.quot;
التعليقات