قبل شهرين من موعد انتخاباته البرلمانية التي ستقام في شهر مارس القادم. يبدو المشهد السياسي ساخناً في العراق. تأتي انتخابات العراق اليوم والدول العربية يقال عنها أنها تتخذ مسارين: دول اعتدال، ودول ممانعة. أمّا العراق فعلى ما يبدو أنه يراد له مسلك ثالث وهو مسلك (القطيعة). لقد تضافرت العوامل التي سحبت العراق بعيداً عن العالم العربي. شدّة التقويض لبنية الدولة في عراق ما بعد الاحتلال، جلبت قوى معارضة سابقة ومتربصة ملأت الساحة السياسية العراقية. هذه القوى قدّمت بُعداً طائفيا واضحاً في الانتخابات السابقة. أيضاً، شتات مفكرين عرب، شعوب متجاورة بأمزجة رديئة، ومجموعات داخل العراق و خارجه تشحن احتراباً طائفياً وسياسياً لا ينتهي؛ كلها عوامل أرادت للعراق أن يتخذ مساراً مختلفاً ومتباعداً عن المسار العربي. هذا ما شوهد من إدارة العراق خلال السنوات الماضية. وسببٌ رئيس خلف ذلك كله، كان التوجه السياسي الذي استخدم المكوّن الطائفي في البلد. فذهب بالعراق بعيداً، وخلق به كياناً متنافراً (شبه ثوري) غير قابل للتواصل والتعاضد. وجعل منه صورة مصغرة ومماثلة للنموذج الإيراني المجاور، ومصبوغ بصبغته التي ألبست السياسة ثوب الثورة.

* * *
وضع الانتخابات القادمة سيكون أفضل من تلك السابقة، ولكن قليلاً. فقد خفت كثافة التأييد والتعلق بالمرجعيات الدينية، التي أفاد بعضها من الاحتقان الطائفي الشديد فيما قبل انتخابات العام 2005. وأيضاً خف التعلق بالزعامات العشائرية، والتي توزعت الآن عبر التكتلات الانتخابية. ومع ذلك فلدينا اليوم المجلس الأعلى الإسلامي العراقي -سابقا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تأسس في طهران- وهو يتصدر أٌحد التحالفات التي لها أوفر الحظوظ في الانتخابات، بجانب ائتلاف دولة القانون. والنخب التي صنعت هذا الائتلاف الأخير قد قدّمت صورة مباشرة للقطيعة ولاستخدام المكوّن الطائفي سياسياً خلال السنوات الماضية. ويحكى اليوم أن هذا الائتلاف يصارع للخروج من إطار طائفيته الضيقة..!!

* * *
وعلى مدى قرن من الزمان، تلوّن العراق بألوان متعددة. فكان العراق المحتل، فالعراق الملكي، فالجمهوري، فالعسكري أو البعثي. وأبعد ما يريده العراق اليوم هو أن يكون عراقاً (ثورياً) محاكياً للنموذج السياسي الإيراني. لقد بدأ العراق في سنواته السابقة متفرداً ومنفرداً في نهجه السياسي، ومغترباً عن العالم العربي. صحيح أن العراق يصارع ظروفاً داخلية صعبة، ولكن جزءاً من حل هذه المشكلة لم يكن أن يتباعد العراق عن العرب، وأن يكتفي ساسته بإلقاء اللوم والتهم.. واحتراف القطيعة. ما يريده العراق اليوم هو أن يكون لديه إدارة سياسية ذات شخصية قوية، تعرف إلى أين تأخذه، وكيف تبني علاقات العراق وتموضعه، ومع العرب قبل غيرهم..!! ففي هذا العالم الحديث الذي نعيشه اليوم، نجد أن أكثر الصياغات السياسية وأحسنها قد تمت عن طريق مفاهيم التعاون والارتباط والتعاضد، فعبر ذلك يتم خلق جو من الهدوء والتنمية. وكثير من القوى والتشكلات السياسية في العالم قد حققت ما تريد عن طريق ذلك. ولا يوجد نظام كان أكثر ثوريةً وادعاءً وغباء من نموذج صدام، الذي جر الويلات على العراق وجعله في النهاية مكاناً ترتع فيه عصابات الشرق والغرب. لذا فآخر ما يريده العراق اليوم هو مقاربة مثل هذا النموذج، حتى وإن اختلفت التسميات واللبوس.

* * *
ويرى بعض المفكرين من الشيعة أن الثورة الإيرانية قد أحدثت نقلة واسعة في وعي الجماهير الشيعية. حيث نقلت هذه الجموع من الرفض والتضاد مع الواقع السائد ومع منطق الدولة، إلى إقامتها بطريقة ثورية وشاملة ومفاجئة. أي انتقل هذا المكون من الرفض التام للدولة الذي كان غالباً في تاريخه، إلى السيطرة التامة عليها. والإشكال أن هذا النموذج لم يقبل أن يكون مكوّناً ضمن المكوّنات الأخرى ومتجاوراً معها. لذا تحدث أحد الكتّاب الشيعة عن هذا الحدث الإيراني الذي أنتج هوّة سحيقة quot;حدثت بين الاستقالة من الواقع والتماهي فيه تماهياً كبيراً، معبراً عن نفسه في رفض شرعية الدولة الدنيوية غير الخاضعة لولاية المعصوم، إلى وجوب إقامة الدولة بطريقة ثورية حرمت الشيعة وتحديداً علمائهم من التنظير لفكر سياسي/ حقوقي/ دستوري، أي فكر خاص بوطن ودولة. فالانتقال الفجائي كان عاصفاً، ولذلك فإن ما نلاحظه طوال عقدين من الزمن هو مجموعة طروحات ثورية لدولة الفقيه... بكلمات أخرى لم يطور الشيعة مذّاك مفاهيم تتصل بمجالات التعايش، التعددية، التسامح، المواطنة، المشاركة، الموقف من الرأي الآخر، العلاقات المفترضة بين الحركات الثقافية والاجتماعية المختلفة في الدولة الواحدةquot; (فؤاد إبراهيم، الشيعة في السعودية، ص108). هكذا، نجد أن ذلك التوجه السياسي الحاد الذي حدث في إيران حين ولد المذهب مع الدولة في لحظة واحدة، يراد له أن يحدث مع عراق اليوم. حين يوحي بالتعددية، ولكن في العمق يكون التوجه حاداً لا يقبل بصيغة تجاوره. نموذج الثورة الإسلامية لم يكن نموذج مشاركة، بل هيمنة. على سبيل المثال، يعلم أفراد النخبة الحاكمة في إيران أن المكوّن الليبرالي هو بعد أصيل في جسد المجتمع الإيراني -نخبة وأفراد-، وقد حاولوا خلال ثلاثة عقود احتوائه وزَعم قبوله. ولكن شاهدنا مؤخرا كيف كانت ردّة الفعل حين حاول هذا الجسد الليبرالي تجاوز ما هو مُحَدد له سلفاً..!! أرجو أن يكون واضحاً أن هذا النقد هنا ليس للمذهب أو الطائفة، بل عن هذا التوجه والتخندق السياسي الذي هو سرقة واحتكار للشيعة في العراق، قبل أن يكون احتكاراً للشعب ككل. فالشيعة في العراق لهم مشاركتهم وإثرائهم واندماجهم السياسي المتعدد منذ بدايات تكوّن الدولة. وهم كيان واسع ومتنوع الملامح، وليس كمثل هذه المسارات السياسية الأحادية التي تقوم باستثماره.

* * *
قد يقول البعض أن الإدارة العراقية لن تكون صورة مصغرة عن، ولا توجهاً مماثلاً لتوجه السياسة الإيرانية، لأن أميركا موجودة في العراق. ولنا أن نسأل: ومن يقول أن هذا التوجه لا يتقاطع مع الرغبات الأميركية؟!! إضعاف العراق ومنعه من أن يكون قوة إقليمية في المنطقة هو هدف أثير ومعروف عن الحرب الأخيرة. والغرب لا يود أن يشاهد العراق يوماً وهو مثل تركيا أردوغان- يتحدث عن غزة مثلاً..!! ولذا فالسيطرة والتغلغل الإيراني في العراق قد تمت تحت أعين وتسهيلات أميركية. فلا توجد طريقة لإضعاف كيان ما أسهل من جعله يتخذ الدرب السياسي المؤدلج والغير واقعي. لقد تنفست السياسة العراقية النفَس الثوري الإيراني، وأول ملامح ذلك كان التباعد عن عروبة العراق، وعن تعاضده العربي. ويُستشف النفَس الثوري لأي نظام عبر حِدّة ومحدودية علاقاته الخارجية، وعبر كونه لا يقبل التجاور داخلياً مع كيانات أخرى. فكيف يمكن لحزب ديني سياسي أن يدرك ذلك وقد دخل السياسة عن طريق منطق تكتل طائفي..؟! هذا التوجه الرئيس في عراق اليوم قام بتعميم صبغته وسيادته، وبناء على ذلك تم شطب أسماء مهمة وفاعلة من المشاركة في الانتخابات، مع إحداث اندماجات وتوسعات حديثة في التكتلات السياسية. يبدو أنها ليست إلا لتقوية العصب الأساس الذي جُذبت إليه، مثل حزب الدعوة، والمجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري.

* * *
قبل قرن من الزمان. كان في إدارة العراق النخبة الشريفية السابقة، والتي التفت حول الملك فيصل مع بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة. وهذه النخبة كان منها من أقام وتدرب في اسطنبول، وكان ولاءها عثمانياً. ولكن مع بداية الدولة العراقية الحديثة، انقلبت هذه النخبة على ولائها السابق، وجعلت الأولوية لولائها الوطني، وعرف عنها اهتمامها العروبي الذي جعلها تلتفت بقوة لتحقيق التعاضد العربي، ولبناء مصالح العراق وعلاقاته. فهل نخبة العراق السياسية اليوم، والتي منها من أٌقام في إيران وفتح مكاتبه فيها، ستبدّل ولائها وتلتفت للعراق الجديد ومصالحه وعلاقاته..؟!!

* * *
وفي ظروف مشابهة لظروف العراق اليوم. كانت تلك النخبة في العراق الملكي قد ورثت عراقاً بظروف صعبة. في ظل احتلال أجنبي، ووجود كيانات منقسمة لم تستوعب بعد فكرة الوطنية. وممتدحاً لجهود تلك الفترة، يقول المؤرخ العراقي مجيد خدوري في كتابه (العراق المستقل)(1) أن تطور العراق كان محتّماً ومضموناً، مقارنة بالمعايير الحاضرة في ذلك الوقت. فقد حاز العراق شكلاً حديثاً للدولة، تضمّن مشاركة شعبية واسعة في العملية السياسية، وكان التفاؤل والتعاضد يحفّ الدولة مع بداياتها، وكثير من كيانات الدولة توافقت على الملك فيصل وإدارته. وهو الذي كان واقعياً عملياً في علاقاته مع القوى داخل العراق وخارجه. الملك فيصل ومن بعده رئيس الوزراء نوري السعيد كانوا قد أدركوا جيداً أهمية الواقعية السياسية وعدم الانسحاب وراء نموذج مثالي وشعاراتي. يُنقل عن نوري قوله عن نفسه أنه واقعي يتمثل الظروف وبعيد عن المثالية، وهذا ما صدّقته أفعاله. نعم، كان لدى نوري سياسة استبدادية وأخطاء لا تغتفر في الداخل. ولكن نحن هنا في مقام الحديث عن قدرته البارعة على هندسة الحياة السياسية للعراق الحديث. ومن ذلك عقده للتحالفات والارتباطات الخارجية، والتي كان آخرها حلف بغداد الذي أُتهم بعده بالخيانة. وتذكر سعاد محمد صاحبة كتاب (نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية) أن نوري كان قوياً في علاقاته مع بريطانيا وغيرها، ولكنه كان يصنع هذه العلاقات عن عقيدة، فقد كان يرى أن مصلحة العراق تُبنى على مثل تلك العلاقات. ويذكر مجيد خدوري في كتابه الآخر (عرب معاصرون) أن نوري كان quot;يتحلى بصفتين بارزتين: الشجاعة والاستقامة. إلا أنه لم يكن زعيماً شعبياً. وفي الوقت الذي كان فيه خطباء متقدون حماسة أمثال عبدالناصر وبورقيبة وغيرهما يثيرون الجماهير ويلهبونهم، كان نوري يحاول اللجوء إلى الحكمة والعقل بدلاً عن العواطف والانفعال.quot;

* * *
في سيرته، يعرض رئيس الوزراء العراقي الراحل توفيق السويدي صورة لجنود الانقلاب في 58 وهم يدوسون على صور للعائلة المالكة. وفي مقابلها يضع صورة (مناقضة) لجنود انقلاب آخر بعد ذلك بفترة وهم يدوسون على صور لقائد الانقلاب الأول عبدالكريم قاسم. ويعلق السويدي quot;إنها سنّة الانقلابات فيا ليتهم يتعقّلون.quot; كل ما يحتاجه العراق اليوم هو أن يكون هادئاً هدوءاً يحرضه على التنمية والإنجاز. الخلاصة هنا أن هناك أنفاس ثورية قد خطفت العراق قبل نصف قرن من الزمان، وذهبت به بعيداً في نفق مظلم. لذا فالحذر اليوم أن ينسحب العراق في أنفاس ثورية أخرى تأتيه عبر لبوسٍ مُبهمة. فللنخب المتسيّدة طرقها الخفية، وأساليبها المتعددة، التي تجعلها تذهب بعيداً قبل أن يتنبّه لها الناس. لذا راقبوهم جيداً. راقبوا أهل الشعارات.. راقبوا من (يسرق الجماهير).
[email protected]

(1) Khadurri، Majid. 1960. The Independent Iraq. p، 30.