في أي مجلس من مجالسهم، يكثر لدى العرب اليوم السخط والتذمر. الوعي لدى العرب اليوم هو وعي (نكد). وهو مرحلة بين المرحلتين: اللاوعي بالكلية، والوعي المثمر المنتج. هذا الوعي يقف عند المشاكل، يتعرّفها، يلتهمها، ويجمدها أمامه. يعتاد العربي المشاكل ويستملحها حتى ينتهي إلى عمر قصير مملوء بالمشاكل والرزايا...

* * *
المدن العربية أمست مدن الموات واليَبَاس. تضيق مدننا العربية -الحديثة أو العتيقة- بهذا العربي الذي لا تستلطفه. هذا الذي أماتها من داخل رحمها، وأبدلها روحه الميتة. مدنٌ من الشرق والغرب ترفل في ثيابٍ مزينة، ومدائن العرب تلبس الرقيع والخَرم. مدن كثيرة في العالم اليوم تعيد نسج نفسها وتجديد حياتها وحياة أهلها. أمّا المدن العربية فتتوسع وتتطاول بناياتها، ولكن لا يتجدد مع أهلها إلا التعسير والنكد. مدننا الجميلة والعريقة التي نحبها صارت إلى موضع تهمة، أصبحت تكبر إلى هرم وتتسع إلى ضيق. نظن أنها مدن شحيحة صمّاء، وليس غيرنا من جلب لها الموات. المدن العربية اليوم -مع استثناءات قليلة- مسكونة بالخوف، وكل آلة ذهنية في رؤوس أفرادها تنتهي إلى ظلٍ تعس ودرب مسدود. العرب اليوم ينتظرون على الرصيف، ويراقبون أرصفة المدن وهي تتناقص وتختفي من أمامهم. العربي اليوم كائن غير مرئي. ومن وراء غيابه، يروق لنا أن نبيع الكلام لبعضنا حول من سبق الآخر في الاختفاء: العربي أم الرصيف؟!! هل عطالة (الوظيفة) هي التي منعت ظهور (العضو)؟، أم أن فشل (العضو) هو الذي خنق وجود (الوظيفة)؟!!. ولنتأمل حديث أحد الشهود من الخارج عن المدينة العربية اليوم. المستعرب والأستاذ بجامعة طوكيو الياباني نوبواكي نوتوهارا قضى أربعين عاماً من عمره دارساً ومعلماً للعربية، وزائراً مستمراً للمدن والأرياف العربية. يقول في كتابه (العرب): quot;في الآونة الأخيرة عندما أزور القاهرة، فانني أتجه مباشرة من المطار إلى بيوت أصدقائي وأتجنب مدينة القاهرة وشوارعها. وهذا الواقع يشعرني بالكآبة: أنا أجنبي أكره الشوارع وأكره الأسباب التي أدت إلى هذه الكآبة، ومشكلتي تنتهي بخروجي من القاهرة. بينما يشعر أصدقائي أضعاف ما أشعر به ولكنه وطنهم وعليهم أن يتابعوا الحياة بكل توترها واختناقها هناك... الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين. الناس صامتون لا يتحدثون ولكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت الخانق، صرخة تخبر عن نفسها بوضوح وقوة.quot; وكمراقب، يتقصى الباحث في كتابه بعض العلل التي أصابت العربي بالاكتئاب والهمود. ومن ذلك، فقدان العدالة الاجتماعية، غياب حرية الرأي والكلام، القمع، والغياب الجماعي للمسؤولية، ولقيمة النقد الذاتي. ويعلن أن أكثر الأمثلة غرابة عليهم كيابانيين، وما تعجز عقولهم عن فهمه، هو ظاهرة المهرجانات الشعرية الكثيفة التي تقام في البلدان العربية. حين يستضاف الشعراء النجوم في أفخم الفنادق من أجل أن يقدموا قصيداً زاخماً بالمديح والتملق الكاذب..!!

* * *
ذات عاصمة عربية، ركبت مع سائق تاكسي. منذ أن ركبت صرخ السائق بصوت مزعج quot;مرحبا يا أخا العرب،quot; وفي الطريق أخذ السائق يتغنّى بالعرب والعروبة، وهو قاصدٌ للتهكم بطريقة رخيصة. أوقفته في الطريق وغادرت وفي خاطري شتمه، وشتم سيارته التي أدمنت رائحته، والمدينة التي اكتظت بأمثاله. العربي صاحب المزاج السيئ هو بيننا أكثر من فطر الأرض. أصبح العرب ومنذ عقود طويلة في حال أزمة. فالمخيلة المسيطرة، والخطاب السائد عندهم لا يقدمان سوى المزيد من المشاكل والعقد. ففي الستينات وبعد مرحلة الاستقلال كان الخطاب العربي السائد مشحون ومعبأ بالحديث عن التحرر والتنمية ومحاربة الامبريالية والانطلاق والتقدم.. لكن كل هذا اختفى وأتى في مكانه خطاب آخر معاكس مملوء quot;بوصف لا ينتهي للتخلف وآلياته، وللسقوط والإخفاق وتبعاتهquot; كما يقول برهان غليون. هكذا، انكسار الوعود كسر معه الروح العربية، وخطاب التقدم الأوحد وهزيمة الأمم، انقلب إلى جلد الذات لأنها في ذيل الأمم، تصديقا واتباعا لقول شاعرنا العربي أننا أمّةٌ لا توسط عندها لها quot;الصدر دون العالمين أو القبرquot;!!. الحديث المرير عن العرب وإخفاقهم وتخلفهم حديث مستملح. يعشوشب عندنا في كل خطاب ومجلس وزاوية، وكأننا قد تعهدنا بنقل خطاب الإخفاق وأدبياته للجيل الجديد من أطفال العرب وإشراكهم فيه. الخطاب المتسيد الأخير كان أعنف الهزائم التي حلت بالعرب، لأنه ينحت نفسه ثقافياً فيخلق ذاتاً مهزومة من الداخل.

* * *
مشكلة العرب اليوم مشكلة وقلق وجودي. لا يشعر العربي بأهمية رؤيته للحياة، وأنها رؤية يجب أن تأتي من داخله... وداخله فقط. وتبعاً لطريقته لا يشعر أبداً بقدرته على التأثير ولا القدرة على الوجود. ولو قدر لي أن أرى الشخصية العربية متجسدة في رجل، لتخيلته رجلاً ذا طاقةٍ مهدورة، مرتاب من الحياة نفسها قبل الناس، ويلعب دوماً دور الضحية، بينما حشوةُ جلده تخبئ قلب جلاد. العربي ينسحب مقهوراً من الحياة إلى عالمه اللغوي والتنظيري، ولم يمتلك يوماً أدوات التطفل على الحياة والتي أستعملها غيره من البشر. أفضل أزمانه حين كان طفلاً، لم يرتد بعد اللبوس والأردية الذهنية واللغوية التي تباع في سوق العرب. خامدٌ لا يوجد ما يدهشه، ولا يريد أن يتعلم ويراكم الخبرة، ويستكثر أي جهدٍ يقوم بتقديمه وهو المقل. وفوق هذا، رجل حدّي لا يعرف الوسط، يغضب بسرعة وينسى بسرعة. في كل يوم يحصد المزيد من نفس أخطائه السابقة، وكأنه بلا ذاكرة. يصح القول بذلك أنه كائن لا تاريخي، وهذا ما يجعله يخسر دوما..!! لقد قالوا أن الإنسان حيوان (ناطق) وقالوا أنه حيوان (اجتماعي)، ولكن في كتابه (أيام لها تاريخ)، يؤكد الراحل أحمد بهاء الدين أن الفرضية الصائبة هي أن الإنسان (حيوان له تاريخ). فالحيوان يمارس النطق، وقد يجتمع مع غيره من الفصائل، ولكن من الصعب عليه أن يتبنى تاريخاً يستفيد منه... يقول بهاء الدين quot;... فالأسد أو القط أو الكلب الذي كان يعيش في الأرض منذ ألف سنة لا يمكن أن يختلف عن سلالته التي نراها اليوم في الصفات والطباع ونوع الحياة... وعلى العكس من ذلك الإنسان، إنه يعرف ما أصاب أسلافه بالأمس، ومنذ مائة سنة ومنذ آلاف السنين. فهو قادر على أن يتجنب زلاتهم، ويستفيد من تجاربهم، ويضيف إلى اكتشافاتهم.. كل جيل لا يبدأ من جديد، ولكن يضيف إلى ما سبق، وهذا هو التقدم...quot;

* *
في زمانه، قال الفيلسوف ابن رشد عاتباً على الأحوال الاجتماعية التي همشت وجود المرأة quot;.. حياة المرأة تنقضي كما تنقضي حياة النباتات، لقد كان ذلك سبباً في شقاء المدن وهلاكها.quot; واليوم تشقى المدن العربية لأن الرجل والمرأة -على السواء- يعيشان فيها كما النبات، نمواً فقط. فالعربي يقضي حياته مطارداً للطبقة الأولى والأساسية من (هرم الاحتياجات الإنسانية)، ولا يوجد لديه مكان يمارس من خلاله النشاط البنائي والإنتاجي، ولا فائض وقت أو طاقة يمكنه من تمثل رؤية ذوقية تنسج الحياة أمامه من جديد. أؤمن أن ما يقف خلف ذلك كله هو مسألة ثقافية، قبل أن تكون سياسية أو اجتماعية. وأزعم (ومزاعمي كثيرة) أن العلة الرئيسية في بنيان العرب الثقافي هي أنه ذا تركيبة أبوية. (النظام الأبوي) يستبطن أوردة المجتمع العربي ويزرع نفسه في كل منبت فيه، وهذا هو حديث المقال القادم.

[email protected]