quot;الإسلام هو النفي التام (النقيض) لأوروباquot; (الكاتب الفرنسي أرنست رينان في الكوليج دي فرانس 1862)

الكتب التي تتحدث عن الإسلام لا تزال تمثل إحدى موجات الكتب التي تصدر حديثاً في الغرب. في السنوات التي تلت هجمات سبتمبر كانت الكتب الجديدة تتحدث بشكل مباشر عن الإسلام، وعن (الإسلام السياسي) ومواجهته للغرب. أمّا الآن، فالكتب الحديثة تتركز حول تأثير الإسلام الديموغرافي الناتج عن تزايد المسلمين في الغرب، ومن ثم عن تأثير (الإسلام الثقافي)، وعن اتجاهه ليصبح جزءاً منتظما في الجسد الغربي. هذه الكتب تُعرض دوماً في الأماكن البارزة المخصصة للكتب الحديثة والمهمة في المكتبات الغربية، مما يدلل على حيوية الموضوع واهتمام القارئ الغربي به. فالإسلام الذي أطل على الغرب منذ زمن طويل، منذ أن تجسدت إطلالته عبر منائر صقليه والبلقان واسبانيا، لا يزال ذلك المكوّن الذي يتمنّع العالم الغربي عن احتضانه وقبوله كجزء منه.
الثقافة الإسلامية تولد اليوم في الغرب. ليس بالضرورة لأن المسلمين مؤثرين ومقنعين، ولكن لأن الثقافة الإسلامية نافذة مفتوحة للغرب ليتأُثر بها، فالغرب الحديث لديه تاريخ طويل من التماس والتمازج مع الحضارات الثقافية الأخرى، والإسلام هو أحد هذه المكوّنات القابلة للاندماج والتمازج مع الجسد الغربي المفتوح. إضافة إلى أن الأجيال المسلمة الجديدة في الغرب تقف على أرضية صلبة حين اكتسبت حقوق المواطنة الكاملة نتيجة لتواجدها لجيل أو أكثر هناك. هذا التواجد الثقافي ولّد الصراع من خلفه. والصراع الثقافي صراع حسّاس وخفي، يختبئ في ما وراء الصراعات واضحة المعالم، لأنه صراع في العمق ويحدث على مستوى الحياة البسيطة. التي تعني حق أحدهم في ممارسة ثقافته وعبادته وفي إنشاء مدرسة لأبنائه ومعايشة أدبياته بالشكل الذي يريد من غير مضرّة لنفسه أو لغيره...
المفارقة اليوم تتمثل في أن الثقافة الإسلامية هي التي تمثل (الآخر) في الوجدان الجمعي الغربي، وفي نفس الوقت تمثل الثقافة التي تنمو سريعاً فيه وتتجه لأن تكون جزءاً منه. الفرد الفرنسي أو الأميركي قد يتحدث كثيراً عن التحرر والانفتاح والتسامح، لكن في النهاية يصعب عليه أخذ هذه المفاهيم بعيداً مع (الآخر) الذي يقترب لأن يكون جزءاً من الذات. فالآخر هو (الغير) وهو (الخارج) الذي لا تعرف الذات الغربية نفسها إلا عن طريقه. هذه الذات قد تجيد التعامل مع الآخر لكن يُشكل عليها أمر التقارب معه.
في إحدى الجامعات الأميركية كان لدينا مادة عن (الهجرة الدولية في العالم المعاصر). أذكر أن أحد الطلاب وهو شاب أميركي أبيض محافظ وقف أمامنا في تلك المادة ليتحدث وكان مما قاله أن لا مشكلة لديه مع احتضان المجتمع الأميركي لمختلف الأقليات والثقافات. ثم أكمل وهو يرمقني بابتسامة خفيفة quot;إلا الإسلام، فالإسلام يمثل خطر على الثقافة الأميركية كلها، ويمثل خطاً لا يجب أن يصل إليه المجتمع الأميركي.quot; هذه صورة شائعة في أميركا وتمثل معضلة لدى الكثيرين، بين وجوب كفل الحريات المدنية، وبين تمدد ثقافة يعتقد أنها تمثل تهديداً متعاظماً للمجتمع. نخب ومؤسسات كثيرة تنفخ الآن في هذا التهديد وتمارس تضخيمه والاستفادة من الرعب الاجتماعي لصالح دوافع سياسية أو دينية. وصل الأمر أن الملصقات والدعاية ضد الوجود الإسلامي تعتبر مفتاحا للمكسب الشعبي، هكذا فعل حزب الفرنسي اليميني جان ماري لوبان، وحزب اليميني الهولندي فيلدز، والحزب اليميني السويسري.
يرى الباحث الألماني مراد هوفمان أن الناس في الغرب عادة لا يكون لديهم مشكلة حين يصبح واحدهم بوذياً أو غير ذلك، فهذا أمر متعلق به، لكنهم يتوقفون عندما يصبح مسلماً. ويعتبر أن السبب خلف ذلك أن الإسلام لديه (تشريع) يقوم بتشكيل حياة الفرد الاجتماعية والسياسية وغيرها.. وفي كتابه (الإسلام في الألفية الثالثة) يقول هوفمان أنه بناء على استبيان تم في ألمانيا فإن نصف الشعب الألماني فقط يرى أن يمتلك المسلمين في ألمانيا نفس الحقوق التي يتمتعون هم بها.. وهناك على ما يبدو درجة من الرغبة في الاختيار الانتقائي للمسلمين في الغرب، فيميل الغرب لأن يتحصل على مسلمين متشبعين بالثقافة الغربية حد المماثلة. لذا يذكر الباحث أن هناك نمط أسئلة شائعة تجاه المسلمين من قبيل: quot;لماذا لا تستطيعون أن تكونوا مثل هؤلاء المثقفين؟ فهم لا يريدون بناء مساجد، ولا يحجون، ولا يصلون دوماً، كما أنهم يتناولون الخمر ويسمحون لنسائهم بالخروج مكشوفات الأذرع. أوليسوا هم الآخرين مسلمين؟!!quot;(ص، 268). الضغط الثقافي لا يأتي عبر صورة مباشرة، وقد لا يكون له ملامح تمكن من اصطياده بوضوح، لكن من المؤكد أن له تأثيرات بالغة الأهمية على المدى البعيد. يذكر هوفمان أن الصورة اليوم اختلفت، وان ضدية الغرب السابقة في شعار quot;كنيسة واحدة، إله واحد، وملك واحدquot; قد استبدلت اليوم بشعار quot;ثقافة واحدة، تكنولوجيا واحدة، نظام عالمي واحد.quot;
أصحاب الاختلاف، وخصوصاً أهل الأديان، لا يزالون في جدال حتى يذهب بهم الموت. ليست هذه المسألة... مسألتنا هنا هي مسألة (مدنية) لها جانبين، الأول هو ألا يتم تحجيم الثقافة الإسلامية في الغرب وتحجيم مؤسساتها مادامت الدول الغربية قد قبلت المسلمين واحتضنتهم كمقيمين ومواطنين. والآخر هو ألا يتضرر الوطن الغربي من المسلمين الذين أصبحوا جزءاً منه، فيكون وجودهم وجوداً سلبياً حين يرفض معظمهم أن يُدرج الوطن الغربي الذي يعيش فيه ويحمل جنسيته في خانة انتماءاته.. للغرب الحق في المحافظة على هويته، لكن ذلك ليس له أن يمارس تحجيم التمدد والتواجد الإسلامي بطريقة أو بأخرى. المؤسسات الإسلامية في الغرب أٌقل بكثير من أن تفي باحتياجات الأعداد الكبيرة للمسلمين في الغرب. وإيجاد هذه المؤسسات، أو عملية إنشاء جامع لا زالت عملية معقدة في أكثر الأماكن في العالم الغربي.
لقد مثلت أوروبا وأميركا حاضناً مناسباً للمهاجرين المسلمين، في ظل دول حديثة ذات نظام مدني متطور. وكان الأمر على العكس مما حدث لهم مثلاً في أميركا اللاتينية. فمنذ بداية القرن الفائت، توافد المهاجرون المسلمون والعرب بأعداد كبيرة على دول مختلفة في أميركا اللاتينية. وكانت تلك المجتمعات قاسية على المهاجر، ولا تتقبل الاختلاف، كما جاء في كتاب (الجاليات العربية في أمريكا اللاتينية)(1). ولذا وتحت وطأة هذه القسوة، مال الآباء المهاجرون إلى عدم الحرص على تلقين أبنائهم نفس ثقافتهم الأم، رغبة منهم في عدم تعريض أبنائهم لنفس المعاناة التي عانوها مع مجتمعاتهم. مثال ذلك ما ذكره الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم في لقاء تلفزيوني، حيث قال أن والديه كانا مسلمين يؤديان الصلاة، لكن لم يأمرا أبنائهم بها. لذا منعم لا يعتبر أنه كان مسلماً من قبل، حتى يقال أنه قد تخلى عن دينه. وفقاً لذلك تم استيعاب الأجيال المسلمة التالية استيعاباً ثقافياً في أميركا الجنوبية، فكان للثقافة الإسلامية وجوداً خافتاً ضئيلاً مقارنة بأعدادهم هناك. وهو المصير الذي نجت منه الثقافة الإسلامية في أوروبا وأميركا الشمالية، حين أتيحت للمسلمين العديد من الحريات المدنية. لولا أن هذا الوجود محاط بمستقبل غامض، نتيجة للصدام الحاصل الناتج عن تزايد الفوبيا من الإسلام، وتزايد المسلمين في الغرب..
عوامل متنوعة ساهمت في تأزم هذه العلاقة بين المسلمين وأوطانهم الغربية، وتتفاوت ردة فعل المسلمين ومواقفهم تجاه ذلك. يرى الدكتور أكبر أحمد كما جاء في كتابه (الإسلام تحت الحصار)(2) أن المسلمين في الغرب تسود لديهم إحدى استجابتين تجاه مجتمعاتهم، إما سياسة الاشتمال inclusion الداعية إلى التفاهم والتوافق والاندماج، أو سياسة الرفض والمواجهة والابتعاد exclusion. لابد أن نعرف أن التيارات والأفكار الإسلامية الرائجة لدى الجزء الأكبر من الجسد الإسلامي هي تبع لهذا النمط الأخير، نمط الرفض والانغلاق. وهذا ما قد يمثل فرصة لمسلمي وعلماء الغرب من المسلمين للتحرر من الخطاب الضيق والحرفي للإسلام الذي لا يزال يمارس تقسيم هذا العالم المترابط إلى دار إسلام ودار كفر. فكثير من العلماء والمفكرين المسلمين أنتجوا أعمالهم الخلّاقة في الغرب، بينما كان ينتظرهم في الشرق إما التهديد بجهنم، أو السجن. يكون الأمل أن الأجيال الجديدة للمسلمين في الغرب قادرة على خلق خطابها المناسب، متحررة من التبعية، ومقدّرة لثقافتها وأوطانها. بذلك يكون ثقل هذه الأزمة معتمد عليهم بالدرجة الأولى. من ناحية قدرتهم على إنتاج خطاب إسلامي تنويري وعقلاني، وعلى الضغط المدني المتواصل لتحصيل الحقوق.


* * *
هذا الفلم القصير المرفق مع المقال أنتجته مؤسسة كندية عن التأثير الديموغرافي للإسلام في أوروبا وأميركا الشمالية. الفلم لا يخلو من المبالغات والدعاية المضادة للوجود الثقافي، لكن مشاهدته هنا تقدم مثالاً للقارئ العربي على العمل المؤسسي الممنهج للتخويف من الوجود الإسلامي في الغرب.

[email protected]

http://www.youtube.com/watch?v=6fp29Nr29vw

(1) الجاليات العربية في أمريكا اللاتينية. 2006. مركز دراسات الوحدة العربية.
(2) أكبر أحمد. 2003. الإسلام تحت الحصار. دار الساقي، ص165.