بعد انكشاف لعبة الموساد، وفشلها في تنفيذ عملية المبحوح كما أرادت. يواجه هذا الجهاز مع كامل الكيان الإسرائيلي انتقادات دولية حادة، إضافة إلى مذكرات اعتقال دولية قد تنال شخصيات من كبار المسئولين في هذا الكيان. كاتب في جريدة إسرائيلية يخفف من حِدة هذا الفشل، ويقول أن جهاز الموساد قد تعرض للانكشاف عدة مرات من قبل، ولكن في النهاية لم يحدث شيء من قبل الدول التي احتجت عليه. ومواطنة إسرائيلية من الشارع تقول لإحدى قنوات الإخبار أنه quot;إذا كانت الحكومة هي من نفذ هذه العملية فبالتأكيد الحكومة تحرص على الأمن وتعرف ماذا تفعلquot;..!! ما قاله الكاتب، وما قالته المواطنة قد لا يقول به كل أحد داخل إسرائيل لكن بالتأكيد هو قول موافق لطريقة الإدارة الإسرائيلية. وهذا يعكس أمراً واضحاً هنا، وهو أن الكيان الإسرائيلي لا يزال يعيش وفق منطقه الخاص. العالم أصبح أكثر تعقيداً، وكثير من المعطيات السياسية في العالم تغيرت، ومع ذلك لازالت إسرائيل تظن أنها استثنائية في هذا العالم.

قبل مدة خرجت كاتبة عربية إسرائيلية على صفحات إيلاف لتعدد أمام القرّاء العرب ما تراه أوجه تطور وتقدم في إسرائيل. ويبدو أن لدى الكاتبة خلط كبير حين تسوق مثل هذه المشاهد للقارئ العربي. فكل الدول في العالم تقريباً تجاهد لأن تتطور وتتقدم. العربي مثلاً لا يهتم لما تنجزه دولة مثل كوريا، أو جمهورية مثل التشيك، ولكن يهمه كثيراً ما تفعله إسرائيل حين يكون ذلك على حساب دمائه وعلى حساب إرعابه وتخويفه..!! هذا المنطق التجميلي ليس له مكان في العالم اليوم، فمن الصعب أن تقنع الناس أن ما يحدث في مكان مثل اسرائيل هو حضارة.. التكنولوجيا والتقدم التقني والمستعمرات الحديثة لم يكن لها أن تبن حضارة أبداً..!! أيضاً، المنطق العالمي اليوم منطق مفتوح، وأي تعدٍ وإجرام سيكون واضحاً أمام الجميع. لذا أميركا نفسها تحولت في المنطقة من شيطان أكبر إلى (منافق أكبر). حين تجول دعايتها في المنطقة لتخويف المنطقة من نووي إيران بينما تتجاهل ما تفعله إسرائيل النووية من إرعاب وتخويف في المنطقة بكاملها. سؤال الازدواجية هذا هو سؤال بسيط، سألته طالبات سعوديات لوزيرة الخارجية الأميركية حين زارت السعودية مؤخراً، ولم يتحصلن على إجابة واضحة، لذا.. سيظل هذا السؤال البسيط يُسأل في كل حين..

في مذكراته، قال الأديب اليهودي فرانز كافكا (1883-1924) في تعليق له على كلمة (دياسبورا) والتي تعني (الشتات) quot; إن الشعب اليهودي شعب مشتت كالبذور. وكما تمتص بذرة القمح الأشياء من حولها، وتكتنزه وتحقق نماء أكثر، فكذلك كتب على اليهود أن يمتصوا كفاءات البشر ويطهروها ويمنحوها تطوراً أعلى.quot; وهذا الاعتقاد اليهودي الشائع قد ولّى زمنه. فمن المتعذر على اليهود اليوم ممارسة هذه (الاستثنائية) التي يرونها عن أنفسهم خصوصاً بعد تحولهم إلى هذا الكيان المرئي المتجسد في إسرائيل. أدبيات يهودية كثيرة حثت اليهود على عدم الاندماج مع الشعوب الأخرى التي عاشوا بينها، من أجل تحقيق وطنهم الموحد في النهاية. وقد ازدادت كثافة هذه الأدبيات منذ بدايات القرن السابق تساوقاً مع قدوم الصهيونية. هذه الأدبيات على ما يبدو حفرت عميقاً في وجدانهم الجمعي، ولذا لازالت هي نفسها الأدبيات التي تخنق هذا الكيان الإسرائيلي ولا تمكنه أبداً من التصرف بطبيعية ومسؤولية مع باقي العالم. والرفض الداخلي انتقل ليمثل رفضاً خارجياً لغيره من الكيانات... وهكذا، لا يزال هذا الكيان يرتكب الأخطاء الفاحشة، متدثراً بالدعم الأميركي والأوروبي غير المحسوب. الذي لا يجزم أحد باستمراره إلى الأبد..!

الكيان الذي يغرق في التاريخ بقوة يكون في نفس الوقت (كيان لا تاريخي)، حين يعجز عن التحرك والانتقال إلى حاضره. ومن المعروف أن اليهودية كانت بُنية مغلقة طوال تاريخها، بعكس الإسلام والمسيحية الذين كانوا خلال فترات طويلة من تاريخهم قادرين على الانفتاح والإخصاب. البنية المغلقة لا تبني البُنى الفرعية الأخرى والتابعة لها إلا في داخلها. هكذا أتت في الأخير (البنية الصهيونية) التي كوّنت اسرائيل لتمثل أشد البنى انغلاقاً وتعصباً.. لقد قامت ببناء الكيان الذي يعتبر الكيان (الأزمة) لأسباب متعددة. مثال ذلك، يرى أستاذ علم الاجتماع من جامعة وسكونسن الأميركية الدكتور سيف دعنا، في بحث له أن البنية المغلقة لهذا الكيان جعلته يمارس بناء (الاستعمار الاستيطاني النقي). وهذا النوع من الاستيطان يستوطن الأرض والعمل أيضاً، فيجرد السكان الأصليين من الاستفادة حتى من البعد الاقتصادي، ويستغني عنهم كأيدي عاملة في المكان. ولذا نلاحظ أن تمدد هذا النوع من الاستيطان مكّن الكيان الإسرائيلي في العام الماضي من التصريح باشتراط يهودية المواطن. هكذا، يكون المشروع الصهيوني المتمثل في إسرائيل مشروعاً غير قابل للاستدامة، ولا للتعايش، لأسباب اقتصادية وثقافية وبيئية، ناهيك عن السياسية التي يتكدس الجدل العالمي حولها.

لا جديد مع إسرائيل. الجديد هو ما في العالم اليوم. فإذا كان الكاتب الإسرائيلي يرى أن لاشيء حدث تجاه اسرائيل في السابق تبعاً لجرائمها وجرائم الموساد. فإن الأخبار الجديدة الآن توحي بأن حكومة دبي قد تدفع إلى إصدار مذكرة اعتقال دولية ضد بنيامين نتنياهو نفسه، فهو قائد الجهاز التنفيذي في الحكومة الذي يصادق على مثل هذه العملية الأخيرة. وقبل أشهر أصدرت محكمة بريطانية مذكرة اعتقال ضد وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة. والعمل الآن قائم لإصدار مذكرات اعتقال تجاه قادة آخرين في اسرائيل. هذا ليس بكثير تجاه ما ارتكبه الإسرائيليون، لكن على الأقل يشير إلى تغيرات جديدة بدأت من مذكرة بريطانيا وهي في طريقها للازدياد. واقع العالم اليوم هو أنه كيان مفتوح تُشاهَد فيه بوضوح الجرائم وأهلها، وأي تسطيح سيمارسه الاسرائيليون تجاه ما حدث في دبي لن يغير شيئاً من هذا الواقع.

[email protected]