كان ذكاء الأصولية الدينية في مجال الإعلام، واختراق الطبقات، والوصول إلى الجمهور العريض، أفضل بكثير من ذكاء الليبرالية في العالم العربي. فبينما تخلصت الأصولية الدينية من لغة القرون الوسطى، وما قبلها، واستنبطت لنفسها لغة عربية مفهومة، وبسيطة، وغير عسيرة، ومباشرة، ظلت لغة الليبراليين لغة صعبة، وملتوية، ومتعالية، تخاطب النخب السياسية والثقافية، ولا تنزل إلى مستوى العامة، وتريد منهم أن يرقوا إليها، لا أن تنزل إليهم.

الأصولية الشعبوية
وبينما كان فضاء الأصولية الدينية ومجال عملها، الأحياء الشعبية والبسطاء من الناس، وهم الذين يمثلون الغالبية العظمى من سكان العالم العربي، ويمارسون الدين الشعبي، الذي تتخلله الكثير من الخرافات، والأساطير المدسوسة عليه، كما لاحظ الباحث الفرنسي في شؤون الجماعات الإسلامية أوليفيه روا في كتابه (تجربة الإسلام السياسي)، فإن الخطاب الليبرالي، كان يوجّه للخاصة، وبلغة متعالية، وبأنفة لغوية ممجوجة، ويوجّه أيضاً إلى النخب السياسية والثقافية التي تمثل نسبة لا تزيد عن واحد بالمائة في العالم العربي. وهذه الفئة عالمة ومدركة مسبقاً، بما يمكن أن يُكتب، ويقال لها. ولا تحتاج كثيراً إلى تلقي الكثير من الأفكار والمعرفة التنويرية، بل إنها تستطيع أن تقرأ ذلك ndash; لتمكنها من اللغة الانجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية - في كتابات الليبراليين التنويريين الغربيين، الذين هم المصدر الأساسي للحداثة التنويرية العربية، بشكل عام.

استغلال الإعلام الحديث
ففي حين لم يقتصر عمل الأصولية الدينية الإعلامي على النشرات، وأشرطة التسجيل، وأشرطة الفيديو، وإنما النفاذ إلى الفضائيات العربية، والمواقع الإلكترونية على الانترنت، ومخاطبة ملايين الناس من خلالها. كان الليبراليون يتقوقعون في الكتب غالباً، التي لا توزع إلا بضع مئات، كما يتقوقعون في المجلات الدورية المتخصصة، وفي المنتديات الخاصة، والمؤتمرات المغلقة، ويُسمعون بعضهم بعضاً حلو الكلام ومرّه. وهم بذلك معزولون عن الشارع، وعن العامة، وعن سواد الناس. ويطالبون بالتغيير والتطوير والثورة، وهم بعيدون عن القاعدة الشعبية، التي تعتبر حطب هذا التغيير، والتطوير، والثورة.

السعي للسلطة
وبينما تسعى الأصولية الدينية - وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين ndash; إلى الاشتراك الجزئي بالحكم، عن طريق تولي بعض الوزارات المهمة كوزارة التربية والتعليم العالي، ووزارة الإعلام، والتنمية الاجتماعية، وهو الشرط الشارط الذي فرضه الإخوان المسلمين ndash; مثالاً لا حصراً - على رئيس الوزراء الأردني مضر بدران، عام 1990 للمشاركة في الحكم، وقد تمَّ لهم ما اشترطوه. واستطاعوا أن يغيروا ويبدلوا في المناهج الدراسية بوحي من كتب سيد قطب، وأن يملأوا المناهج بالتكفير والعداء للآخر والبراء منه، وهو ما فعلوه في السعودية أيضاً، حين سيطر الإخوان المسلمون المصريون والسوريون الهاربون من بطش عبد الناصر وحافظ الأسد، في السبعينات والثمانينات على أجهزة وزارة التربية والتعليم والإعلام وعملوا على تدريس كتب سيد قطب نفسها. ومنها كتابه quot;معالم في الطريقquot; الذي كان يُدرَّس ككتاب نصوص Text Book في المرحلة الثانوية للبنين والبنات على السواء. في حين أن الليبراليين يحجمون كثيراً عن المشاركة في الحكم، أو هم إن شاركوا فلا يتولون حقائب وزارية مهمة ndash; نستثني من هؤلاء محمد الشرفي المفكر الحداثي التنويري التونسي، الذي تولّى وزارة التربية والتعليم مدة خمس سنوات (1989-1994)، وشارك في إصلاح التعليم التونسي إصلاحاً جذرياً، وخاصة التعليم الديني، ووضع التعليم التونسي على سكة الليبرالية التعليمية ndash; في حين أن معظم الليبراليين يترفعون عن الاشتراك بالحكم، أو حتى الكتابة في الصحافة المهمة، التي أصبحت أهميتها كصلاة الصباح، كما قال عنها هيجل. وتركوا الساحة الرمّاحة لدعاة الأصولية الدينية. ولقد روى لي ذات مرة، سكرتير تحرير جريدة quot;الأحداثquot; المغربية أن كثيراً من الكتاب الليبراليين المغاربة، يرفضون المشاركة في أي محور، أو الكتابة في الصحافة المغربية. وهو أيضاً ما يجري في بقية أجزاء العالم العربي. لذا فقد أُطلق على الليبراليين، quot;الفئة الصامتةquot; التي لا تقول إلا نادراً، وتترك الساحة الإعلامية لدعاة الأصولية الدينية يمرحون ويسرحون فيها كما يريدون، ويكسبون إلى جانبهم الأنصار من ذوي التديّن الشعبي، ومن الشباب المكبوت جنسياً واجتماعياً، والذي يتوق إلى النحر والانتحار، ليلحق بالعين الحور في الجنة الموعودة، كما يقول لهم دعاة الأصولية الدينية. وقد لاحظت كثير من الدراسات والإحصائيات، أن معظم عناصر النحر والانتحار الإرهابية، هم من الشباب الأعزب غير المتزوج، والتوّاق إلى ممارسة الجنس في الآخرة، حيث لم يتمكّن منه في الدنيا.

الإحلال مكان الدولة
كذلك فلقد التفتت الأصولية الدينية - وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين - إلى ضعف وتقصير الدولة في معظم أنحاء العالم العربي في تقديم الخدمات الاجتماعية للمواطنين، وفي الأحياء الشعبية والعشوائية. فاستغلت هذا الضعف وهذا التقصير، وقامت مقام الدولة في تقديم مثل هذه الخدمات كالطبابة، والتعليم، وإيجاد فرص للعمل، وإنقاذ ضحايا الكوارث من الزلازل والفيضانات والغرق.. الخ. وهذا ما حصل في مصر خاصة. وكان مردود ذلك ونتيجته، أن جزءاً كبيراً من المجتمع المصري الفقير والشعبي، أصبح يؤمن إيماناً واقعياً ومنظوراً، أن الإخوان المسلمين هم الحل للأزمة المصرية. واستطاع الإخوان المسلمون، من خلال ما قدموه من خدمات اجتماعية كثيرة للمواطن المصري، أن يفوزوا بثمانية وثمانين مقعداً في مجلس الشعب المصري في الانتخابات الأخيرة 2005. وقد تكرر هذا في الأردن الذي يعاني من نفس أزمات المجتمع المصري. وقام الإخوان المسلمون بتقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية، التي عجزت الدولة عن تقديمها خاصة، بعد أن تولّت مجموعة من الإخوان المسلمين إدارة شؤون البلديات، وأثبتت نزاهتها، ومحاربتها للفساد وسرقة المال العام (مدينة الزرقاء الأردنية مثالاً واضحاً). فاكتسبت الأصولية الدينية عطف وتأييد الشارع المصري والأردني كمثالين واقعيين وواضحين. ولو ذهبنا بعيداً إلى أفغانستان لوجدنا أن طالبان بعد هزيمتها العسكرية في 2001، و 2002 سارعت إلى مد يد العون إلى الطبقات الفقيرة والأميين، وتجنيدها بعد ذلك في صفوف طالبان العسكرية، مما زاد في قوة طالبان في أفغانستان، وعلى حدود باكستان كذلك. في حين بقيت الدعاوى الليبرالية، ضمن كتب ومنتديات ومؤتمرات، ومقالات متخصصة، ولم تخطُ خطوات واقعية، تجاه الاقتراب من الشارع العربي.

ما سبب هذه (الخيبة)؟
وربما كان السبب، أن الليبرالية تنظر إلى العامة نظرة دونية، وتقول أن العامة لا عقل لها، تجمعها طبلة، وتفرقها عصا. وربما كان السبب أن الليبرالية لم تكن حزباً سياسياً موحداً في يوم ما، كما هو عليه الحال بالنسبة للإخوان المسلمين. كما أنها لا تطمع بالسلطة، كما تطمع بها جماعة الإخوان المسلمين، وكل الجماعات الإسلامية الأخرى، التي رأت أن أقرب طريق للقبض على السلطة، هي طريق الوصول إلى أتباع الدين الشعبي، والاقتراب من الطبقات الفقيرة والمسحوقة في المجتمعات، وهي نظرة ماركسية سابقة، وتكتيكاً شيوعياً معروفاً. كما أنه من الصعب أن نطلب من نخب الليبرالية تغيير أسلوب الكتابة، والنزول إلى ملاقاة جموع الجماهير. فهذا ما لم تفعله نُخب التنوير الأوروبي في القرن الثامن والتاسع عشر. ولكن هذه النُخب لم تكن تملك وسائل الاتصال الإعلامي مع الجماهير غير وسيلة واحدة وهي الصحافة. في حين أن نخب الليبرالية العربية وغير العربية الآن تملك عدة وسائل إعلامية للاتصال بالجماهير كالراديو، والتليفزيون، وكذلك الانترنت.