-1-
عندما أراد كانط أن يُعرِّف التنوير تعريفاً دالاً ومختصراً، لم يجد خيراً من عبارة:
quot;الجرأة في إعمال العقل.quot;
والليبرالية نتاج من نتاجات التنوير.
وحين نقرأ الكتَّاب والمثقفين الليبراليين السعوديين في العصر الحديث، وخاصة منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن ndash; حيث بدأ فتحُ ملفات quot;صدمة الصعودquot; التي نتجت عن الطفرة النفطية في 1973 بحظر تصدير البترول للغرب، وبدأت تتلاشى 1982 مع بدء حرب الخليج الأولى 1980-1988 - نرى أن الشجاعة الثقافية هي quot;السلاح الأبيضquot; لهؤلاء، بدءاً بعبد الرحمن منيف، وتركي الحمد، وغازي القصيبي ndash; شفاه الله وعافاه ورده إلينا سالماً غانماً ndash; وانتهاءً بإبراهيم البليهي، ومحمد العلي، وعبد الله بن بخيت، نجد كل هؤلاء يتسلحون بالشجاعة، والجرأة الثقافية، والفكرية. وهؤلاء هم أبناء الليبراليين السعوديين الأوائل كمحمد حسن عواد (1914-1980)، وحمزة شحاتة (1908-1970)، وأحمد قنديل (1913-1979)، وطاهر الزمخشري (1914-1988)، وعزيز ضياء (عبد العزيز ضياء الدين زاهد) (1914-1997)، وعبد الله عبد الجبار (1919- ) وغيرهم.


-2-
وهؤلاء لا يختبئون في جحور المواقع الإليكترونية، التي هي أشبه بجحور وكهوف quot;تورا بوراquot; كما يفعل الآن quot;صبيانquot; السلفية، والأصولية المتشددة في ساحات الغربان السوداء على الإنترنت، ويشتموا أعلام الليبرالية السعودية والعربية، ويصفونهم بأقذع وأسفل الأوصاف، التي تنمُّ ndash; كما قال العفيف الأخضر - عن أن السلفية والأصولية الآن، انتقلت من الهجوم الذي بدأته في الثمانينات من القرن الماضي، إلى الدفاع عن نفسها منذ 2005، ومع بدء مسيرة الإصلاح السعودية الشاملة، ونجاح الانتخابات التشريعية العراقية الأولى.


-3-
والليبراليون السعوديون، ومن ورائهم الليبراليون العرب، يكتبون آراءهم في الصحف العربية المختلفة، ويصدرونها في كتبهم، ويلقونها في محاضراتهم بكل شجاعة وإقدام. وهم انتقلوا من السرِّ في الثمانينات إلى الجهر الآن، ومن (الوشوشة) في الماضي إلى الكلام الصريح الفصيح الآن، ومن الخفاء في الماضي إلى التجلّي الآن. وقد ساعد quot;السلطان السياسيquot; على ذلك. وما كان ينقص الليبرالية العربية في أرجاء العالم العربي غير سلطان سياسي، يثق بها، ويترجم معانيها وأهدافها، على أرض الواقع العربي.


-4-
فالراحل الروائي والكاتب السعودي عبد الرحمن المنيف (1933-2004) لم يكن خائفاً أو متردداً من ليبراليته. فكتب عنها الروايات الطوال، وكتب فيها عدة كتب، وحاضر في الناس عن أهدافها ومراميها، ورحل عنا، وهو يستشهد بأقوال مفكريها وفلاسفتها في الشرق والغرب. وقد عبَّر المنيف عن شجاعته في كتابه quot;الديمقراطية أولاً.. الديمقراطية دائماًquot; بقوله: quot;إن العيب الأساسي يكمن في داخلنا، إذ لم نستطع حتى الآن، أن نفهم نقاط القوة والضعف في تكويننا وتفكيرنا، وأن نقيم علاقات موضوعية ما بيننا، أو بيننا وبين الآخرين، ولذلك أخذت تتوالى علينا الهزائم تباعاً.quot;
والمفكر والروائي السعودي تركي الحمد، لا ينقصه سلاح الليبرالية الأبيض في الشجاعة، حين يقول في كتابه quot;الثقافة العربية في عصر العولمةquot;: quot;الحداثة الغربية، وما أنتجته من ثقافة عقلانية وتقنية، في طريقها إلى أن تصبح ثقافة عالمية شاملة، بغض النظر عن مشاعرنا تجاهها. فحركة التاريخ لا تسيّرها المشاعر.quot;
وفي 1991، وعندما كان غازي القصيبي الشاعر والروائي والمفكر السفير السعودي في البحرين، أصدر كتابه المهم quot;حتى لا تكون فتنةquot; على إثر ممانعة بعض شيوخ الأصولية الدينية لنزول قوات أجنبية في السعودية لرد عدوان صدام حسين عن شرق السعودية والكويت. وكانت الشجاعة لا تنقص القصيبي في هذا المقام - كعادته دائماً في كل ما قال نثراً أم شعراً - فقال القصيبي رداً على الفتاوى الدينية العشوائية، التي كانت تصدر في 1991، وتصدر مثلها هذه الأيام، وبغزارة شديدة، وسذاجة، وبكثير من الحماقة: quot;إن الفتاوى في مسائل الاجتهاد، تتغير بتغير الزمن. إن الفتاوى - مهما كان مصدرها ndash; لا تعدو أن تكون جهداً بشرياً. تخضع لما يخضع له كل مجهود بشري، من قابلية للخطأ، والصواب، والمراجعة، وإعادة النظر. وأن بعض الغُلاة الجُدد - ممن يعرفون الحق ويكتمونه - يعتقدون أن الفتوى التي يأخذون بها دون غيرها، هي من الدين، وأن سواها باطل. وما داموا لا يفرقون بين الفتوى والدين، فمن الطبيعي أن يتصوروا في تغيّر الفتوى خطراً داهماً على الدين ذاته.quot; وساق القصيبي في هذا الموضع سبعة أمثلة على تغيّر الفتوى.


-5-
وعندما ظهرت كوكبة أخرى من الليبراليين السعوديين، كإبراهيم البليهي، وتركي السديري، ومحمد العلي، وعلي الدميني، وسعيد السريحي، وعثمان الصيني، وعبد الله بن بخيت، ويوسف أبا الخيل، ومنصور النقيدان، وحمزة المزيني، وحصة آل الشيخ، ومحمد عبد اللطيف آل الشيخ، وعبده خال، وغيرهم من عشرات الشعراء، والكتّاب، والروائيين، والقصاصين، والفنانين التشكيليين، والإعلاميين، ورجال الأعمال، والأطباء، والمهندسين، والأكاديميين والنقاد الليبراليين، لم يتوانَ هؤلاء عن إبداء الشجاعة، وإبراز الجرأة الفكرية والثقافية في تبيين من هم دعاة مُلاّك الحقيقة المطلقة، الذين تحدث عنهم مؤخراً المفكر المصري مراد وهبه في كتابه الذي يحمل هذا العنوان: quot;مُلاَّك الحقيقة المطلقةquot;.


-6-
ولو أردنا أن نورد مقتطفات من شجاعة وجرأة معظم الليبراليين السعوديين لملأنا سفراً ضخماً، تُعد صفحاته بالمئات. ولكن دعونا نختار مقتطفات من مفكرين وشاعرين.
الأول إبراهيم البليهي، وقد تحدثنا عنه كثيراً، وهنا نقتطف له هذه العبارات الدالة على ليبراليته الشجاعة، وهو يقول: quot; إن المسلمين في معظم أقطارهم ndash; لأسباب يبرأ منها الإسلام ndash; بقوا بعيدين عن الانتباه لطبيعة الانتقالات الثقافية الجوهرية، التي حصلت في الثقافة الإنسانية. فلم يستطيعوا تصوّر التغيرات النوعية التي حدثت في القيم والمفاهيم، وفي الفاعلية الإنسانية، وفي الانفتاح الثقافي، والتآخي الإنساني.quot;
وأما الثاني فهو يوسف أبا الخيل، الذي يُعدُّ بحق حجة الإسلام، وإماماً حديثاً من أئمة المسلمين، وأكثر أهمية للإسلام وقيمه الإنسانية من أبي حامد الغزالي، وابن تيمية، وابن حنبل، بما أضافه للقيم الإسلامية الفكرية من ثراء ودسم إنساني، أعادنا إلى أيام ابن رشد في الأندلس. ونأمل أن لا تكون نهايته كنهاية ابن رشد، ولن تكون، لأن المفكر الليبرالي اليوم في الشرق أو في الغرب، لا تحميه مؤسسات وطنه فقط، ولكن تحميه المؤسسات الإنسانية في كل أنحاء الأرض، وهذا هو الأثر البعيد والمهم لعصر العولمة الذي نعيشه الآن. أما شجاعة أبي الخيل، في الكشف عن quot;مُلاَّك الحقيقة المطلقةquot; وفضح عُري quot;الدوغماquot;، فأمثلتها كثيرة، ومنها قوله: quot; التوليفة الفلسفية التي استطاع من خلالها توما الاكويني زرع الطمأنينة في قلوب المسيحيين إلى حين، لم تكن في حقيقتها إلا إعادة إنتاج لتوليفة ابن رشد التي قدمها في (فصل المقال). وهذه التوليفة الاكوينية/الرشدية، لاقت صدىً طيباً من قبل المسيحيين المعتدلين. أما المتشددون - وعلى رأسهم كرادلة المسيحية الدوغمائيون - فقد اعتبروها تنازلاً خطيراً، يُراد من الإيمان المسيحي، أن يقدمه لصالح الفكر quot;الوثني/الرشديquot;. ولذلك فقد اعتبروا ابن رشد زنديقاً كافراً وثنياً، كما اعتبروا فلسفته، (وهي بالمناسبة فلسفة بعثت فلسفة أرسطو الحقيقي الذي لا تستطيع المسيحية أن تتواءم معها إلا بالتنازل عن أصول عقيدتها)، أخطر فلسفة أو فكر وفد إلى أوروبا. ولذلك، فقد حرَّمت الكنيسة قراءة كتبه الأصلية، أو شروحه على أرسطو، سواء داخل أروقة الجامعات أو في ساحة المناقشات العامة، أو حتى في المناقشات المعزولة. وعبرت عنها بـ quot;الغزو الفكريquot; الذي يجب أن لا يُتسامح معه بحال. ولكن السفينة الفلسفية والعلمية الوافدة استمرت في جريانها عبر محيط النهوض، غير عابئة بصراخ الأصوليين، لتنتصر نهائياً مع انتصار التنوير في نهاية القرن السابع عشر.quot;


-7-
وأما الشاعران الليبراليان: محمد العلي وعلي الدميني، فالأول كان نافورة من نوافير نخيل الجزيرة التي تطرح على مدار العام ثمارها الطيبة. وكان محمد العلي إضافة إلى حداثته التي ضاق عليها quot;الثوبquot; السعودي، كما ضاق عليها quot;البشتquot; السعودي، مفكراً ليبرالياً، أضاف الكثير إلى الفكر الليبرالي السعودي ليس من خلال شعره فقط، ولكن من خلال نثره أيضاً.
ففي عام 1987 والحوار الحاد مشتجر، بين غلاة الأصولية وبراعم الحداثيين، مما أدى إلى إيقاف الحوار، منعاً للفتنة كما قال غازي القصيبي في كتابه quot;حتى لا تكون فتنةquot; عام 1991، كتب العلي قصيدته quot;يا صلاة النبيquot; تعبيراً عن quot;ربيع الرياضquot; في الثمانينات، قالها فيها:
ليلة ناضجة
مدت النار أعناقها في المزامير
حول الزوايا المطهمة الهائجة
مطر كان يستبطن الليل
يخلطه بالبنفسج
شيئاً فشيئاً يُهيّج اللدونة في حطب هامد
ويهمي على ناظريه النخيل
ينادي:
ذراعيك، إني المطر.
وأما الشاعر أولاً، والناشط السياسي ثانياً علي الدميني، الذي عرفته جيداً من خلال ديوانه quot;رياح المواقع، 1987quot;، ووصفته في كتابي quot;نبْتُ الصمتَ، 1992quot; بأنه quot;ورد الحرائقquot;.. فهو الوردة التي خرجت من رماد حرائق quot;هوشةquot; الحداثة مع الأصولية في الثمانينات. وأصدر فيما بعد ديوانه الآخر quot;بياض الأزمنة، 1995 quot;. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح علي الدميني من الشخصيات السياسية السعودية الناشطة. وكان من ضمن كتّاب ومعدي quot;بيانات الإصلاحquot;. ومن بينها عريضة quot;الدستور أولاًquot; الشهيرة، التي كان من أهم مطالبها التحوّل إلى الملكية الدستورية، وفصل السلطات الثلاثة، وإصلاح القضاء، والمطالبة بمحاكم علنية. وكان ليبرالياً شجاعاً في الكشف عن quot;مُلاَّك الحقيقة المطلقةquot; بقوله: quot; في بلادنا، لم يتمتع بهذا الحق ndash; يعني حق إبداء الرأي والتعبير عنه - سوى تيار متشدد، من أتباع مذهب واحد، من المذاهب السُنيّة الأربعة، بينما حُرمت منه كافة المذاهب، والطوائف الإسلامية، والفعاليات الثقافية والفكرية الأخرى، مما ساعد على تبلور ظاهرة الغلو، والتشدد، واحتكار الحقيقة، والذي أفضى بعد ذلك، إلى تفشي ظاهرة العنف المسلح، التي تعاني منها بلادنا بشكل لا سابقة له.quot;
وأضاف الدميني يقول:
quot; وقد أدى هذا الاحتكار إلى إلغاء الحوار داخل التيار الديني الواسع، وشرعنة بروز تيار متشدد، فرض نفسه كوجه وحيد لصورة الإسلام، ومنحه حق التفرد، ورفعه إلى مصاف التقديس، الذي لا يقبل رأيا سوى اجتهاده. quot;
هذه عينة محدودة من شجاعة الليبراليين السعوديين، في الكشف عن حقيقة quot;مُلاَّك الحقيقةquot;، وحرّاس quot;الدوغماquot;.
السلام عليكم.