الانتقال الديمقراطي هو العملية التي يتم من خلالها تحويل خلافات الشأن العام إلى مداولات سلمية تتم عبر المعرفة والحوار العقلاني، وبالتالي تسهيل حدة خلافات الحياة الإنسانية بالنظر إليها من زاوية حرية الفرد الضامنة لحريات الآخرين
و الانتقال الديمقراطي بهذا المعنى لا يختزل في صندوق الاقتراع كما يظن كثيرون بل ينهض بالأساس على أنقاض الأيدلوجيات الدينية والسياسية الحادة وأصولها الشمولية سواء أكانت آيدلوجيا اسلاموية ـ كما في تيارات الإسلام السياسي ـ أو كانت قومجية أونيوليبرالية وغيرها. فالآيدلوجيا هي في صورة من الصور رؤية خلاصية مجردة وطبيعتها نسقية مغلقة دائرية، وهي ليست من وحدات التفكير العقلي، بل تتحرك في ذلك الخيال الذي ينشأ من تأثير وهم الأفكار وبريق شعاراتها في وعي الجماهير والنخب الفكرية حين تلتبس بعلاقة الحماس التي يتصورها المفكرون والزعماء في أفكارهم تلك. ومن خلال ذلك التجريد والحماس تغيب العلاقات الموضوعية بين الواقع والفكر الأمر الذي يجعلها تناقض الفكر الموضوعي؛ الذي ينعكس تأويله المعرفي في مطابقته للواقع حين يقارب رؤيته لذلك الواقع عبر المعرفة واستخدام قوانين العقل. ونتيجة لهذه السمة المعيقة للآيدلوجيا نتجت الكثير من الكوارث السياسية كالتي شهدناها منذ منتصف القرن العشرين في تجارب أنظمة الحكم العربية. ففي ظل واقع متخلف كالذي نقع تحت شروطه القاسية لا شك أن الآيدلوجيا ستظل هي القناع الذي يتبدل باستمرار وراء الأفكار الفقيرة للإسلاموية والقومجية والليبرالية الجديدة وغيرها من شعارات التيارات السياسية والفكرية في هذه المنطقة. إن الخضوع لسلطة الآيدلوجيا تماما كالخضوع لسحر الأسطورة فالذي يعيش داخل الأسطورة لا يمكنه الانفصال عن سحرها وتأثيرها إلا بالخروج منها تماما. ولوهلة ربما ظن البعض أن التحيزات التي تتباين من خلالها عناوين التيارات الآيدلوجية في المنطقة ـ لاسيما إذا كانت براقة ـ كافية بنفسها للتقييم المعرفي والموضوعي، ما يحيل بصورة ما إلى أن مجرد الاختلاف هو قيمة مضافة لهذا التيار عن ذاك دون النظر إلى جدوى الفاعلية الموضوعية المستقلة لأفكاره على الواقع والمجتمع وأثرها على خلق خيارات معرفية منفصلة عن الآيدلوجيا بالإضافة إلى قدرتها على تأكيد فكرة التقدم. وللأسف لقد تم استهلاك تلك المصطلحات كفكرة التقدم في كلام مجاني وعقيم أدرجها في شعارات مجوفة ولا مصداقية لها في الفكر والواقع. هكذا بدت الآيدلوجيا قناعا خفيا للأوتوقراطية التي هي نسق التفكير التقليدي المتخلف سواء في فهم الدين أو في فهم الشعارات الحديثة للأفكار الليبرالية والقومية والعلمانية. والحال أن ما ظهر تعبيرا عن تلك الأفكار هو تماما ما تم استبطانه من مفاهيم يتعذر فرزها معرفيا لأن بنية الوعي العربي ظلت باستمرار بفعل آليات إنتاج التخلف بنية انفعالية مرتهنة لردود الأفعال والأحداث، و تتعامل بأسلوب السلق الأيدلوجي مع المفاهيم عبر تمثيل لاشعوري لرؤى تقليدية تم تصميم قدرتها على تجديد العجز بالتلقين والاجترار.
ذلك أن الأزمة لا تكمن في الأفكار والمفاهيم المجردة سواء أكانت اسلامية أو علمانية وإنما تتجلى في الأساس عبر الطريقة الآيدلوجية في رؤيتها لتلك المفاهيم وهي طريقة ينبع جذرها الحقيقي من أن التخلف هو الذي يحكم سقف آليات التفكير وإطار النظر عبر تلك الاوتقراطية الضاربة الأطناب في جميع العلاقات الرأسية والأفقية داخل مجتمعاتنا. أي أن بنية العلاقات التي تحكم رؤيتنا للفكر والواقع هي شبكة معطلة، وليس لها قدرة مستقلة على رؤية حقائق الفكر والواقع لغياب حرية المعرفة وحرية التفكير في تلك البنية. والأخطر من ذلك أن طبيعة التمثل لشروط هذه البنية في وعي النخب الفكرية نتجن عن صيرورة متراكمة لمفاعيل ومؤثرات تشكلت في خزين التجارب الفردية المتصلة بتلك البنية منذ الطفولة وبطريقة غامضة تشتغل عبر اللاوعي وترتهن باستمرار لمفاجآت النزعة الأوتوقراطية في مواقف وسلوك الكثير من تلك النخب. ولعل الدليل الأكبر على ما ذهبنا إليه هو تناقضات الحياة الخاصة والمواقف المتضاربة للكثير من تلك النخب بصورة تبدو أقرب إلى الشيزوفرنيا منها إلى الطبيعة الإنسانية.
ذلك أن من أهم علامات الانتقال الديمقراطي في الواقع هو التناظر الخلاق بين مواقف النخب والجماهير حيال علاقات الحياة العامة : الاحترام المتبادل لحريات الفرد ـ تغليب آلية الحوار ـ نسبية الرأي الفردي ـ احترام القانون ـ احترام قيمة العمل ـ عدم الخلط بين الذاتي والموضوعي في العلاقات العامة وغير ذلك من مظاهر الحياة الديمقراطية التي لا يمكن أن تأتي من خلال تغيير سلطة فوقية بل تنبع بالأصل من الوعي الفردي المؤسس عبر تاريخ تربوي مع القيم الديمقراطية على مستوى الفرد والمجتمع قبل أن تصل إلى الحلقة الأخيرة : السلطة.
وبهذا المعنى سنجد أن الآيدلوجيا في تأويل ما، هي الوجه الآخر للتخلف والأوتوقراطية، أي في كونها العلامة الفارقة على غياب عملية الانتقال الديمقراطي لا على مستوى المجتمع فحسب بل وعلى مستوى تمثل النخب للأفكار والمفاهيم أيضا. وبالرغم من أن كثافة الالتباس في الواقع الفكري والسياسي العربي تثير الكثير من التشويش والبلبلة في ذهن المتابع والقارئ والمشاهد لا سيما في زمن الملتميديا وثورة الاتصالات وانفجار المعرفة، فإن القدرة على فرز هذه السمة المعيقة في طبيعة الآيدلوجيا تمنح المتأمل بصيرة واضحة لتتبع مسار الخطاب الآيدلوجي في الأفكار الفقيرة للإسلام السياسي والنيوليبرالية والقومجية وو. فجميع تلك الخطابات الآيدلوجية في المنطقة العربية تقع على مسافة واحدة تقريبا في البعد عن القيم المعرفية لتلك المفاهيم، وبصورة ينبغي أن لا تسمح لمجرد الاختلاف الآيدلوجي بينها أن يكون ذا قيمة مضافة لخطاب على خطاب آخر بحيث لا يمكننا تفضيل الخطاب الآيدلوجي للنيوليبرالية على الخطاب الإسلاموي أو القومجي؛ ذلك أن السبب في أزمة هذه الخطابات لا يعود إلى اختلافاتها فحسب وإنما بالأساس إلى البنية الآيدلوجية للتخلف العربي الذي ينتجها وتصدر عنه.
ولأن ثمة علاقة جدلية موضوعية بين الفكر والواقع فإن الواقع يدل دلالة واضحة على ذلك الفقر في الخطابات الفكرية العربية باختلاف أزيائها. فالواقع يزداد سوءا وما نشهده من حروب أهلية ناشطة ونائمة وانسداد في المنطقة العربية هو أكبر دليل على فشل تلك التيارات وعجزها عن انجاز تحول معرفي وعملي على صعيدي الفكر والواقع. إن مؤشرات غياب عملية الانتقال الديمقراطي لا يمكن البحث عنها في أنظمة الحكم بالدرجة الأولى، بل في غياب الحرية الفردية التي هي أساس الديمقراطية فحين يكون للفرد رؤية مستقلة نابعة من حريته يتحول إلى كائن موضوعي لا يقبل القسمة على أحد، لا على القبيلة ولا على الطائفة ولا على غيرها من التكوينات الشمولية التي تعيق الرؤى المستقلة للأفراد.
إن الوعي بحرية الفرد هو الذي أنشأ الديمقراطيات و هو الذي يحميها في الوقت نفسه. ربما كان من المهم جدا هنا أن يتمثل مؤشر تحديد الفرز بين الآيدلوجيا والمعرفة الفكرية في خطاب التيارات العربية؛ في قدرة هذه الأخيرة على نبذ الاتهامات وتجريم النوايا والتعميم البغيض في قضايا تحتاج إلى فرز موضوعي، ومصادرة الرأي، الأمر الذي يؤكد لنا باستمرار مدى الهاوية العميقة التي تفصلنا عن الوصول إلى عملية الانتقال الديمقراطي.
إن عملية الانتقال الديمقراطي لا تحدث بمجرد الأماني ولا بالإدعاء ولا بالصراخ أو حتى بالرهان على رصف العبارات المنمقة عن الديمقراطية، بل بالأساس على وضوح معرفي للفكر والواقع لدى جميع تلك التيارات، والتزام أخلاقي بنتائج تلك المعرفة الموضوعية في السلوك والمواقف.
ثمة معرفة موضوعية يمكن أن تجعل من الحركات الإسلاموية والنيوليبرالية والقومجية قابلة للاندراج في عملية الانتقال الديمقراطي بشرطين الأول : التزام الحرية، و الثاني احترام نتائج المعرفة الفكرية في تلك الأفكار والمفاهيم الأصلية : الإسلام ـ الليبرالية القومية... ألخ. فحين تخلي الآيدلوجيا مكانها للمعرفة وحين تتحول الأوتوقراطية إلى تعدد حر يغيب الضجيج والصراخ ويتكشف الواقع عن نتائج موضوعية للمعرفة.
ربما كان من أهم علامات غياب هذه المعرفة الموضوعية بالمبادئ والأفكار عن واقعنا كشعوب عربية هو عجزنا المتمادي عن حل تناقضاتنا الاجتماعية والسياسية سلميا، أي عجزنا عن احترام حرياتنا وكرامتنا الإنسانية في علاقاتنا السياسية والاجتماعية الاقتصادية والفكرية وعجزنا بالتالي في أن تكون لنا المعرفة والقدرة على حل كل خلافاتنا ـ وهي بالطبع خلافات قابلة للحلول مهما كان تعقيدها ـ بطريقة عقلانية عبر الحوار والمعرفة والحرية، بدلا من حل الخلافات السياسية مع المعارضين عبر القتل والسجون والمعتقلات، وحل الخلافات الاجتماعية عبر الحروب الأهلية.. والفقر والجهل وغيرها من الثمار المرة لآيدلوجيا التخلف.
[email protected]