في التراث العربي سيرة شعبية تعرف بسيرة الأمير حمزة البهلوان، وهي كغيرها من السير الشعبية العربية ظلت باستمرار علامة تاريخية ضمن ذلك التراث كصورة ما من صورة حياة تراثية ذات ملامح محددة.
صحيح أن التراث مازال يشكل وعينا الخام في المنطقة العربية، وصحيح أنه ليست هناك قطيعة معرفية حدثت مع هذا التراث، كما أن من شروط هذه القطيعة لتجاوز التراث هو قتله بحثا. والحال أننا لا نزال بصورة أو بأخرى نتخبط بين الحدين الفاصلين حيال : بُنـَّوة التراث وتبـَنـِّيه كما يقول إدوارد سعيد، لكن رغم ذلك يظل الواقع الفكري العربي الحديث أشبه بسوق للعروض البهلوانية إلا في حالات نادرة جدا. فوظيفة المفكر العربي أصبحت لدى الكثيرين تماما كوظيفة المحلل السياسي في الفضائيات العربية (وهي مهمة لا تحتاج إلا إلى قميص مخطط وبدلة ملونة). هكذا تتناقض المقولات، وتكثر الادعاءات ويشيع التعميم ويصبح مجرد عنوان عريض كمفكر ليبرالي أو علماني أو إسلامي أو قومي كاف بذاته لتمرير الكثير من الكلام المشوش بالتناقضات حيال الواقع العربي وإطلاق مقولات مفككة عاجزة عن التماسك المعرفي والتفسير المقنع لصلابة هذا الواقع العربي المتكلس الذي عجز عن الاستجابة لكل النظريات الفكرية سواء أكانت ماركسية أو قومية أو إسلاموية. لقد أصبح هذا الواقع في رؤى كتاب الفكر البهلواني تماما كمجموعة من العميان طلب منهم أن يصفوا فيلا فأمسك بعضهم بذيله وآخرون بخرطومه وآخرون بأذنه وقدمه وهكذا صدرت أحكامهم التعريفية بصورة مفككة فجاء وصفهم للفيل بحسب كل منهم فمنهم من قال أنه عبارة عن (ذيل) ومن قال هو (خرطوم) ومن قائل بأنه (قدم كبيرة) ووو.
ولقد سقنا هذا المثال فقط للتقريب وإلا ففي الواقع أن تجربة الكثير من المفكرين العرب وفكرهم البهلواني إزاء إشكالات الواقع العربي أسوأ بكثير من قصة العميان مع الفيل. ذلك أن من أهم علامات التخلف في الواقع الفكري العربي هي الأوهام الكبيرة التي يبشر بها كل مفكر أو كل جماعة تتبنى فكرا بصورة تحيل تماما على أن طبيعة هذا الفكر الذي يتبناه ذلك المفكر أو تلك الجماعة إنما هو ضرب من التخلف أبعد مايكون عن الفكر وقوانينه.
هناك الكثير من الأوهام التي تم تسويقها ودفعت الشعوب ثمنها تصديقا لتلك الأفكار فيما كان الواقع يزداد بؤسا ويشتد استعصاء.
الأوهام الكبيرة عادة تفضي إلى ضياع كبير فالوثوقية الديماغوجية هي أهم تجليات الفكر العربي عبر الكثير من أزيائه الماركسية والاسلاموية والليبرالية والقومية.
إن معطيات الواقع اليوم بعد أن زالت تلك الغشاوات الفكرية تدل بوضوح على أن هناك حاجة واحدة يحتاج لها هذا الواقع بعيدا عن الفكر البهلواني وهي : الحرية ؛ فالحرية هنا بالإضافة إلى كونها شرطا شارطا للخروج من هذا الواقع هي في صورة أخرى لا يمكن أن تتجلى كعلامة على حيوية تلك الأفكار التي يسوقها المفكرون العرب والتيارات الفكرية إلا من خلال حقيقتين اثنتين وهي في هذا التجلي لن تكون علامة على تغيير الواقع نحو الأفضل فحسب بل وكذلك على التجديد المستمر لهذا التغيير نحو الأفضل. علامة الحرية الأولى هي الاعتراف بالفكر الآخر المختلف لا عبر الكلام فحسب بل عبر المواقف الفكرية والمعرفية، والعلامة الثانية لهذه الحرية هي في ضرورة القناعة بجدوى التعبير عن الأفكار سلميا ؛ فعبر الاعتراف بالآخر المختلف فكريا وضمان حقه في التعبير والتأويل، وعبر ممارستنا للنشاط الفكري والسياسي عبر أدوات سلمية يمكن للواقع أن يشهد تحولات تضمن لتلك الحرية أن تنعكس في أسلوب متقدم لممارسة حياتنا كبشر.
بيد أن سيرة الواقع للكثير من المفكرين في تلك التيارات لا تبشر بخير أبدا ولا تؤشر على تحولات يمكن أن تكون علامة على التقدم. ومن أهم هذه المؤشرات أن كثيرا من المفكرين العرب لا يملكون شجاعة فكرية للتعبير عن أفكارهم بصراحة من ناحية، ولا يملكون الشفافية لتغيير أفكارهم بكل وضوح من ناحية أخرى.
فعند انهيار المعسكر الاشتراكي فجأة اختفت طبقة كبيرة من المفكرين العرب وتحولت إلى مسارات فكرية نقيضة دون أدنى احترام لقوانين الفكر أو حتى مصداقية مع النفس حين وجدنا الكثير من مفكري اليسار أصبحوا ليبراليين بين ليلة وضحاها؟! ومع أن التحول في حد ذاته ليس عيبا (فالذي لا يتغير هو الحجر) لكن هناك علامات لابد من تمثلها في حال التحول من موقف فكري إلى آخر ؛ مثل القطيعة المعرفية، والمراجعات الجادة للتاريخ الفكري والشخصي للأفكار السابقة أو حتى إصدار بيانات عن ذلك التحول. وللأسف فإن أيا من هذا لم يحدث حين اختفت تلك الطبقة وظهرت مرة أخرى بشارات ليبرالية جديدة؟!
ذلك أن سمة التحول المجاني والسريع من زي فكري إلى زي فكري آخر نقيض دون أي مراجعات هي في الحقيقة الوجه الآخر لأزمة المفكر البهلواني أي أنها ستظل الدالة الظاهرة على بقاء تلك السمات المتخلفة في الممارسة الفكرية : الآيدلوجيا ـ الإقصاء ـ الأوتوقراطية ـ الديماغوجية وغيرها من الآفات المعيقة للفكر النقدي.
لقد عجزت أفكار آيدلوجية كثيرة عن اختراق هذا الواقع العربي الصلب والمتكلس وسقط مفكرون من أعلى قمم الآيدلوجيا إلى الفراغ العريض؛ هكذا كانت أفكار القوميين العرب والبعثيين والماركسيين تنهار على وقع الآثار المدمرة للكيانات الدولتية الهشة التي أقاموها دون أدنى إدراك لمعنى التعقيد والتركيب الذي يكتنف قيام الدولة ـ الأمة أو الدولة القومية، وما يستصحب ذلك من شروط وعي داخلي لبناء الكيانات الوطنية. لقد انهار حلم ميشيل عفلق وتحولت الأمة العربية الواحدة إلى كوابيس وحروب ومزيد من التجزئة والتفكك واليوم تنهار أحلام حسن الترابي عن الدولة الإسلاموية لتتبخر في الحروب الأهلية والقمع والفساد والتزوير.
إن الفكر البهلواني ظل باستمرار يقدم دعاوى بلا دليل ويبيع الناس أوهامه وأساطيره المجانية ليدفع بهم إلى المزيد من التخلف دون أن يدري بذلك.
لقد كان من أهم عيوب الفكر البهلواني أن أصحابه ظلوا باستمرار يحتكرون حق توزيع وإطلاق صفات ومفاهيم من صنع أوهامهم حتى نشأت نتيجة لتأثيرها الضار أساطير شعبوية توهمها كل شعب عربي حول نفسه لا بوصفها آيدلوجيا وطنية تعين على بناء الأمة، بل ـ وهذا هو الأخطر ـ بوصفها علامات لا تملك معناها المتوهم إلا من خلال إطلاق نقيضها على الآخرين وهكذا رأينا بعض الشعوب العربية تدعي صفة التقدمية بوصفها نقيضا لشعوب عربية آخرى رجعية. وشعوب أخرى تتوهم حالة من التماهي الكاذب مع أوربا فيما هي غارقة في الطائفية والحروب.
كل شعب عربي أصبح يخلق أساطيره ويصدقها دون القدرة على رؤية حقيقة واحدة هي اليوم الأكثر ظهورا في واقع المنطقة العربية : التخلف.
والإقرار بهذه الحقيقة المرة من ناحية، أي التخلف، والدعوة إلى تحقيق شعار (الحرية لنا ولسوانا) ـ الذي أطلقه ذات يوم في السودان الأستاذ محمود محمد طه كعنوان لحزبه (الحزب الجمهوري) فلقي الإعدام على يد الدكتاتور السوداني النميري في العام 1985 ـ هو ما يمكن أن يمهد لبدايات مران فكري على حرية المعرفة وحرية الاختلاف وبالتالي يمكن أن تكون هناك تحولات إيجابية تفرز رؤى جديدة لتجاوز هذا التخلف.
[email protected]