كان الوهم بإمكانية اللحاق بلحظة الحداثة المتجددة في أوربا لدى الكثير من المفكرين العرب، يهدر باستمرار الشروط المعرفية الخاصة لنهضة المجتمعات العربية من لحظة عربية أخرى متأخرة. أي لقد كان الاستحقاق الأولى والأهم هو مواجهة قضية الحريات والإصلاح الديني؛ نعم كانت هناك بدايات لإصلاح ديني مع الأفغاني ومحمد عبده ولكن فكرة الإصلاح لدى الإصلاحيين من أمثال محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا كانت تقوم على الاعتقاد بأن القيم الفكرية للحداثة لا تحتاج سوى إلى ترجمتها وتعريف الناس بها مع الدعوة إلى التحرر من الاستعمار، أي لم يكن دعاة الإصلاح الديني منتبهين إلى أن الهوة العميقة من التخلف التي كانت تعيشها المجتمعات الإسلامية عمرها أكثر من خمسة قرون. فقد كانت فكرة التقدم التي ازدهرت في أوربا تعكس لأولئك الرواد باستمرار تلك اللحظة المتوهجة للحداثة الأوربية التي تختفي تحتها طبقات مؤسسة لحلقات متقدمة من أزمنة أركيلوجية عميقة كعهود النهضة والإصلاح الديني والتنوير ومن ثم كان رواد الإصلاح يحسنون الظن بأن مجرد أفول الاستعمار سيسمح بازدهار قيم الحداثة في المجتمعات العربية دون أن يدركوا في المقلب الآخر أن ذلك التحديث المباشر للمجتمعات العربية والإسلامية لن ينجب الحداثة الموعودة، لأن ذلك التخلف الذي كانت تعيشه المجتمعات الإسلامية هو أيضا تخلف تقبع تحته قرون مديدة من الجهل والعجز والظلام. ما حدث بعد ذلك أن المفكرين العرب بعد زمن طويل من زمن رواد الإصلاح الديني، كانوا يسيرون على نفس فكرة المعادلة الخاطئة ويعيدون إنتاج ذلك الوهم :أي الظن بأن المطلوب هو معرفة آخر نظريات الفكر الأوربي وتطبيقها في مجتمعاتنا المتخلفة لتكون مجتمعات حديثة، فظهرت الفكرة القومية، والليبرالية، ومن بعدها الشيوعية دون جدوى بالطبع. واليوم نجد أن أكبر دليل على أن كل تلك التوصيفات السريعة لفكرة التقدم لم تكن حقيقية؛ هو عودة الدين من جديد بتأويلاته الأصولية والسلفية والعنفية المرتبطة أصلا بسقف التخلف الشامل لتلك المجتمعات، فلقد كان التخلف هو بنيتها الحقيقية.
فحين ظن الكثيرون في زمن الاستعمار وزمن الحرب الباردة أن مجتمعاتنا الإسلامية تجاوزت زمن الدين، الذي كان فهمه مرتبطا بالتقاليد المتخلفة في وعيها فجأة بعد زوال الحرب الباردة انكشف الغطاء الوهمي للحداثة في بنية تلك المجتمعات، واتضح أنه لم تكن هناك ثورات (كانت الانقلابات العسكرية تسمى ثورات زورا )، ولم تكن هناك طبقة وسطى، أو حتى البرجوازية الصغيرة، ولم يكن هناك مجتمعا حديثا. واتضح أن الذي كان من ظاهر الحياة الحديثة في ذلك الزمن هو من بقايا البنيات المؤسسية التي خلفها الاستعمار، والتي استمرت بعد ذلك بفضل نظام القطبين الدوليين أمريكا والاتحاد السوفييتي، ولما انهار الاتحاد السوفيتي بنهاية الحرب الباردة، أنكشف الأساس الهش للاستقرار الاجتماعي في مجتمعاتنا المتخلفة ودولنا التي أنشأتها سايكس بيكو. وفي عودة الناس إلى الدين ولو بتأويلاته الأصولية والسلفية، ضرب من الرغبة في الإحساس بالأمان فحين تكف الدولة عن رعاية المجتمع ـ تلك الدولة التي اعتمدت في استقرارها على هبات الانحياز لأحد قطبي الحرب الباردة ـ تعود المجتمعات غير الحديثة إلى وحداتها الأولى وموروثاتها التي تمنحها الاطمئنان مثل الدين والقبيلة والطائفة لهذا فإن ظاهرة التدين التي تصيب المجتمعات هي ردة فعل على فشل الحداثة التي تم تأسيسها على أسس هشة وظاهرية. طبعا هذا لا يعني أن الحقبة الاستعمارية وسنوات الحرب الباردة كانت كلها سلبية فالتعليم والوعي العام، والخدمات وكل الحياة العصرية في نواحيها الإيجابية؛ كل ذلك كان مكسبا لا يمكن التفريط فيه، لكن مع ذلك نجد أن معطيات الواقع الذي نعيشه الآن وما فيه من تعبيرات وتأويلات دينية تدلنا على أننا مازلنا على مفترق طرق وأن التخلف هو السمة الظاهرة في فهمنا للحداثة والإسلام معا هذه حقيقة واضحة. والآن بعد كل هذا الخراب ثمة مطلب واحد ينبغي أن يؤكد عليه الجميع : السعي للحريات والحرص عليها من طرف كل القوى العلمانية والإسلامية؛ الحريات، والعمل السلمي، واحترام نتائج المعرفة المتصلة بقراءة الواقع... وبعد ذلك من جاء إلى سدة الحكم سلميا وديمقراطيا ـ أي برضا المجتمع ومعرفته ـ هو الذي يجب أن تحترم تجربته السياسية في السلطة، عبر التداول السلمي.
بيد أن الأمر المؤكد أن الوصول إلى هذا المستوى من التداول السلمي للسلطة بين مختلف التيارات السياسية في هذه المنطقة، سيحدث بعد زوال التخلف وقيام مجتمعاتنا على المعرفة والحرية. والأهم من ذلك أن قيامة تلك المجتمعات ووصولها إلى شط العلمانية الحقيقية أو الإسلام عبر المعرفة والحرية سيحتاج إلى سنوات طويلة ربما عشرات وربما مئات السنوات,وحتى في هذا الطريق الطويل لابد أن تنطوي الحداثة على إبداع خاص، ولا بد أن تأتي لحظة التجربة الجديدة من سياق حضاري وتاريخي خاص لبنيتها.وبالتالي فأن تقدم المجتمعات الإسلامية المختلفة لا يمكن أن يأتي على وتيرة متطابقة بل لابد لكل مجتمع أن يكون مؤسسا لحداثته الخاصة في سياق السمات العامة للمجتمعات التي تقع في محيطه الحضاري هكذا تأسست الحداثات الأوربية بين كل قطر وقطر في أوربا. وبالتالي فإن لكل مجتمع شفرة خاصة لإدراك اللحظة التي تستقطب تناقضاته وتفجر طاقاته وفق معادلة تتناسب مع نقطة الالتقاء بين القيم الكونية للحداثة والوعي الذاتي بكينونته. وهكذا سنجد مثلا بلدا مثل ماليزيا لا يرى تعارضا بين فهم ما للإسلام والحداثة، ويقدم تجربة متقدمة ومزدهرة ظاهرة للعيان، وسنجد بلدا مثل إيران أنشأ دولته الإسلامية عبر ثورة ـ مهما اختلفنا حول مسار الثورة لاحقا ـ وكذلك بلدا مثل تركيا استطاع أن يوحد مسارا بين رؤيته الإسلامية وبين الالتزام بأدوات الديمقراطية، فيما نجد على المقلب الآخر عربيا وإسلاميا، بلدا مثل السودان أوصلته التجربة الاسلاموية الأيدلوجية (التي أسس لها الترابي بامتياز) إلى شفا التفكك والخراب المديد، وبلدا مثل أفغانستان أوصلته تجربته السلفية المتزمتة في عهد طالبان إلى دمار شامل وسريع.
[email protected]