(التمكين) الثاني في مواجهة الحريات
تمت يوم الخميس الماضي مراسم احتفال الولاية الثانية للرئيس البشير بعد (فوزه) في الانتخابات، بحضور مجموعة من قادة الدول الأفريقية ومندوبي الأمم المتحدة التي صرح أمينها العام (بان كيمون) لصحيفة الحياة اللندنية، ردا على انتقادات الذين طعنوا في شرعية هذه الولاية واصفا حضور الأمم المتحدة لهذه المراسم بأنه (جزء من حدث سياسي مهم للغاية للشعب السوداني الذي انتخب البشير)؟!! وهكذا لن يجد البشير ونظامه فرصة مؤاتية أكثر من هذه الفرصة للعودة إلى موسم التمكين الثاني... (التمكين) الأول حدث في العشرية الأولى1989 ـ 1999لانقلاب البشير وحكومة (الإنقاذ) كتعبير لمصطلح إسلاموي سياسي صكته الجماعة الاسلاموية الحاكمة بقوة الأمر الواقع ليحيل على السيطرة التامة بمفاصل السلطة والأمن في السودان. ولقد صاحب ذلك التمكين علامات ظاهرة للقمع تمثلت في توقيف الديمقراطية وتعطيل الحريات السياسية، وظاهرة ما عرف بـ(بيوت الأشباح) في معتقلات الأمن وتسريح الآلاف عن وظائفهم في ديوان الدولة تحت شعار (الصالح العام) تمهيدا لإحلال أهل الولاء مكان أهل الكفاءة ممن يخالفون توجهات النظام. ثم فشت آنذاك في بعض أوساط الشعب السوداني هيئات وعلامات دالة على أنصار التمكين تمثلت بعض رموزها الشعبوية في (حقيبة) يد يحملها جوالون من أتباع النظام، أطلق عليها الشعب السوداني ساخرا اسم: (تـَمَكَّنـَّا) للدلالة على أن من يحمل تلك الحقيبة المسماة (تـَمَكَّنـَّا) هو شخص من أهل الولاء تمكن من إصلاح حاله المائل بتمكن حزبه من السلطة، بالإضافة إلى أنواع اللحى التي تم إطلاقها للتكيف مع حال التمكين مثل بعض قصَّات اللحى التي عرفت في ذلك الوقت باسم (دعوني أعيش) وأخرى باسم (من أجل أبنائي) كسبب من أسباب التكسب في زمن التمكين.
ولقد كان لسياسات التمكين الأول ردود فعل من طرف المعارضة السودانية طوال عقد التسعينات اتسمت بالصراع مع النظام عبر العديد من المواجهات العسكرية والصدامات السياسية التي صاحبت العشرية الأولى للانقلاب (سنوات حكم البشير ـ الترابي) 1989 ـ 1999 حتى وقع الانفصال بين جناحي الحركة الإسلاموية في 1999حين ضحت الحكومة بالترابي خارج السلطة نتيجة للكثير من الضغوط التي صاحبت حصارها من طرف المجتمع الدولي، وظهور التناقضات الكامنة أصلا في البنية الآيدلوجية لمفهوم الدولة الإسلامية بحسب الرؤية الطهورية لنظام الإنقاذ ؛ الأمر الذي كشف لاحقا عن رغبة عارية في الإمساك البراجماتي بمفاصل السلطة لا سيما اثر التحولات التي شهدها العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م الإرهابية وصعود اليمين الأمريكي والمحافظون الجدد.
و مع تراكمات الاحتقان الداخلي التي أنتجت لاحقا مأساة دارفور في العام 2003 أصبح النظام السوداني في حاجة للتكيف مع المحيط الدولي والإقليمي عبر اتفاقات هوائية مع قوى المعارضة الداخلية وحركات الهامش ليعكس صورة خادعة حاول من خلالها تفتيت تلك القوى والحركات، واللعب على عامل الزمن لتسويف استحقاقات التحول الديمقراطي التي طرحها كشعارات في خطابه السياسي. لكن كل تلك الاتفاقيات التي عقدها النظام مع الحركات المعارضة باءت بالفشل لعدم نية النظام في التحول الديمقراطي كما عكست في الوقت نفسه هشاشة المعارضة السياسية والكثير من حركات الهامش بدليل تشظي هذه الأخيرة إلى حركات متناسلة، حتى تم التوصل أخيرا إلى اتفاقية نيفاشا الشهيرة التي تم توقيعها بين النظام وبين الحركة الشعبية بضغوط دولية كثيفة ورعاية أمريكية في كينيا العام 2005م.
ولعل السبب الأساس الذي تمت بموجبه اتفاقية نيفاشا ضمن أسباب أخرى هو اضطرار حزب المؤتمر الوطني الحاكم لتسوية صراع العسكري و النضال التاريخي مع الحركة الشعبية الذي دام لأكثر من 15 عاما حين عجز عن حسمه عسكريا لا سيما وأنه نظام لا يعرف غير منطق القوة .
وهكذا تمت اتفاقية نيفاشا من أجل تقسيم السلطة والثروة في السودان بين النظام والحركة الشعبية. والحال أن كل من الشريكين الذين تقاسما السلطة والثروة على مضض في السودان ضمن شروط اتفاقية نيفاشا ؛ لم يكن الصراع بينهما على استحقاقات تلك الاتفاقية التي تضمنت إجراء الانتخابات والاستفتاء بالنسبة للجنوب فحسب، بل على الرؤى والتفسيرات الآيدلوجية لدى كل واحد منهما حيال استحقاقات نيفاشا؟!.
وبالرغم من العوائق الأصلية التي تفرضها طبيعة الآيدلوجيا الانسدادية لكل من الحزبين الحاكمين: المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية ـ وهي آيدلوجا اسلاموية من جهة، وآيدلوجيا علمانوية من جهة أخرى، فإن الغرابة لا تتوقف فقط على مجرد تلك الآيدلوجيا الانسدادية واستحالة اللقاء بينهما فحسب ؛ بل وفي الطبيعة العسكرية والفئوية لكل من التنظيمين الأمر الذي زاد الوضع تعقيدا في بلد تتراكم أزماته منذ الاستقلال بطريقة تصاعدية حادة.
وحين توهم التنظيمان إمكانية تحقيق الوحدة والسلام والديمقراطية أثناء توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا بكينيا في العام 2005 كان الغائب الأكبر في الأفق الاستراتيجي هو استحالة تلك الاستحقاقات في غياب شراكة سياسية وطنية لكافة القوي الحزبية ضمن مناخ تعددي، وهذا مالم يتحقق في ذلك الوقت، لكن الفرحة بوقف الحرب تم تعويمها في الأجندة الدعائية لكل من التنظيمين كما لو أنها بذاتها حلا سحريا لمشكلات الديمقراطية والوحدة والسلام التي يحتاجها البلد.
وهكذا حين تم أخيرا تمرير الانتخابات بتواطؤ بين الشريكين وتزوير منهما ـ كل في منطقة نفوذه ـ وبمباركة من الولايات المتحدة والقوى الإقليمية بدا واضحا أن نتائج الانتخابات ـ التي ستفضي إلى قيام دولة جديدة في الجنوب بداية العام القادم حين يتم الاستفتاء للجنوبيين في يناير ـ ستتحول في الشمال إلى موسم للتمكين الثاني بالنسبة لنظام المؤتمر الوطني ولكن هذه المرة عبر الشرعية المتوهمة نتيجة لفوز المؤتمر الوطني في الانتخابات المزورة.
ولقد بدا ظاهرا الآن أن فسحة الحريات التي صاحبت سنوات ما بعد اتفاقية نيفاشا كانت تمهيدا خادعا للالتفاف عليها ضمن خطة المراوغة والتكيف مع بنود الاتفاقية المتصلة بالتحول الديمقراطي التي وصلت ذروتها في قرار رفع الرقابة القبلية عن الصحف قبل الانتخابات. لكن انسحاب قوى المعارضة السياسية الرئيسية من تلك الانتخابات كان خيط البداية لكشف نية النظام في الارتداد عن تلك الخطوات التي أعلنها ضمن التمهيد لعملية التحول الديمقراطي.
واليوم بعد أن ظهرت الملامح النهائية لترتيبات ما بعد الانتخابات وتمرير الصفقة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على ضمان الانفراد بالشمال من طرف المؤتمر الوطني مقابل الاستفتاء على الجنوب لتنفرد به الحركة الشعبية ؛ ظهرت بوادر الارتداد على الحريات في العديد من الإجراءات التعسفية التي مارسها النظام العائد إلى مرحلة التمكين الثاني بكل يقين.
كانت البداية بالتعدي على الحريات الصحفية ووقف مؤقت لصحيفتي (الحرة) وصحيفة (الأهرام الجديدة) ثم تم بعد ذلك اعتقال الدكتور حسن الترابي رئيس حزب المؤتمر الشعبي بطريقة مختلفة تماما عن كل المرات التي تم فيها اعتقاله من قبل ؛ هذه المرة صرح النظام بضرورة محاكمته ـ وهو أمر كانت تحذره الحكومة في المرات السابقة على خلفية الكثير من الأوراق والأسرار التي طالما لوح بها الترابي من ناحية، وخشية ردود الفعل الدولية من ناحية ثانية ـ ثم توالت التعديات على الصحف فتم اعتقال صحفي من صحيفة (صوت الشعب) الناطقة باسم حزب الترابي، وتم إغلاق مقرها كما تم توقيف صحيفة الصحافة وتقديم صحفيين إلى المحاكمة من صحيفة (أجراس الحرية) الناطقة باسم الحركة الشعبية. بالإضافة إلى حالات التعذيب التي طالت بعض الصحفيين ؛ كل هذه الحيثيات لا يمكن قراءتها إلا على ضوء إحساس مريح من طرف الحكومة بتمكنها من إطلاق يدها دون أي رقابة خارجية... إنها عودة موسم التمكين الثاني الذي ظهرت بداياته الآن وهو موسم سيستغرق على الأقل 5 سنوات أخرى ستشهد ارتدادات متواترة عن الكثير من المكاسب والحريات التي انحنى لها النظام لتمرير سنوات اتفاق نيفاشا التي بقي على نهايتها أقل من عام. كنا كتبنا في مقال سابق بإيلاف تحت عنوان (الانتخابات السودانية: سيناريو الفراغ) نشر في 11/4/2010م أول أيام الانتخابات السودانية جاء فيه: (يبدو أن في هتافات البشير وشعاراته الدينية الفاقعة ـ التي خفت بعد توقيع اتفاقية نيفاشا ـ ما يشي بإمكانية عودة سنوات quot; التمكين quot; الأولى لنظامه في المرحلة القادمة ـ وهو ما يعني بالضرورة احتمال قوي لصفقة مبرمة تؤدي إلى انفصال سلس وآمن لجنوب السودان ـ لكن ربما كانت من أهم التحديات التي ستواجه النظام في الشمال: مشكلة دارفور التي تحولت إلى مأساة إنسانية وبؤرة تدويل محتقنة، وكذلك حزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي).
ولا يخفى على المراقبين أن اعتقال الترابي جاء من طرف النظام نتيجة لتصفية حساب مع تصريحات سابقة أطلقها الترابي قبيل الانتخابات بخصوص فضيحة أخلاقية متصلة بقضية دارفور نقلا عن لسان أحد رموز النظام، وكذلك على هامش الأحداث العسكرية التي وقعت في دارفور في هذا الشهر بين حركة العدل والمساواة والحكومة وأدت إلى تجميد الحركة لمفاوضات الدوحة بعد الطعن في مصداقية الدوحة إزاء الحياد في إدارة المفاوضات، ومن ثم مجيء الدكتور خليل رئيس حركة العدل والمساواة للقاهرة في إشارة واضحة إلى دخول الدور المصري كوسيط بين حركة العدل والمساواة مع الحكومة السودانية من منبر أخر يفسر صراع الرؤى بين موقفي الدوحة والقاهرة حيال تبني الحلول السلمية والتفاوضية في الأزمة السودانية.
[email protected]