(ما أهدأ الأعشاب الذابلة عندما يقترب منها اللهيب)هايكو ياباني


منذ يوم الاثنين الماضي بعد الهجوم على قافلة أسطول الحرية من قبل الجيش الإسرائيلي سال حبر كثير على الصحف وكلام وخطب على الفضائيات العربية كالعادة في أعقاب وقوع الأحداث الكبرى. وكالعادة ينتهي الموسم بعد أسبوع تقريبا من الحدث فتسكت الأصوات وتجف الأقلام في انتظار نكبة جديدة لذلك العود الأبدي من الكلام والكتابة العربيين.
ما حدث مع أسطول الحرية والتداعيات التي ستنجم عنه بسبب دخول تركيا على الخط سيكون مختلفا تماما عن تلك العادات العربية، وسيعكس بالضرورة طريقة أخرى لمواجهة الأحداث وتداعياتها. فهذه المرة سنرى بصورة واضحة ردود الفعل التي تتجاوز البكاء واللطم رسميا وشعبيا ـ كما هو حال الدول العربية ـ إلى ما هو أبعد من ذلك وأجدى نفعا في إدارة الصراع مع إسرائيل.
زاوية المواجهة هنا هي الديمقراطية تحديدا، أي في تلك العلاقة القائمة على الرضا بين الحكومة وشعبها وعلى الرؤية الواضحة والمصير الواحد الذي لا يمكن أن يكون مختلفا بين الطرفين. وهذا بالضرورة سيؤدي إلى نتائج ملموسة في ردود الأفعال وأسلوب المواجهة والأهداف العملية لمعاقبة إسرائيل بطريقة ربما كانت حساسة جدا بحيث أن أي إخفاق في تحقيق النتائج المرجوة من العقاب سيؤدي بالضرورة إلى أزمة داخلية بين الحكومة وشعبها، لا سيما وأن حزب العدالة والتنمية يدرك تماما معنى التوازنات الداخلية والرصيد الذي حققه طوال6 سنوات على صعيد التوجه الديمقراطي والشفافية.
ولعل في الشروط التي ذكرها وزير الخارجية التركي أحمد داؤود أوغلو والتي تمثلت في: عودة الناشطين إلى تركيا في وقت محدد (حققته إسرائيل عندما قامت بإعادة الناشطين في نفس الوقت الذي حدده الشرط)، والشروع في تحقيق دولي شفاف حول هذه القضية، وإنهاء الحصار عن غزة، ما يؤكد أن مثل هذه الحيثيات والشروط هي أقل ما تقوم به دولة ديمقراطية حرة إزاء اعتداء وقع على مواطنيها في قضية عادلة. بمعنى آخر أن ردود الأفعال على اعتداء الجيش الإسرائيلي على أسطول الحرية لن تتوقف في موسم البكاء السريع ـ كما جرت على ذلك العادة العربية ـ وإنما ستكون هناك متابعة ونفس طويل وخطوات عملية وقبول من طرف المجتمع الدولي وإصغاء حقيقي لشروط تركيا.
ان اختبار تداعيات حادثة أسطول الحرية وطريقة التعاطي معها على ضوء الوضع الديمقراطي لتركيا سينبه الكثيرين من المتابعين إلى تلك العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والنضال الحقيقي من أجل القضايا العادلة،وسيؤكد على أن التحول الديمقراطي هو الذي ينبغي أن يحتل الأولوية في المنطقة العربية لاستعادة أساليب الصراع الفعالة مع إسرائيل.
صحيح أن هناك الكثير من الأضواء التي ستسلط على الدور التركي العائد بقوة إلى منطقة الشرق الأوسط، وصحيح أيضا أن كاريزما الدور التركي ستحظى بتأييد كبير في المنطقة العربية وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيخطف الأضواء من أي قائد عربي لوقت طويل، وكذلك ستنحسر الأضواء على الدور الإيراني الدعائي ذي الشعارات الخادعة. رغم أن كل ذلك صحيح ولا يخلو بالطبع من تمرير مكاسب لتركيا، إلا أننا سنجد أن النقطة الجوهرية والرافعة الأساسية للدور التركي في هذا الصراع هي الديمقراطية مرة أخرى.وإذا كان غياب الديمقراطية في المنطقة العربية هو الوجه الآخر لذلك البكاء والندب الموسمي في التعاطي مع الأحداث والكوارث السياسية التي تقوم بها إسرائيل في المنطقة، فإن أن الآيدلوجيا الدينية النسقية لولاية الفقيه في إيران هي التي تمنع أيضا من التعاطي مع الصراع العربي الإسرائيلي على نحو مباشر، أي في إعاقة أي حراك لبعض فئات الشعب الإيراني في القيام بمثل هذه المبادرة التي قام بها الشعب التركي. وهكذا سنجد أن الديمقراطية هي الضوء الذي يكشف لنا خداع الدور الإيراني في تبنيه لشعارات النضال في قضية الشرق الأوسط دون أن ينعكس ذلك حراكا مستقلا لأفراد الشعب الإيراني، ولعل الجميع يتذكرون الفتوى التي أصدرها مرشد النظام الإيراني علي خامنئي إبان العدوان الإسرائيلي على غزة والتي حظر بموجبها خروج أي متطوع إيراني لمناصرة الفلسطينيين خارج الحدود الإيرانية.
إن الديمقراطية باعتبارها حراكا حرا مستقلا سواء للإفراد أو للمجتمعات لا يقبل القسمة على أحد ؛ لا على الهيمنة الآيدلوجية، ولا على القمع (كما في إيران والمنطقة العربية) هي وحدها التي تضمن حرية القدرة على المناصرة بضمير فردي حر وعمل جماعي حر مثلما فعل الشعب التركي في هذه المحاولة الأولى لكسر الحصار عن غزة. وهكذا سنجد أن الديمقراطية تتقاطع بالضرورة مع القضايا العادلة بعيدا عن الأجندات يمكن أن تستخدمها الدول الديمقراطية على هامش ذلك الحراك.... الخشية الكبرى هي في عجز الاستثمار العربي لذلك الاختراق الذي حققته الديمقراطية التركية بوضع قضية الحصار في دائرة الضوء وضمن شروط محكمة لفك ذلك الحصار بطريقة حولت قضية الصراع العربي الإسرائيلي من الأفق العربي ذي النسق المحدود والمغلق والعاجز عن الفاعلية في دوائر القرار الدولي ؛ إلى استحقاق مشروط بشروط تحترمها القوى الدولية. وهكذا حين تحول فك الحصار إلى شرط تركي مطروح في أجندة القوى الدولية لحل الأزمة تبدو لنا الديمقراطية هي بمثابة ذلك السر الذي يمكنه أن يفسر لنا جملة من الإشكالات والأزمات التي يمكن أن تحل عبر الاستحقاق الديمقراطي.صحيح أن الكثير من العلاقات التاريخية والثقافية والاجتماعية وما يتصل بها من جوار ومصالح بين تركيا والعالم العربي يمكن أن تأتي في هامش هذا الحدث، ولكن الفاعلية الحقيقية لتحويل موضوع فك الحصار عن غزة إلى قضية حيوية في المجتمع الدولي وعواصم القرار كقضية قابلة للحل الجاد والموضوعي ما كان له أن يتم إلا عبر الديمقراطية السياسية لتركيا.

على هامش أسطول الحرية
ربما كان النضال السلمي يخضع لشروط أكثر دقة وحساسية من شروط النضال المسلح، وبما أن ناشطي أسطول الحرية هم في الافتراض الأساس ناشطون سلميون ودعاة لفك الحصار سلميا، كان لابد أن تكون هناك حساسية عالية تكترث كثيرا لضمان التطابق الكامل بين شعار الأسطول (المساعدات السلمية) وبين الأقوال والشعارات التي تنعكس تأويلا لمعناه السلمي مهما كانت الاستفزازات والمواجهات ؛ ففلسفة النضال السلمي تنجح دائما في مواجهة القوى العاتية بطبيعتها السلمية الدقيقة تلك تماما كما التجارب الأخلاقية والإنسانية الرائدة لكل من (غاندي ـ مارتن لوثر كنج ـ مانديلا...) وهي ربما كانت المقاومة الوحيدة العابرة للمواضعات والظروف التاريخية بشرطها الإنساني، وبالتالي تظل قدرتها عالية على المواجهة في كل زمان ومكان. ما نعنيه هنا أن بعض الشعارات التي أطلقها ناشطو أسطول الحرية ـ كما نقلت ذلك فضائية الجزيرة ـ كانت تنطوي على تحديات رمزية وحربية لا تصلح في العادة لمن التزم بالعمل السلمي كترديد البعض لشعار (خيبر خيبر يا يهود ـ جيش محمد سوف يعود) وهو للأسف ما أحتج به الناطق الرسمي باسم الحكومة الإسرائيلية كدليل على نوايا العنف ـ رغم أن حجته متهافتة بالطبع لعدم وجود سلاح مع الناشطين ـ. لكن في ظل موازين القوى المختلة اختلالا فاضحا بين إسرائيل والعالم العربي تظل الكثير أساليب النضال السلمي ذات فاعلية عالية ـ إذا تم الالتزام الدقيق بأصولها الحساسة ـ لا سيما مع التوحش الفظ والاستخدام المفرط للقوة من طرف إسرائيل الأمر الذي سيجعلها دولة معزولة، وسيعزز ذلك بالتالي فرص المواجهة السلمية لتكون أكثر فاعلية.
[email protected]