من يتابع البرامج السياسية وبرامج الرأي في الإعلام العربي يساوره شعور بالإحباط والعقم في أن يجد متعة ومصداقية وعمق لدى ضيوف الحلقات التي يظل يأمل في كل مرة جديدة أن يكون فيها ما يفيد ويغري بالمتابعة لكن في كل مرة يكذب ظنه حتى بدا الأمر أشبه بفوضى مستمرة ومدروسة، لا تبدا من اختيار quot;محللينquot; وquot;مفكرينquot; من الدرجة العاشرة ولا تنتهي بالإرباك المستمر للمشاهد العربي الحائر في نهاية كل حلقة.
في البرنامج الشهير على قناة الجزيرة (الاتجاه المعاكس) لا يكاد المشاهد يخرج بفكرة مفيدة من الأحاديث البهلوانية لأولئك quot; المفكرين والمحللينquot; وكأن الحيرة المستمرة هي عنوان هذا البرنامج عبر العديد من الحلقات التي يستضيف فيها هواة للحكي وquot;الرغيquot; على الهواء.
في الحلقة السابقة من البرنامج كان الحديث يدور بين ضيفي البرنامج على خلفية عملية أسطول الحرية وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في المنطقة، وطبيعة هذا الدور، والموقف العربي منه. وبدلا من أن نسمع سجالا موضوعيا وحديثا يليق من حيث الافتراض بمن تمت استضافتهم عادة باسم (المحلل الفلاني) و(الكاتب العلاني) سمعنا كلاما عكس باستمرار تلك الحالة العربية التي تتعاطى مع قضايا السياسة بمنطق الآيدلوجيا والخرافة، والتي تخلط في ما تدعيه تحليلا بين الحابل والنابل والأخضر واليابس. كان دفاع المتحدث عن تركيا في البرنامج دفاعا مطلقا تجاوز حدود السياسة إلى حيز الإيمان، وبطريقة بدت كما لو أنه اكتشف أخيرا في أردوغان بطلا منقذا للعرب ومحررا عظيما لفلسطين والقدس، والحقيقة أن حديث الرجل ـ بحكم السن ـ كان أشبه بتداع مر لذكريات استحضرت الهزائم العربية المتراكمة وانعكست يأسا من أمة العرب على ضوء بارقة أمل جديدة من أمة الترك.
أما الضيف الآخر فقد بدا أشبه بمن ينفخ في جثة هامدة عند حديثه حول ما قدمه العرب من أجل فلسطين، كما لو أن ما تم تقديمه حتى الآن من طرف الدول العربية هو استجابة متكافئة لطبيعة التحديات التي تطرحها القضية الفلسطينية على المستقبل العربي، بل بدا حديثه بمثابة اعتذار عن الواقع العربي العاجز عن التعاطي مع هذه القضية من منطق الفعل الايجابي.
ولأن طبيعة التحليل السياسي تفترض مقاربة أخرى لما يجري في المنطقة سواء بالنسبة لتركيا أم بالنسبة للعرب وبعيدا عن الذاتية والعاطفية فقد بدت حجة كل واحد من الضيفين خارج سياق التحليل الموضوعي ؛ أي لقد وجد كل ضيف غايته في نقد الجهة التي يدافع عنها الطرف الآخر بطريقة تسجيل النقاط وكأن القضية قضية شخصية؟!
ثمة معادلات يفرضها منطق توازن القوى، وهو منطق يحترم فيه العالم إحدى قوتين : القوة الديمقراطية أو القوة النووية. ولا شك أنه في حال غياب هاتين القوتين في المنطقة العربية (والمنطقة العربية لا تملك أيا من القوتين) سيكون ذلك الفراغ مملوءا بقوى أخرى ممن تملك إحدى هاتين القوتين بالضرورة، سواء أكان تلك تركيا (التي تملك القوة الديمقراطية) أو إيران (التي تسعى للحصول على السلاح النووي) أو غيرها من القوى وهذا منطق تعترف به السياسة كما هي في ميزان القوى الدولية، لا كما في خيالات بعض المحللين العرب من ضيوف هذه الفضائيات.
والحال أن المعادلة الدولية حيال العرب في هذه الحالة تكمن في حيز اللعب على حبال الشد والجذب بين قضيتي السلاح النووي الإيراني والقضية الفلسطينية، أي أن قضية العرب المركزية تظل باستمرار خاضعة للعديد من التوازنات الإقليمية من خارج المنطقة العربية في ظل غياب الدور العربي الفاعل. وهكذا وجدنا أن قبول الولايات المتحدة وأوربا بإجراء التحقيق الدولي في عملية أسطول الحرية وترتيبات الشروع في تخفيف الحصار على غزة لم يتم بضغوظ عربية بل احتراما للديمقراطية التركية وهكذا بمجرد التوافق على ترتيبات الحد الأدنى في مطالب تركيا الأساسية في موضوع أسطول الحرية، ظهرت قضية العقوبات على إيران في مجلس الأمن وتمت دعوة الرئيس الفلسطيني في البيت الأبيض في نفس اليوم. هكذا يتم الشد والجذب في قواعد اللعبة ؛ فكل انفراج في المنطقة يكون نتيجة لشد في مكان آخر على حساب الوجود العربي. وبالتالي فلا أردوغان هو ذلك البطل الذي سيحرر فلسطين، ولا العرب في الوضع الراهن هم في مستوى الاستجابة للتحديات التي تفرضها القضية الفلسطينية حيال مستقبلهم. لقد مر زمن طويل والعرب خارج أي معنى للاحترام في لعبة التوازن الدولي و الإقليمي حيال ما يدور حولهم وداخل ديارهم. ذلك أن ما يمنع من ذلك الدور العربي المفقود الغائب والمغيب في الوقت نفسه، تتقاطع للحيلولة دونه العديد من مصالح الأنظمة الاستبدادية والمصالح الاستراتيجية للقوى الدولية والإقليمية بالإضافة إلى تلك الحالة من الانسداد والبيات الشتوي التي تمر بها المنطقة العربية وفي زمن هذه الحقائق المرة برزت ثورة الاتصالات والمعلومات عبر أهم آلياتها : الانترنت والفضائيات والموبايل، وهي ثورة أحدثت في العالم تغييرات هائلة نحو الديمقراطية في الكثير من البلدان في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. أما في المنطقة العربية فقد أصبحت فيها تلك الفضائيات دليلا للنشاط الحزبي (الذي هو أهم ألية من آليات المشاركة السياسية) وأصبحت المشاركة في تلك الفضائيات عبر تلك الوسائط المعولمة هي بمثابة البديل السحري للنشاط السياسي عبر الهواتف النقالة والخطب الفضائية العصماء. الأمر الذي عكس مدى التخلف الذي نعيش فيه ذلك أن هذه الوسائط المعولمة لن تكون في يوم من الأيام بدائل مستقلة عن المجتمعات التي تستخدمها فهي هنا تقوم بعولمة التخلف في المنطقة العربية وتعكس للعالم ذلك الانسداد الذي يعيش فيه هذا الجزء من العالم.
ماهو معروف اليوم عن صورة هذه المنطقة في الإعلام العالمي وما ترتبط به من تخلف وانسداد وعجز هو الوجه الآخر لتلك العروض البهلوانية التي يقدمها لنا quot; المحللونquot; السياسيون في تلك الفضائيات وبرامجها بتلك الطريقة التي يبلغ فيها الاستعراض العاطفي المقرون بانتفاخ الأوداج ذروة عالية للتأثير في المشاهدين والمتابعين دون أي احترام لمسئولية الكلمة أو حتى الانتباه للأثر الخطير والعملاق للمعنى الإعلامي في فلسفة تلك البرامج باعتبارها وسيلة تصل لملايين المشاهدين في المنطقة بكل ما تضخه من آيدلوجيا وسجالات عقيمة. فتلك الفضائيات كان يمكن أن تكون أكثر فاعلية لو تم إدراك أثرها الجبار في إطلاق الكثير من مقاربات الوعي والمعرفة عبر استضافة مفكرين عرب كبار ـ وهم بالطبع مغيبون ـ لتلعب دورا كبيرا وخطيرا في توجه عقول الملايين نحو الكثير من ثمار المعرفة والحرية
لكن بما أن كل شيء معكوس في هذه المنطقة فإن معادلة الإعلام الحر التي تقوم على الاستقلال والشفافية من طرف وسائل الإعلام كشرط لضمان استقطاب قاعدة من المشاهدين والقراء والمعلنين من طرف الجماهير ـ وهي للأسف معادلة لا تتوفر أسبابها في المنطقة العربية لغياب الحريات والوعي ـ يظل الإعلام العربي قائما على علاقات أخرى غير هذه العلاقة الصحيحة. بمعنى أن الإعلام العربي هنا سيظل خطابا موجها بالكثير من الأجندات الظاهرة والخفية، وهي بالطبع أجندات تقع خارج سياق العلاقة الصحيحة والمفترضة للإعلام ورسالته، أي أن توجيه الإعلام كخطاب مدروس بأساليب خفيه للتأثير على المشاهدين وصناعة قناعاتهم المتوهمة يندرج تماما في مفهوم خطاب الهيمنة كما عبر ميشيل فوكو.
[email protected]