أن يملك الإنسان القدرة على الكتابة فهذه نعمة يمن الله بها عليه quot;خلق الإنسان علمه البيانquot;، والقدرة على البيان تمكن الإنسان من التواصل والامتداد، والتعالي على محدوديته، مما يشرح صدره ويشعره أن أثقالاً جاثمةً قد انزاحت عن صدره، لأن احتباس المعاني دون القدرة على التعبير عنها يشعر النفس بالاختناق، ولعل هذا ما دفع موسى عليه السلام إلى القول: quot;ويضيق صدري ولا ينطلق لسانيquot;.فثمة علاقة سببية بين عدم انطلاق اللسان وضيق الصدر..
وحتى يشكر الكاتب نعمة الله التي أنعمها عليه فإن هناك أموراً عدةً ينبغي مراعاتها حتى يكون له دور إيجابي مميز في هذه الحياة..
فالكاتب أولاً ينبغي أن يكون موضوعياً قدر استطاعته متجرداً من الأهواء الحزبية والطائفية والسياسية، وهذه الموضوعية هي بلغة الدين الصدق والعدل فلا يلبس منظاراً قاتماً من التعصب والحزبية والمواقف المسبقة لا يرى الأحداث والعالم إلا من خلالها، ولكن يكون قائماً بالقسط quot;كونوا قوامين لله شهداء بالقسطquot;، يكتب ما يراه حقاً ولا يصمت عما يراه باطلاً quot;ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبهquot;.ونحن هنا لا ندعو الكتاب إلى التخلي عن انتماءاتهم السياسية والفكرية فهذه دعوة إلى المستحيل، ولكن ألا يمنعه انتماؤه من وزن الأمور بعقلانية وموضوعية فلا يدافع دفاعاً أعمى لأنه إن فعل ذلك فسينال غضب الله أولاً وسيفقد مصداقيته عند الناس ثانياً، والقراء ليسوا على قدر من السذاجة والسطحية ليصدقوا كل دعوى وإن كانت مخالفةً للمنطق، والإنسان يستطيع أن يوظف قلمه لإقناع الناس ليس بالانفعال وإعلاء الصوت وشيطنة الخصوم ولكن بالطرح العقلاني الهادئ الذي يقدم الحجج والبراهين ويرد على المخالفين بأخلاقية عالية دون أن يفجر في الخصومة..
والكاتب ذو الدور الفاعل ليس هو من يتبع طريقة التمجيد والتبرير، فيصفق لحزبه ويكيل له عبارات الثناء والمديح ويجعل في شخص قائده شجاعة خالد، وكرم حاتم، ودهاء عمرو، وذكاء إياس، فإن أخطأ حزبه أو قائده، اجتهد في إيجاد الأعذار لهم، ولوى عنق الأحداث، ونقب في كل قواعد المنطق والتاريخ والدين لتبرير خطئهم، وهذا الأسلوب المنتشر في عالمنا العربي لا يساهم إلا في مزيد من التراجع، ويفقد الكاتب أهليته لأن دوره يتحول من إصلاح الواقع إلى تزويقه، ومن نصح الجماهير إلى تخديرها، وحتى لو كانت عبارات الثناء والمديح مستحقةً فهي تكرار للواقع، ووظيفة الكاتب ليس تكرار الموجود، بل النقد البناء وإكمال النقص والتوجيه نحو موطن العمل..
وفي المقابل تجد فريقاً من الكتاب تفيض مقالاتهم بالتشاؤم ولعن الواقع والشكوى والتذمر والقول بأن الناس قد هلكوا، دون أن يوجهوا نحو خطوات عملية للتغيير، وهم بذلك لا يقدمون للقارئ جديداً، فحتى العجائز يحسنّ أسلوب الشكاية والتذمر، ومهمة الكاتب هي أن يوقد شمعةً لا أن يلعن الظلام ألف مرة فيناقش المشكلات نقاشاً موضوعياً علمياً، وينفذ إلى الأسباب العميقة ويقدم الحلول الإبداعية.
والكاتب ينبغي ألا يكتب لمجرد الكتابة، ولا تكون كتاباته حشواً تضيع وقت القارئ دون أن تضيف له جديداً، ولا تكون كتاباته لتسجيل حضور في الأحداث وحسب، ولكن ينبغي أن يكتب لهدف، فيسأل نفسه قبل الشروع بكتابة أية مقالة:هل سأضيف للقارئ فكرةً جديدةً، أو أرسخ مفهوماً قائماً، أم ستكون فكرةً مكررةً مستهلكةً تقليديةً؟ فإن كان نعم فليتقدم وإن كان لا فليتأخر..فنحن في عصر الطوفان المعرفي والإنسان حائر ماذا يقرأ وماذا يترك فلا ينقصنا الكم، ولكن تنقصنا الإضافة النوعية..
وحتى يكون الكاتب قادراً على تقديم الإضافة النوعية فلا بد أن يكون قارئاً جيداً، فالأفكار لا تأتي من فراغ، ولكنها إفراز للحصيلة المعرفية، وكلما كان الكاتب مشبعاً بالوعي والمعرفة كلما قدم مادةًً أكثر فائدةً وعمقاً، وكان أبعد عن السطحية والتكرار، وقد استفدت من نصيحة قيمة للمفكر خالص جلبي وهي إذا أردت أن تكون الكاتب الأول فكن القارئ الأول..
والكاتب لا ينبغي أن يكون منفعلاً تفقده الأحداث صواب الرؤية فيكتب مندفعاً تحت تأثير اللحظة دون أن ينظر إلى الأفق، فالكاتب المنشود هو الفاعل وليس المنفعل..إننا بحاجة إلى الكاتب الذي يتجاوز تفاصيل الأحداث الصغيرة ليقدم رؤيةً متكاملةً بعيدة المدى، فلا يبقى في دائرة ردود الفعل تستنزفه التفاصيل وتشتته الأحداث، ولكن ينظر إلى الواقع بموضوعية وهدوء ويتجاوز أعراض المشكلة، وتعدد المظاهر إلى أسبابها الجوهرية وقواعدها العامة، ويحسن تشخيص المرض ليقدم له الدواء الشافي.
والكاتب حتى يكون له دور إيجابي فإنه ينبغي أن يتناول أموراً عمليةً لا نظريةً وجدليةً، وكما قال سلفنا الصالح فإن كل قول لا يبنى عليه عمل فهو لغو..فلا يتناول قضايا تاريخيةً تجاوزها الزمن، ولا يخوض في مسائل نظريةً العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، ولكن يتناول هموم الناس الملحة، وقضاياهم الحية، لا يشبعهم وعظاً ومثاليات وحسب ولكن يقدم لهم مقترحاً عملياً مهما كان متواضعاً فإنه سيضيء شمعةً ويضع لبنةً وسينقلنا من الشعارات العامة إلى الخطوات العملية..
والكاتب ينبغي أن يستشعر خطورة الثغر الذي يقف عليه، وأن كلماته التي تخطها يمينه هي سهام تنطلق فلا يستطيع استعادتها، فيحرص على أن يكون داعية خير يسدد ويقارب ويؤلف ويزرع الحب في النفوس، لا أن يعميه تعصبه الحزبي فيؤجج الفتن ويشعل الحرائق ويعمق الشرخ في المجتمع، وينثر بذور الكراهية والحقد..
قال لي أحد أصدقائي إنه حين كتب رسالة الماجستير دقق في اختيار كل كلمة فيها لأنه قبل أن يكتب الكلمة كان يتخيل هذا الكتاب بعد عقود من الزمن في يد الأجيال القادمة فأراد أن يقدم لهم علماً ينفعهم في حياتهم، وينفعه بعد موته، وهذه الروح إذا تحلى بها الكاتب فإنها تجعله أكثر مسئوليةً وأقل اندفاعاً وتهوراً..
وما من كــاتب إلا سيفنى *** ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء *** يسرك في القيامة أن تراه
وصدق ربنا العظيم الذي قال: quot;ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد..
والله أعلى وأعلم..
التعليقات