قال لي أحدهم: من أنت وما الذي تفهمه حتى تكتب حول القرآن.. قلت له: وما الذي كتبته حول القرآن؟ قال لي: قرأت لك عنوان مقالة التعامل السنني مع القرآن، وعنوان مقالة أخرى حول غير المسلمين وهل هم كفار دائماً.. قلت له: وما هي الفكرة التي فهمتها من هذين المقالين؟ قال لي: لم أقرأ محتواهما لأنني مشغول وحكمت عليهما من العنوان فقط.. قلت - ولكن في نفسي هذه المرة-: خسارة على وقتك الثمين أن تضيعه في القراءة، فالقراءة ربما أصبحت من شغل الفارغين، أما أمثالك فهو يفهم كل شيء، وهناك في حياته أولويات أهم من القراءة والتعلم..

ما أحزنني ليس هو أن ينتقدني صاحبي، فنحن للنقد البناء أحوج إلينا من المدح والثناء لأن النقد هو الذي يبصرنا بمناقصنا فيدفعنا إلى تجنبها فنتطور للأفضل، ونحن لا نزعم أن أفكارنا هي الحق المبين، فهي خليط من الخطأ والصواب، وربما كان خطؤنا أكثر من صوابنا، ولكن ما يحزنني هو شخصنة النقد، فلو أنني كتبت نفس الكلام دون أن أغير حرفاً واحداً ولكنني زعمت أنه لأحد جهابذة العلم الذين يقتنع بهم صاحبي وأمثاله لأثنى عليه عبارات المديح وتعجب من هذا الفهم العميق والفقه المستنير، ولا أقول هذا الكلام إعجاباً بأفكاري، لأنه حتى المدح هنا لا يشرفني، فهو لو مدحني يوماً فسيكون مدحاً لشخصي، وليس لفكرتي، وقد سبق لي أن انتقدت من يتوقف تفاعلهم مع المقالات على قولهم (شكراً كلامك رائع وبارك الله فيك) دون مناقشة الفكرة..فهؤلاء مثل هؤلاء تماماً لا يقرءون ولا يفهمون، وما يصنع الفرق بينهم هو موقعهم من شخص الكاتب، فإن كان الكاتب متناسباً مع مزاجهم كان مدحاً، وإن كان هناك موقف شخصي أو هوى خفي كان ذماً.والأمران هما وجهان مختلفان لعملة واحدة من الفراغ الفكري.

أما من يناقش الفكرة فهو لا يهمه شخص قائلها إن كان عالماً كبيراً أو مغموراً حقيراً، فهو يدور مع الحق أينما دار، وهو لا يعرف الحق بالرجال، ولكنه يعرف الرجال بالحق كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في مقولته الخالدة، كما أنه لا يتعامل مع الناس بمنطق الثنائية والحدية فإما قبلهم جملةً وإما ردهم جملةً، فكل يؤخذ منه ويرد، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ منه ويرد في الشئون الدنيوية، وعصمته هي في الوحي والدين وليس في الأمور الحياتية أو التكتيكات العسكرية والسياسية التي كان يتراجع عن رأيه فيها كلما تبين له رأياً أصوب كما فعل في موقع القتال في بدر أو في تأبير النخل..

إن من أمارات النضج الفكري أن نتعامل مع الفكرة مجردةً مفصولةً عن الشخص، وألا نتعامل مع الأشخاص بنظرة إما مقدس وإما مدنس، بل نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وإن أخطأ إنسان في موضع فهذا لا يعني أن نصدر عليه حكماً عاماً ونعلن القطيعة الأبدية معه، فربما كان رأيه في موضع آخر هو عين الحكمة.ونفس الشيء في الجانب المقابل فأن تحب إنساناً لا يعني أن تقدسه وتقلده تقليداً أعمى وتتعصب له، بل ينبغي أن تظل هناك مسافة فاصلة بين الحب الشخصي له وبين مناقشة أفكاره التي تصيب وتخطئ..

وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم لم يتخلوا عن ملكتهم النقدية حتى في التعامل مع خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم فهم لم يكونوا في موقف المتلقي السلبي، ولكنهم كانوا يناقشونه في كل ما يقول ويتساءلون ويتعجبون وحين يتبعوه فإنما على بصيرة، والأمثلة على ذلك يضيق المقام بذكرها فهي بالآلاف، ويكفي أن يطالع أحدنا أحد كتب الصحاح ويتأمل طريقة الصحابة في التفاعل مع أقوال النبي.فإذا كان هذا حال الصحابة مع النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى فكيف يريد منا البعض أن نبيع عقولنا لمن هم أدنى من النبي صلى الله عليه وسلم بكثير، وأن نقبل كل ما يقولون دون مناقشة أو تردد، وأن نكفر بنعمة الله علينا الذي وهبنا عقولاً تفكر وتميز وكرمنا بالإرادة والاختيار..

لقد غاظني غيظاً شديداً قول أحد أصحابي-وهو صديق عزيز على المستوى الشخصي ولعله يقرأ هذه المقالة- وهو يعترض على قولي إنني غير ملزم بأن أقبل بكل ما اجتهد به القرضاوي، وكان رأيه أن أقبل بالقرضاوي على علاته لأنه قضى سبعين سنةً من عمره في العلم والتأليف، ولأنني لست مؤهلاً لأناقش أفكاره.قلت له: لقد تعمدت أن أذكر اسم القرضاوي تحديداً لأنني أكن له محبةً وتقديراً، ولكن هذا لا يقتضي أن أتخلى عن ملكتي النقدية وعن عقلي الذي كرمني الله به، وأن أتحول إلى آلة حفظ وتسجيل، ولا أظن أنه سيسر القرضاوي أو غيره من العلماء الغيورين على الأمة أن يروا جيل الشباب من الأمة جيلاً مقلداً متبعاً لا يناقش ولا يبدع ولا يجدد، ومهما بلغ علم أحد من البشر فهو لن يصل إلى المنتهى، وسيظل دائماً بإمكان الخلف أن يضيفوا لبنةً ويثروا ما جاء به السلف.

صحيح أن أمثال هؤلاء العلماء لهم فضل الأسبقية وهم بالتأكيد قد أحاطوا بمسائل لم نحط بها علماً بعد، ولكن هذا ليس مسوغاً لنقبل آراءهم دون مناقشة، واحترامنا لعلمهم وكبر سنهم يكون بأن نطلب منهم باحترام أن يبينوا لنا الأدلة التي يستندون إليها، وألا نسارع إلى مخالفتهم قبل أن نفهم حيثيات اجتهاداتهم وأن نفترض أنه قد تبين لهم ما لم يتبين لنا بعد ، ولكن كل هذا لا يعني أن آراءهم ملزمة لنا وأنه لا يجوز لنا أن نفكر في اتجاه آخر ونستطلع آفاقاً جديدة..

إن سليمان عليه السلام الذي آتاه الله الملك والحكم وعلمه من كل شيء لم يجد حرجاً أن يستمع للهدهد وهو يقول له: quot;أحطت بما لم تحط بهquot;، ولا يوجد إنسان أقل من الهدهد، فربما تبين لطفل صغير ما غاب عن عالم كبير في إحدى المسائل، وقد شاءت حكمة الله أن يوزع فضله على عباده وألا يحتكره شخص لوحده وما كان عطاء ربك محظوراً.

إن الله رب العزة تعالى في سمائه وهو الذي لا يسئل عما يفعل قد راجعته الملائكة فقالوا له أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وهم على يقين بأن الله لا يقضي أمراً إلا لحكمة ولكنهم ناقشوا وتساءلوا حتى تستوعب أفهامهم هذه الحكمة، ولم يكن الجواب الإلهي قمعياً، ولكنه كان بالإقناع أن أراهم علة خلق آدم حين علمه الأسماء كلها وأمره بأن ينبئهم بها فكان التسليم عن علم لا عن جهالة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا..فلماذا يريد البعض أن يعطي للبشر ما لم يعطه الله لنفسه فلا نناقش ولا نعترض ولا نتساءل..

يبرر البعض ثقافة التقليد الأعمى بما يسميه مبدأ السمع والطاعة والجندية أو تقدير العلماء أو الحفاظ على وحدة الصف وغير ذلك من التبريرات التي يضعها في غير موضعها..ومثل هذا الفريق لا يفقه من الإسلام سوى مثل هذه المصطلحات التي يفسرها خطأً على نحو قمعي إجهاضي لكل ذي موهبة وفكر، فهو لا يرى في الإسلام مبدأ الشورى العظيم الذي نزلت سورة كاملة باسمه، ولا يرى مئات الآيات التي تدعو إلى التفكر والتدبر والتعقل، ولا يفقه الآيات التي تتوعد بالعذاب الأليم من يعطل عقله ويطيع سادته وكبراءه..

إن هذه الثقافة المنغلقة الجامدة هي من الأسباب الرئيسة لحالة التأخر الفظيع الذي تعاني منه الأمة، فالناس قد باعوا عقولهم لسادتهم وكبرائهم، وإذا تبدى لهم أمر يخالفه منطق العقل والفطرة السليمة سارعوا إلى إجهاض هذا النور وأوهموا أنفسهم بأن هذا الأمر قد تنبهت له القيادة الحكيمة الرشيدة بالتأكيد وأنها أوعى منهم و لديها من الخبراء وأصحاب الرؤية الثاقبة ما يحول بينهم وبين الخطأ، وبذلك تكرس الاستبداد وتجذر الإرهاب الفكري وقبرت العقول والمواهب، وساد الجهل والظلمات..

إننا لن نجني من هذا التفكير السقيم إلا مزيداً من التأخر والانتكاس، ولن تكتب لنا نهضة أو صحوة ونحن نقتل الرأي الحر، ونضع الأغلال والقيود لمحاربة التفكير والإبداع والتجديد، ونجهض ملكة النقد عند شبابنا، وإصلاح أحوالنا لن يتأتى إلا بثورة فكرية عارمة على الجمود والوثنية الفكرية، وتشجيع الشباب على المناقشة والمراجعة وتحطيم التماثيل وكسر المسلمات الخاطئة، وأن يوضع كل شيء تحت دائرة التساؤل والتقويم، وألا يكون أحد فوق النقد ولا تحته.

والله أعلى وأعلم..

[email protected]