ثارت ثائرة الثائرين حين أعلن شخص معتوه لم يكن العالم يسمع به من قبل عن اعتزامه إحراق المصحف، وتعامل البعض مع هذه الخطوة وكأنها تهدد بناء الإسلام بالانهيار، وكأن إحراق أوراق المصحف سيؤدي إلى شطب القرآن من الوجود.
أغلب الظن أن هذا القس والذي وصفته ابنته بأنه فقد عقله، والذي يقل عدد مرتادي كنيسته عن الخمسين شخصاً أعلن عن هذه الخطوة طلباً للشهرة وهو الهدف الذي نجح في تحقيقه بامتياز، ساعدته في ذلك آلة إعلامية جبارة كل همها هو الإثارة فحسب دون أي استشعار للمسئولية، كما ساعده بعضنا من حيث لا يدري بإعطائه أهميةً لا يستحقها، وحين يرى شخص يعاني من اضطرابات نفسية تظاهرات تخرج ضده فإن ذلك لن يكون مصدر إزعاج له، بل إن تلك التظاهرات ستشبع نفسيته المريضة وستشعره بالنشوة وستخلق لديه إحساساً بأنه شخص ذو قيمة وتأثير، وأنه صار قاهراً للأعداء..
يحق لذلك القس المعتوه -والذي تعمدت ألا أحفظ اسمه لأن هناك ما يكفي من الأولويات لأشغل بها حيزاً من ذاكرتي- يحق له بعد اليوم أن يفتتح معهداً للتدريب على كيفية نيل شهرة عالمية في أقل من أسبوع، وأتوقع له نجاحاً كبيراً في أوساط جمهور فارغ باحث عن الشهرة.
لكم أن تتصوروا لو أنه قام بفعلته بعيداً عن كل هذا الصخب والضجيج، وأن أحداً لم يعره أي اهتمام هل كان سيضر الإسلام شيئاً، وماذا علينا لو امتثلنا للهدي القرآني فأعرضنا عنه quot;وأعرض عن الجاهلينquot;..
إن الكرة الأرضية يسكن فيها ستة مليار إنسان ولن تعدم بين هذا العدد المهول حاقدين ومرضى نفسيين، ولن نستطيع أن نجمع الناس على عدم الإساءة إلى رموزنا، وكما قال الشاعر لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار، فالحل الأمثل في التعامل مع هؤلاء هو التجاهل والإعراض، لأن الرد عليهم سيغري مزيداً من السفهاء باقتفاء أثرهم لتحقيق ما حققوه من شهرة وإحساس بالأهمية.
إننا نقع في ذات الخطأ الذي وقعنا فيه أثناء أزمة الرسوم الساخرة، فنصنع من أشخاص تافهين أبطالاً في نظر شعوبهم، في أزمة الرسوم المسيئة حوَّلنا شخصاً مجهولاً في بلد مجهول إلى أشهر من نار على علم فأحرقنا صوره في التظاهرات ونشرناها في المواقع الالكترونية وفي الفضائيات فصار موضع ثناء وإعجاب ينال الأوسمة والجوائز من المؤسسات والزعماء الغربيين وآخرهم المستشارة الألمانية.
لكن وللاستدراك فإنني أسجل شهادةً بأننا كنا هذه المرة أقل انجراراً إلى الاستفزاز، فآثر كثيرون التجاهل وعدم إبداء أي اهتمام تجاه الحادثة لكن كثيرين في المقابل لم يتعلموا الدرس بعد فكانت هذه الكلمات ذكرى وموعظةً لهم.
إننا نخطئ حين نقلب الأولويات ونحشد طاقات الأمة في معركة جانبية بينما نغفل المعركة الرئيسية، وكأن مشاكلنا بدأت للتو مع أمريكا بفعلة ذلك الشخص مع أنه من المهين بحق أمة يبلغ تعدادها مليار ونصف مليار إنسان أن ينجح فرد واحد أو مجموعة أفراد باستفزازها واستثارة غضبها..
إن حقيقة مشكلتنا مع أمريكا ليست في هذه الحادثة، ولكنها في سجلها الأسود الحافل بالظلم والإجرام ضد الإنسانية..
إن مشكلة أمريكا ليس مردها إلى هذه الأفعال الصبيانية التي لا تضرنا شيئاً، ولكنه في سياساتها الداعمة للكيان الصهيوني على أرضنا، وفي نهب ثرواتنا وحمايتها لأنظمة القمع والاستبداد الجاثمة على صدورنا..
لعل من موافقات القدر أن يتزامن هذا الصخب حول إحراق المصحف مع تصريحات لوزيرة الخارجية الأمريكية تبشر فيها بانقسام السودان وتوحي لسكان الجنوب بالتصويت لصالح الانفصال بالقول إنه صار أمراً محتوماً، وبينما نحن مستنفرون إلى آخر مدىً في معركة إحراق المصحف فإن هيلاري بدأت بتقسيم الغنائم قبل بدء المعركة الحقيقية وأخذت تتحدث عن ثروات جنوب السودان ونفطه.
هذه المواقف الأمريكية الرسمية الساعية إلى تفكيك المفكك وتجزئ المجزأ من بلادنا لم نجد فيها ما يستفزنا ومرت دون أي موقف رافض مع أنها أخطر بدرجة لا تقارن من تصرفات فردية رعناء أقدم عليها شخص أرعن.
فبينما لا يملك ذلك القس أكثر من قلب أسود معبأ بالكراهية، وبعض التصرفات الصبيانية، فإن أمريكا الرسمية التي تمثلها هيلاري تسخر كل إمكانياتها الجبارة ومخططاتها الماكرة في خلق وقائع عملية ملموسة تعزز واقع الضعف والتفكك العربي وتجهض أي محاولة للنهوض.
ولأن أمريكا الرسمية أكثر دهاءً ومكراً من بعض مواطنيها المعتوهين فإنها لم تجد حرجاً في إدانة ذلك القس، وقد جاءت إدانته على لسان الوزيرة هيلاري كلنتون أيضاً، فما دام تنفيذ مخططات تدمير الأمة جار على قدم وساق فلا ضير من المواقف الشكلية لاحترام الأديان والمقدسات، حتى تظل الأمة في سباتها العميق، فإسكات مثل هذه الأصوات المتطرفة هو مصلحة لمشروع الهيمنة الأمريكي قبل أن يكون مصلحةً للأمة.
إن تمزيق الأمة أخطر ألف مرة من تمزيق أوراق المصحف على بشاعته، وإن انتصارنا للقرآن لا يكون بردود أفعال عاطفية هوجاء ولكن بإحياء معانيه في حياتنا فنعتصم ونتوحد ونجاهد الظلم ونسير على الصراط المستقيم الذي دعانا إليه.
متى نفقه أولوياتنا ونتجاوز حالة ردود الفعل العاطفية إلى الجهد الواعي المنظم لننهض بواقعنا، ونوجه بوصلتنا إلى وجهتها الصحيحة فلا ننحرف عن المعركة الرئيسة إلى معارك جانبية يفرضها علينا أشخاص تافهون..
quot;إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيدquot;..
والله تعالى أعلم..
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات