يقولون إن الصورة بألف كلمة، وربما جاز لنا بعد التعديل أن نقول إن المقطع التلفزيوني بعشرة آلاف كلمة، فهو يعرض الأحداث أمامنا كما هي ويتركها تتحدث عن نفسها بنفسها دون الحاجة إلى ترجمان..
في زمن الفضائيات والانترنت تغيرت قواعد اللعبة، وانتهى ذلك الزمان الذي كان يحل فيه أحد الطغاة في قرية فيبيد أهلها ويستأصل شأفتها دون أن يسمع أحد أو يرى، ويخرج منها وكأنه لم يصنع شيئاً.
في هذا العصر تحول العالم إلى قرية صغيرة، فما يحدث في مشارق الأرض يعلمه سكان مغاربها لحظة وقوعه، فلم يعد من السهل إخفاء الحقائق..وهذا الواقع الجديد بلا شك ليس كما يشتهي الذين يريدون علواً في الأرض وفساداً، فهو يكبح جماحهم ويفرض عليهم قيوداً ومحددات تراعي الاعتبار الأخلاقي، إن لم يكن عن إيمان، فخوفاً من تضرر مصالحهم الأمنية والسياسية والاقتصادية أمام غضب الشعوب المحبة للخير والإنسانية..
في ضوء هذا الواقع الجديد زادت أهمية الإعلام كأداة مؤثرة وفاعلة في المواجهة، ولم تعد المعارك تحسم بالطائرات والدبابات وحدها ولكن صار للشعوب كلمتها التي تفرضها على أرض الواقع..
لهذا فقد صار لزاماً على كل صاحب قضية عادلة أن يولي اهتماماً أكبر تجاه المعركة الإعلامية، وألا يراهن على قوة ساعده وحسب، لأنه لا معنى لخوض معركة عسكرية بينما الحقائق مشوهة، فالعالم يظن أن المعتدي معتدىً عليه وأن المظلوم ظالم.
الفلسطينيون والعرب كأصحاب قضية عادلة ليسوا استثناءً من القاعدة، فهم مطالبون بالانتباه إلى هذا الميدان وإحسان استثماره في التأثير على الرأي العام وتشكيل وعي شعبي عالمي يناصر قضيتهم العادلة، وينفض من حول إسرائيل حتى تزداد عزلتها ويتعمق مأزقها..
إننا لا نقصد أن نتصنع ونتباكى لإقناع العالم بمعاناتنا فالحقائق تتحدث عن نفسها، ونحن نملك من الحقائق والوثائق ما يفوق الجبال في وزنها مما يكفي لإحداث انقلابة كاملة تغير مسار المواجهة مع الاحتلال..كل ما نحتاجه هو أن نبرز هذه الحقائق وأن نحرر وعي الشعوب العالمية من التزييف الممارس عليها من قبل الاحتلال والماكينة الإعلامية الجبارة المساندة له..
في الأيام الأخيرة شهدت فلسطين المحتلة تصعيداً غير مسبوق في جرائم الاحتلال وممارساته غير الإنسانية الموثقة بالصورة والصوت، فقبل أيام قليلة فقط عرضت وسائل الإعلام صورة مغتصب صهيوني وهو يدهس مجموعة من الأطفال بشكل متعمد ويلوذ بالفرار، وقبلها عرضت صورة قيام جندي صهيوني بإهانة أسيرة فلسطينية وهي معصوبة العينين ومكبلة اليدين، وقبلها صورة إحراق مسجد الأنبياء وتمزيق مصاحفه، وقبلها فرض الإقامة الجبرية على الطفل كرم دعنا وحرمانه من الذهاب إلى بيت أهله أو مدرسته ستة أشهر،كل هذه الأحداث المكثفة وقعت في أقل من أسبوع، وقبلها كثير من الأحداث التي تعد ولا تحصى، هذا عدا عن أضعاف مضاعفة من الجرائم التي تقع بعيداً عن وسائل الإعلام..
إنه من غير المعقول أو المقبول أن نملك كل هذا القدر الهائل من الحقائق والوثائق التي تدين الاحتلال وتعزز صورته كدولة إرهاب وفصل عنصري، وتجعل من قادته مجرمي حرب منبوذين من أحرار العالم وملاحقين أمام العدالة، وبعد ذلك نزهد فيها ونتكاسل عن بذل الجهد لتوظيفها، بينما في المقابل نجد دولة الاحتلال تتمسك بشبهات سخيفة لا تصمد أمام التدقيق وتستغلها إلى أبعد مدى وتكثر من البكاء والنحيب حولها حتى تحدث ضجة عالمية، كما فعلت في استغلال المقذوفات الفلسطينية البدائية التي سمتها صواريخ فأنشأت متحفاً خاصاً لعرضها وجعلتها الكعبة المقدسة التي يحج إليها السفراء والوفود من كل فج عميق..
ليس صحيحاً أن الاحتلال لا يعبأ بالرأي العام العالمي وأنه يملك قوةً خارقةً تجعل منه استثناءً تاريخياً لا يتأثر بالمحيط الخارجي، فهذا الزعم ليس إلا دعوةً صريحةً للسلبية والقعود، ولو كان الاحتلال لا يتضرر بتضرر صورته الإعلامية لما وجدنا كل هذا الاستنفار الدبلوماسي والإعلامي من قبله قبل أي هجوم عدواني يشنه، أو بعد أي جريمة يرتكبها في محاولة لترميم صورته والحفاظ عليها كضحية مسكينة تدافع عن نفسها في مواجهة الأخطار المحدقة..
إن صورة اغتيال الطفل محمد الدرة أمام كاميرات العالم التي حلت ذكراها العاشرة قبل أيام، وما أحدثته من هزة في أعماق الضمير العالمي لا تزال حاضرةًً بقوة مما يدلل بأن الصورة التلفزيونية تستطيع أن تحدث تأثيراً يفوق تأثير الطائرات والصواريخ، ولو أننا أنفقنا مليارات الدولارات من أجل كشف حقيقة إسرائيل أمام الشعوب المغرر بها لما نجحنا في ذلك مثلما تنجح ممارسات إسرائيل نفسها في إدانتها..
يكفي للتدليل على أهمية الصورة الإعلامية أن نذكر بأن مرتكز الخطاب الإعلامي للمشروع الصهيوني قام من أول يوم على أنهم ضحايا للإبادة النازية، ونجحوا في ابتزاز العالم واستدرار تعاطفه بهذا الخطاب، فإذا أدركنا أن هذا هو مرتكز إسرائيل في تبرير وجودها واستجلاب الدعم لبقائها فإنه يتضح لنا مدى أهمية نسف هذه الصورة وإبراز إسرائيل على حقيقتها كياناً عنصرياً يقوم على القتل والإبادة.
لقد أثبت سلاح الصورة الإعلامية فاعليته بما نشهده من تنام لمشاعر الغضب العالمية تجاه كيان الاحتلال، وتزايد عزلته الأخلاقية والسياسية، ويكفي كمثال واحد فقط أن نستدل بما أعلنته النقابات العمالية في بريطانيا مؤخراً عن مقاطعتها لدولة الاحتلال في سياق خطوات مماثلة لكثير من التجمعات الشعبية العالمية، ومثل هذه الخطوة لم تكن لتحدث لولا توالي مشاهد الجرائم التي يرتكبها الاحتلال وتتناقلها وسائل الإعلام.
إن الجهاد بالإعلام لا يقل أهميةً عن الجهاد بالسلاح، وربما يتفوق عليه في بعض المراحل، لذا فإنه ينبغي إبداء اهتمام أكبر في استغلال تقنيات الانترنت ومواقعه التفاعلية لنشر صور الجرائم الإسرائيلية بكل لغات العالم..
أما الفضائيات فنخص بالذكر قناة الجزيرة الناطقة بالانجليزية فنحن لا نريد لها أن تكون نسخةً مكررة من الbbc أو الcnn، ولكننا نطمح أن تكون الممثل الصادق للآلام والآمال العربية في بلاد الغرب..
كما أن هناك مسئوليةً خاصةً على الفلسطينيين والعرب المقيمين في البلاد الغربية بأن يبذلوا جهداً أكبر في نقل الصورة الحقيقية إلى الشعوب الغربية والمساهمة في إزالة القناع الزائف عن وجه إسرائيل لتظهر بشاعة وجهها العنصري الاحتلالي. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون..
والله أعلى وأعلم..

[email protected]