الدرس الأهم الذي أفهمه من العيد هو أن الإنسان يتعبد ربه حتى باللهو واللعب، وفي هذا دلالة فلسفية عميقة، فأن تكون الفرحة عبادة كما أن الصلاة والصوم والتعب عبادة في مواضع أخرى فهذا هو مفهوم التوحيد والوسطية.
التوحيد يعني أن يتحرر الإنسان من الخضوع لأي شيء من دون الله سواءً كان هذا الشيء مادياً أو معنوياً. فلا يخضع لحجر أو شجر أو بشر، وكذلك لا يخضع للهيئات والأحوال فتكون هي الغاية من دون الله..لأن الخضوع للشيء هو نوع من عبادته وهو بداية الإشرك مع الله..
ربما يكون واضحاً كيف يخضع الإنسان لهواه الظاهر من مال أو شهوة أو سلطان، ولكن كيف نفهم خضوع الإنسان للهوى الخفي فتتحول صور العبادة التي افترضها الله عليه من كونها عبادةً وقربى إلى كونها اتباعاً للهوى؟
يحدث ذلك إذا تحولت من كونها مجرد وسيلة إلى الله إلى غاية مقصودة بذاتها.مثلاً الصوم هو خضوع لله ونحن نفهم كيف أن الإفطار في رمضان هو مخالفة لأمر الله. ولكن كيف نفهم التشديد على ضرورة التعجيل في الإفطار حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطور..
ما هي كل هذه الأهمية لتعجيل الفطور حتى يجعله النبي مؤشراً على خيرية الأمة؟
الجواب والله أعلم أن التعجيل بالفطور يعني أن الإنسان ملتزم بالإسلام من طرفيه فهو في حالة التوازن والوسطية، ملتزم بالصوم أولاً، لكن هذا الالتزام مقيد بالحد والمدى الذي شرعه الله له، فالصوم ليس غايةً تقصد لذاتها ولو كانت مرضاة الله في الأكل آناء الليل وأطراف النهار لما تردد في فعل ذلك، وهذا يعني أنه متحرر من أي هوى ظاهرياً أو باطنياً، وأنه لم يعد متبعاً لحظوظ نفسه وميولها إلى أي اتجاه كان هذا الميل..
يفهم المرء كيف يكون إفطار رمضان اتباعاً للهوى، ولكن كيف يكون تأخير الإفطار كذلك، مع أن هذا التأخير في ظاهره دلالة تقوى وإيمان فهو يسبب للإنسان مزيداً من الجوع والعطش؟
والجواب يأتي من فهم عميق لسيكولوجية الإنسان فهو يملك قدرة هائلةً على التأقلم والتعويض، فإذا حرم من شيء فإنه مع مرور الوقت يألف هذا الحرمان فيصير مصدر استمتاع وتلذذ له..
وهذا ما نراه في واقعنا في حالة الفقراء مثلاً فمن يألف الفقر فإنه يصبح جزءً من كينونته النفسية، فإذا جاءته فرصة للغنى فإنه يزهد بها، وإن سعى إليها فليس سعياً جاداً لأن هناك دافعاً عميقاً لا شعورياً في داخله باللذة والاستمتاع بكونه فقيراً، وهنا نفهم العدالة الإلهية في تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء، فهذه تقسيمات ظاهرية لكن التأمل العميق يظهر أن كلا الفريقين منسجم نفسياً مع مستوى معيشته quot;يبسط الرزق لمن يشاء ويقدرquot;.
بهذا المنطق فإنه مع تعود الإنسان على الصيام فترات طويلة لا يظل الطعام هواه الرئيسي، ولكن يتحول هواه إلى البقاء على هذه الحالة من الجوع والعطش لفترات طويلة..فهو يتحرر من هوىً ليتبع لوناً آخر من الهوى
والإسلام يريد أن يحرر الإنسان تحريراً كاملاً فكما أنه يسعى لتحريره من أن يكون عبداً لهواه الظاهر، فهو يريد أن يحرره أيضاً من هواه الخفي..لذلك فإن خير الأمور الوسط ، والوسطية هي خاصية الدين حتى يظل الإنسان متوازناً بعيداً عن الإفراط أو التفريط..
نستطيع أن نقرب معنى الهوى الخفي باستحضار أمثلة أخرى.. مثلاً في الصلاة فكما أن الإنسان يتبع هواه ويتكاسل عن أداء الصلاة، لكنه إذا تغلب على هذا الهوى وصارت الصلاة جزءً من كيانه، فإنه يدخل إلى ميدان جديد للابتلاء فربما يتسلط عليه نوع من هوى آخر، وهو الرهبانية المتواصلة دون انقطاع، لذلك كان لا بد من جرعة توازنية فكانت هناك أوقات ثلاث تكره فيها الصلاة، وكان المنهج النبوي بأنه يصلي ويفتر، فكما أن المرء يتعبد الله بالصلاة فإن هناك أوقاتاً يتعبده بها بعدم الصلاة، وهذه الأوقات وإن كانت استثنائية وليست هي الأصل إلا أنها كافية لتحرير المؤمن من الخضوع لهيئة معينة وتحويلها إلى غاية في ذاتها، وضمان بقائه عبداً لله وحده.
مثال ثالث في الزواج فالعفة خلق حميد إلا أن الانقطاع الكامل عن الزواج فيه خروج عن شرع الله، وكما لذلك يتقرب الإنسان إلى الله بالتعفف فإنه يتقرب إليه أيضاً بقضاء شهوته..
وربما تكون هذه خاصيةً مميزةً لجميع شرائع الدين بأن كل عبادة هناك من جنسها ما يقابلها لإبقاء الإنسان في حالة التوازن والوسطية وحتى لا يميل كل الميل في أي اتجاه سواءً كان اتجاه التفريط والتحلل أو اتجاه الرهبانية والتبتل..فلا يكون الإنسان عبداً للملذات المادية، وفي ذات الوقت لا يكون عبداً للأهواء الخفية التي تتولد مع الإلف وطول العهد فتصير الأشياء التي ظاهرها تعب ومجاهدة هي مصدر تلذذ، وبذلك تتحول العبادة والتعفف والرهبانية من كونها مجاهدةً للهوى إلى هوى جديد..
فكما أن الأصل هو الإطالة والخشوع في الصلاة إلا أن هناك حقنةً توازنيةً نجدها في حث النبي على التخفيف في ركعتي الفجر النافلة، وكذلك التخفيف في حالة الإمامة بالمصلين، وكذلك تجوزه في الصلاة حين سمع بكاء أم الصبي..
ومثال آخر وهو قضية القتال فكما أن القتال بطبعه تكرهه النفس، إلا أن المقاتل مع طول الإلف فإنه يشعر بشهوة تدفعه إلى مواصلة القتال، وتحيّن فرصه، وهنا تكون مجاهدته لنفسه ليست في أن يقاتل ولكن في ألا يقاتل حين لا يكون القتال ضرورياً لإحقاق الحق والعدل..
إذاً التحرر الحقيقي ليس في ترك القتال كليةً ولا في اعتماده كليةً، ولكنه في تجرد النفس من أي هوى وتعاليها فإذا اقتضى الأمر قتالاً قاتل الإنسان وإذا اقتضى سلماً سالم دون أن تستهويه حالة فيخضع لها.
في ضوء هذه الفلسفة نفهم موقع العيد ضمن النسق الكامل فهو بمثابة الجرعة التي تعيد الإنسان إلى حالة التوازن وتضمن عدم انحرافه عن الطريق القويم.فإذا كان الإنسان طوال العام مجتهداً في الزهد في الحياة والتخفف من المباحات، فإن الإسلام يقول له في يوم العيد كما أنك تتقرب إلى الله طوال العام بالتخفف من المباحات فإن تقربك إلى الله في هذا اليوم هو باللهو واللعب وبالتوسع في المباحات وكما في الحديث عن أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب وذكر الله، فإن زعم إنسان أنه لا رغبة له بهذه الأمور وأنه يريد أن يظل في يوم العيد على ذات النمط المألوف من الزهد والانقطاع والاعتكاف فإننا نقول له:إنك لست صادقاً في عبادة الله، ولكنك تعبد إلفك ومعهودك، وحين يختار إحياء الحزن وزيارة المقابر يوم العيد فهذا ليس بدافع الاعتبار والاتعاظ، ولكن اتباعاً لشهوة خفية، لأن التقرب إلى الله في هذا اليوم هو بالأكل والشرب واللهو المباح..
أرأيتم كم هو ديننا عظيم!!
والله أعلى وأعلم..
التعليقات