كل مولود يولد على الفطرة، وحين تتفتح عيناه على الحياة يكون متحفزاً للتفكير والإبداع، لكن ضغط المجتمع والثقافة السائدة سرعان ما يطفئ هذا النور الفطري، ويجهض أشواقه للاستكشاف والمعرفة، ويقيده في قوالب جامدة لا روح فيها، فيتأطر الفرد وفق ما يريد له المجتمع من تقاليد وأنماط..
يكبر الفرد ويكبر معه تمسكه بهذه الأنماط التي وجد آباءه عليها، حتى تغدو جزءً راسخاً من كينونته لا يستطيع الفكاك منها، وهي التي توجه سيره وتحدد سلوكه بطريقة لا شعورية، فهو لا يستطيع أن يفكر إلا في دائرة المحددات الثقافية، حتى وإن ظن نفسه حراً في التفكير فليس هذا الظن سوى وهماً كبيراً مثله في ذلك كمثل الكائن الحي في محمية طبيعية فهو ينطلق فيها بأقصى سرعته ويذرعها مجيئاً وإياباً ويظن أنه يمتلك الحرية للانطلاق حيثما شاء دون أن يدرك أنه لا يستطيع ذلك إلا في الحدود التي يسمح بها القائمون على هذه المحمية، وهو لن يدرك أن حركته مقيدة إلا إذا وقف على حدود المحمية واستشرف العالم الخارجي، حينها فقط سيدرك أن هناك عالماً أوسع وأنه ليس حراً بالقدر الكافي، ونفس الشيء مع الإنسان فهو لا يدرك المقيدات الثقافية والاجتماعية التي تحول دون انطلاق تفكيره إلا إذا اعتزل صخب المجتمع وضوضائه، وفكر خارج الإطار السائد..
إن الإنسان في غمرة استغراقه في المجتمع وثقافته لا يتصور أن هناك حقيقة خارج الأطر التي اختطها له المجتمع، فالقيم والعادات والتقاليد هي الطريقة المثلى، وليس بالإمكان أبدع مما كان ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ويبين لنا القرآن إلى أي مدى يصل الإنسان في استغراقه في الأفكار التقليدية ورفضه لأي جديد حتى تصبح الحقيقة البينة موضع تعجب لا لشيء إلا لأنها ليست ضمن الأطر القديمة، وهذا ما يبينه قول المشركين:quot;أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجابquot;، مع أن المثير للعجب هو تعدد الآلهة لا توحدها، وقوم لوط من قبل حين استغرقوا في حياة النجاسة صاروا ينظرون إلى الطهارة بأنها شيء مستهجن: quot;أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرونquot;..
إن القرآن الكريم أعطى اهتماماً كبيراً لضرورة تحرير عقل الإنسان من الأطر السائدة والقوالب الجامدة، ومن يتأمل القرآن بموضوعية وتجرد يدرك أن رسالة القرآن الأساسية هي إيجاد الإنسان المفكر المتحرر quot;لعلهم يتفكرونquot;..
إن المجتمع يمثل قوة ضغط هائلة على الفرد تمنعه من التفكير الحر المتجرد من الرؤى المسبقة، والإنسان الفرد حين يخلو مع نفسه ويتجرد من الهوى والقيود الاجتماعية فإنه سيهتدي إلى الحق، لكنه حين يعود بعد ذلك إلى ضوضاء المجتمع وصخبه فإنه سرعان ما ينتكس على رأسه ويجرفه التيار الاجتماعي .لأن مسايرة المجتمع أسهل على النفس من مخالفته، وبذلك فإن الإنسان بين دافعين دافع عقلي وآخر انفعالي، فهو حين يخلو بنفسه ويتجرد للحق فإنه يفكر بعقله لكنه حين ينتكس إلى التقليد الأعمى للمجتمع، فإنما يفعل ذلك من منطلق عاطفي انفعالي، ولعل هذا ما دفع القرآن إلى استعمال التعابير الانفعالية في حديثه عن المجتمعات quot;غمرتهمquot;، quot;سكرتهمquot;، quot;كل حزب بما لديهم فرحونquot;..فلم يقل مؤمنون ولا مقتنعون، ولكن فرحون وهذه التعبيرات تدل على سلوك انفعالي..
وللتحرر من هذا الضغط الاجتماعي الهائل كانت هذه الوصفة القرآنية الرائعة:quot;قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكرواquot;..ويتساءل المرء:ما سر تخصيص العدد باثنين أو واحد، والإجابة نفهمها في ضوء ما تقدم أن الإنسان حتى يتفكر تفكراً موضوعياً فإنه يجب عليه أولاً أن يتحرر من هيمنة المجتمع وقوالبه الجامدة، ويعيد الاعتبار للعقل الذي كرمه الله به، وهذا لا يصلح أن يكون في تجمعات كبيرة لأنه إذا اجتمع عدد كبير فإن السمات المميزة للمجتمع ستصاحبهم في تجمعهم فلا يزيد الأمر عن كونه إعادة نسخ لقوالب ميتة، و سيعزز اجتماعهم النمط السائد بدل أن يتحرر منه، كدأب قوم إبراهيم حين نكسوا على رءوسهم بعدما تبين لهم الحق فقالوا حرقوه وانصروا آلهتكم..
لذا لا غرابة لمن يتأمل حياة الأنبياء والفلاسفة والمصلحين أن يجد أن الخطوة الأولى في مسيرتهم الإصلاحية هي الاختلاء مع الذات وتأمل الطبيعة والبعد عن صخب المجتمع ولغوه، نجد هذا عند موسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعند بوذا وغيرهم كثيرون..
إن القرآن الكريم يكرر أكثر من أربعين مرةً ذمه لاتباع الأقوام السابقة الأعمى لما وجدوا عليه آباءهم quot;إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدونquot;..والآباء هم رمز للنمط الاجتماعي والثقافة السائدة، فالإنسان حين ينشأ فإنما يقلد أباه ثم أقرب الناس إليه ثم المجتمع بمجمله..ومثل هذه القصص القرآنية لا ينبغي أن نسقطها على قريش وعاد وثمود وحسب، بل إن لنا نصيباً من الوقوع في هذه الأمراض فهي أمراض إنسانية عامة، وحال المسلمين كحال غيرهم في مواجهة دعوات التجديد والإصلاح هي قولهم:إنا وجدنا آباءنا على أمة، أو ما يقاربها من ألفاظ كقولهم:حسبنا ما ألفينا عليه السلف الصالح، والعيب ليس في اتباع السلف والآباء من حيث المبدأ، ولكن العيب هو في تعطيل العقل والتفكير، والتقليد الأعمى للسلف، لذلك فإن القرآن كان يرد على دعوى الآبائية بالقول:quot;أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكمquot;..فإن وجدنا هدىً في المجتمع والثقافة أخذنا به وعززناه، ولكن إن وجدنا طريقةً أهدى وجب علينا أن نترك ما كان عليه آباؤنا وأن نتبع الحق..وحتى نكون قادرين على التمييز بين ما نأخذه وما نرده من إرث المجتمع، فإن ذلك لا يكون إلا بالتحرر الفكري، والانعتاق من قيود الثقافة وضغط الأنماط السائدة، والنظر النقدي إلى المنظومة الاجتماعية وليس تقديسها والتعامل معها كأنها شيء واحد يجب أخذه كله..
إن قال قائل إننا نحن المسلمين حالة خاصة لأن بين ظهرانينا القرآن الذي لا ينطق عن الهوى فإننا نرد عليه بالقول: صحيح أن القرآن مقدس ويجب أن نأخذه كوحدة واحدة، ولكن تفاعلنا مع القرآن وتفسيرنا له ليس مقدساً، والمسلمون ليسوا ترجمةً دقيقةً لآيات القرآن، ولكنهم خليط من الصواب والخطأ، لذلك فإنه يصيبهم ما يصيب الأقوام والمجتمعات الأخرى من مرض الجمود والانغلاق، والقرآن نفسه هو الذي يلح علينا دائماً بضرورة التفكر والتدبر والتعقل والتحرر من ضغط الآباء..
إن التحرر من ضغط المجتمع يتطلب قوةً هائلةً للانعتاق من الجاذبية، ولا يقدر عليه إلا آحاد الناس من الذين أوتوا العلم والإيمان فيرفعهم الله درجات، وعبر التاريخ فإن أكثر الناس مقلدون، وقليل هم الذين ينجحون في السباحة ضد التيار الجارف، لذلك فقد خلدهم القرآن بأنهم quot;السابقون السابقون أولئك المقربونquot;..لكن هؤلاء القليل هم الذين يغيرون وجه التاريخ دائماً وهم الذين يرتقون بالواقع الإنساني، ولولا هؤلاء القلة لبقي الواقع البشري جامداً معطلاً عن الإبداع، ولأدى ذلك إلى الانغلاق والتقوقع والموت..
إن النهوض من واقعنا البئيس لا يكون باستعمال أدوات تقليدية وليس بإعادة إنتاج نفس الأفكار الميتة التي كانت سبباً في تأخرنا، وإن أردنا نهضةً فإننا ينبغي أن نسلك طريق التجديد وأن نطلق العنان للتفكير المتحرر من أية ضغوط وإكراهات..
طوبى للمجددين..فهم الذين تنعقد عليهم آمال التغيير والإصلاح..
والله أعلى وأعلم..

[email protected]