حين أفرغ من كتابة مقالة أجلي فيها فكرةً وأضيف فيها معنىً يراودني شعور بالرضا أن ساهمت بإضاءة شمعة، لكن هذا الشعور سرعان ما يتبدد حين أتذكر أنني أكتب في وسط لا يقرأ فيه إلا من رحم الله، فأتساءل: ما قيمة أن أكتب مئات المقالات وأن أحشد كل الأدلة والبراهين لتوضيح فكرة بينما الناس لا يقرءون، وما جدوى محطة الإرسال دون جهاز الاستقبال، وماذا ينفع أن نوجد في عصر الطوفان المعرفي وبين أيدينا شبكة عنكبوتية جبارة من ملايين الكتب والمواقع، بينما لم نصنع الإنسان القارئ، وإذا كانت عيناك مظلمتين فماذا ينفعك ضياء الكون؟..
إن إيجاد الإنسان القارئ مقدمة لا بد منها حتى لا تكون كتاباتنا نقشاً على الماء أو صرخةً في واد..
القراءة هي التي تعطي للإنسان معنى، ومثل الذي يقرأ والذي لا يقرأ كمثل الحي والميت..والقراءة ليست مجرد هواية كما يسميها البعض، بل هي فريضة واجبة وضرورة تمليها طبيعة العصر، فنحن في عصر العلم والمعرفة، والقراءة هي معراج الصعود وسبيل صناعة الحضارة..
القراءة هي التي توسع آفاق الإنسان، وتبصره بأسرار الحياة، وتضاعف خبرته فيكسب إلى حياته حيوات مضاعفةً، وحين سئل عباس العقاد عن سر ولعه بالقراءة قال:إن حياةً واحدةً لا تكفيني..وهو يعني بهذا أنه حين يقرأ كتاباً فإنه يهضم خلاصة تجربة حياة كاتبه في عشرات السنين، فيقطفها القارئ في ساعات قليلة، فكأنما أضاف إلى عمره عمراً جديداً..
القراءة هي سبيل المعرفة. والمعرفة هي التي تمكن الإنسان من تسخير الطبيعة، ومن إمساك مقاليد الأمور، وتمنحه شعوراً بالأمان والسيطرة..فلو جاءت معلومة إلى إحدى الدول بأن سفينةً معاديةً تقترب من شواطئها دون تحديد طبيعة السفينة وتوقيت مجيئها وخط سيرها ونوع الأسلحة التي تحملها، فإن الدولة ستضطر إلى استنفار آلاف العناصر من قواتها البحرية على طول شواطئها وتزويدهم بالأسلحة المختلفة للتصدي لهذه السفينة المجهولة، والانتظار لأوقات طويلة قبل أن تصل السفينة، ومراقبة كل السفن القادمة وتفتيشها..كل هذه التكلفة الباهظة نتيجة غياب المعلومة الدقيقة..لكن ماذا لو كانت هناك معلومات محددة تمتلكها الدولة حول طبيعة السفينة وعدد العناصر الذين على متنها ونوع الأسلحة التي يمتلكونها، ومكان وزمان رسوها، فإنها ستختصر هذه التكلفة إلى أدنى حد ممكن، وستكتفي بإرسال عناصر قليلة بأسلحة محددة للتعامل معها..
أرأيتم كم هو الفرق الذي تصنعه المعرفة كبيراً quot;قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمونquot;..
القراءة هي التي توسع أفق الإنسان وتعطيه الرؤية الشاملة المحيطة فتتغير نظرته للحياة، فلا يستغرقه نكد اللحظة ولا تحبطه مآسيها ونكباتها، وإن عظمت، لأنه يراها في سياق أوسع فهو قد غاص إلى بواطن الأمور واطلع على سير الأولين فعلم أن هذه الحياة تسير في خط معلوم، وأن ما يبدو شراً هو خير بالنظر إلى صيرورته وعاقبته..
إن القراءة كانت دائماً شرطاً للارتقاء وهي أكثر إلحاحاً في هذا العصر الذي باتت فيه المعلومة أكثر فاعليةً من الأسلحة المدججة.وإذا أردنا أن تكون لنا مكانتنا اللائقة بين الأمم، فإن ذلك لن يتأتى إلا بإيجاد جيل قارئ.
القراءة ليست ترفاً يمارسه الفارغون، بل هي رسالة حياة وهي جهاد في سبيل الله، يؤجر المرء عليها حين يستحضر النية بأنه يريد أن يقرأ لينفع الناس ويقدم حلولاً إبداعيةً تخرجهم من الظلمات إلى النور
بل إن القراءة بهذه النية هي الجهاد الأكبر، وهي واجب الساعة، لأن كل عمل لا يبنى على علم ومعرفة فهو عمل مهتز لا يملك أساساً متيناً يمكنه من الصمود ومواجهة الرياح العاتية..
وحتى تكون القراءة مثمرةً ينبغي أن تكون قراءةً شاملةً متنوعةً، فلا يقرأ الإنسان من أجل الشهادة الجامعية أو الوظيفة، ولكن يقرأ لأنه صاحب رسالة، فيقطف من كل بستان زهرة وينهل من حكم الأولين والآخرين، والشرقيين والغربيين، يطالع في الفكر والتاريخ، والسياسة والإدارة، والتراث والحداثة، والآداب والعلوم، لا يقتصر في قراءته على لون فكري واحد حتى لا ينتهي إلى الجمود وضيق الأفق، ولكن ينوع مصادره فتتوسع آفاقه ويبصر الحياة من زوايا جديدة، فيكون الإبداع والانفتاح الفكري، ويتحرر من التعصب والانغلاق..
والقراءة للآخر لا يشترط فيها أن نتفق مع كل أفكاره..لأن قيمة القراءة للآخرين هي أنها تنبهنا بأن هناك زوايا نظر جديدة، وأننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن عند الآخرين ما يمكن أن يضيفوه، فلنوطن أنفسنا على القراءة للآخرين حتى ننقذ أنفسنا من الجمود والانغلاق على الذات..
إن للكتاب ميزات لا تشاركه فيها أية وسيلة أخرى، وعبثاً يظن فريق من الناس أنه يستطيع أن يبني نفسه معرفياً من خلال التلفاز فيهمل الكتاب..لأن التلفاز كما يقول علي عزت بيغوبيتش رحمه الله يعزز الثقافة الاستهلاكية فيتلقى المشاهد وجبته اليومية من المحتوى التلفزيوني تلقياً سلبياً دون أن يكون أمامه وقت للتفكير، والمناقشة..
ويستفيض الكاتب صهيب الشريف في شرح خطورة تقديم التلفاز على الكتاب كوسيلة معرفية فيقول:
(إن سرعة انتقال الصورة-في التلفاز- التي تحتوي ملايين النقاط الضوئية pixel والموجه على الشاشة لا تترك فرصة للمتلقي كي يدرك كنهها , لأن حجم ما تحمله من المعلومات أكبر بكثير من قدرة الدماغ على استيعابها بوقت قصير.
كما أن الرسائل الإعلانية التي لا تكاد تحتوي على معلومة مفيدة, تكرر وبسرعة خاطفة صور متتالية ,كأنها ضرب على رأس المشاهد ,ولا يبقى إلا اسم السلعة المعلن عنها, وهنا يتحول المشاهد إلى زبون يتلهف لتلقف السلعة, وليس لديه الوقت للتبصر بمدى حاجته إليها.
هذه الميديا البصرية تعمل على الاستئثار باهتمامنا,ولكن لا تتيح لنا الفرصة للتأمل والتفكير.)
لهذا السبب الذي أبدع الأستاذ صهيب الشريف في شرحه يتبين أنه لا بديل عن الكتاب مصدراً للمعرفة يدربنا على التفكير التفاعلي والإيجابية..
ليس من المقبول في عصر الثورة المعلوماتية أن نسمع من يقول: إنني لم أتعود على القراءة، فالنفوس قابلة للتحول نحو عادات جديدة، وإنما العلم بالتعلم، فلنجاهد أنفسنا ولنلزمها بالإقبال على القراءة، وإن لم نشعر برغبة تجاه القراءة، فلنتعامل معها كما نتعامل مع الدواء المر الذي لا نكاد نسيغه ولكننا لا نستغني عنه طلباً للشفاء والعافية، وكما أن الدواء يشفي الأبدان فإن القراءة تشفي الأرواح، ويستطيع المرء إذا عزم النية ليصبح قارئاً أن يبدأ بالقصص والروايات، وأن يخصص للقراءة وقتاً معلوماً، على أن يتدرج حتى تكون قرة عينه ولذة روحه في القراءة فلا يستطيع أن يستغني عنها لأنها غدت جزءً من كينونته..
إننا لن نغير شيئاً بالعواطف والانفعالات واللهاث خلف الأحداث، وإن من لا يجاهد نفسه ليجلس أمام الكتاب خمس ساعات في اليوم على الأقل فلن ينجح في إضافة خدمة نوعية لأمته، ولن يكون أكثر من تكرار لنسخ تقليدية مهما كانت حماسته وانفعاله..
إن مما يؤسف له أن تكون أمة quot;اقرأquot; أقل الأمم قراءةً ..بينما في الأمم الأخرى يستثمرون كل لحظة في سبيل المعرفة حتى في أوقات الأزمات كما رأينا في المطارات الأوروبية في بركان آيسلندا.فلم يقض المسافرون أوقات الانتظار في الثرثرة وقزقزة اللب، ولكن رأينا الواحد منهم يمسك كتاباً ويتصفحه حتى لا تضيع ساعة من أوقاتهم دون فائدة..
أليس من العبث أن نتساءل بعد ذلك عن سر نهضتهم وتفوقهم علينا..
والله أعلى وأعلم..
التعليقات