رغم أنني لست هاوياً لمتابعة مباريات كرة القدم بما في ذلك مباريات كأس العالم التي تشرئب لها أعناق الملايين، ورغم أنني لم أركل كرة القدم في حياتي سوى بضع مرات أدخلت في إحداها هدفاً في مرمى فريقي بالخطأ، ورغم أنني لا أفضل الانجراف مع التيار والكتابة تحت ضغط تهويل الإعلام..رغم كل هذه العوامل إلا أنني وجدت في فوز قطر باستضافة مونديال 2022 درساً يستحق التعليق..
الدرس الأهم الذي أراه في هذا الفوز هو أن العرب قادرون على الإنجاز، وعلى أن يكون لهم مساهمة فاعلة في ميدان ما في الأسرة الإنسانية..

لا يقلل من شأن هذا الإنجاز أن يكون استضافة لعبة كرة، وليس إنجازاً علمياً أو تكنولوجياً.. فالمهم أنه إنجاز وقيمته أنه يأتي في مرحلة تاريخية صعبة تسود فيها قيم الإحباط والإحساس بالعجز وبعدم القدرة على فعل شيء، وهذا الشعور السلبي المتمكن من الإنسان العربي هو في ذاته عامل تدمير إضافي يكرس واقع التأخر العربي ويفقد الإنسان الثقة في التغيير والنهضة ويكبله بقيود من البرمجة السلبية.
إن شعور الإنسان بأنه قادر على تحقيق الإنجاز هو خطوة مهمة في طريق النهضة، ولا يمكن أن تتم النهضة دون هذا الشعور، إذ كيف نتوقع من إنسان مثقل بمشاعر اليأس والإحباط يرى الدنيا بمنظار أسود قاتم أن يؤدي دوراً حضارياً وأن يكون له إسهام في المسيرة البشرية، أما حين يستعيد الإنسان الثقة في قدرته على الإنجاز وتسيطر عليه المشاعر الإيجابية فإن هذه المشاعر تحرره من البرمجة السلبية وتصوغ منه إنساناً فاعلاً متحرراً من أغلال الهزيمة وأوهام العجز فينشط من عقاله وينطلق إلى الحياة للإبداع والإعمار..

إن درس مونديال قطر مهم في هذا الاتجاه، فأن تتمكن دولة صغيرة في مساحتها الجغرافية وعدد سكانها من الانتصار في المنافسة مع دول عظمى بحجم الولايات المتحدة واليابان وتفوز بتنظيم أضخم حدث رياضي على أراضيها، فهذا من شأنه أن يعيد الثقة للعرب بأنهم قادرون على الإنجاز إن تحلوا بالإرادة وحسن الإدارة، وأن تفوق الأمم الأخرى وتأخرهم ليس قدراً لا فكاك منه.
كما أن تمكن هذه الدولة الصغيرة من تحقيق ما لم تستطع الولايات المتحدة بإمكاناتها الجبارة تحقيقه فيه إشارة رمزية إلى أن عصر القوة والعضلات والديناصورات يتراجع، بينما يتقدم عصر العلم والفكر والإنسان، وأن حيازة التقدم ممكن حتى وإن لم نكن الأقوى عدةً وسلاحاً..

إن حال الأمة الإسلامية في هذه المرحلة التاريخية شبيه بقصة الفيل الذي قيدت قدماه بسلسلة حديدية قوية فحاول أن يكسرها لكنه لم يستطع ومع تكرار المحاولة وتكرار الفشل يئس الفيل من قدرته على التحرر من قيده واستسلم، فلما رأى صاحبه هذا اليأس استبدل سلسلةً خشبيةً بالسلسلة الحديدية، وكان بإمكان الفيل أن يكسر السلسلة الجديدة بمنتهى السهولة، لكن برمجته السلبية وتراكم تجارب الفشل السابقة جعلته لا يفكر مجرد تفكير بالمحاولة، وحين سأل الطفل أباه لماذا لا يحاول الفيل الهرب وهو قادر عليه: أجاب أبوه:أنا أعرف أنه قادر على الهرب، وأنت تعرف، ولكن الأهم أن الفيل نفسه لم يكتشف بعد قدرته الذاتية على التحرر.
إن الشعوب العربية قد أثقلتها تجارب الفشل حتى أصابتها بشعور من الإحباط أعاق قدرتها على الإنجاز، لذلك فإن الأمة في أشد الحاجة إلى ما يعيد تذكيرها بقدراتها ويزرع الثقة في نفوسها، أما الإفراط في الحديث عن السلبيات، وأننا أمة عاجزة ضحكت من جهلها الأمم فهو يؤدي إلى نتائج عكسية ويفاقم المشكلة ولا يحلها.

إن العرب يملكون كل عناصر القوة المادية بفضل الله، فهم لا ينقصهم أعداد بشرية أو ثروات طبيعية أو مساحة جغرافية..كل ما يلزمهم هو الإرادة وحسن الإدارة وامتلاك رؤية للتقدم والإنجاز، ونحن لا نطالب بانقلابة كاملة بين عشية وضحاها فهذا ليس من الواقعية في شيء، ولكننا نطمح إلى البدء في مراكمة الإنجازات، ولا يضر أن تكون البداية بخطوات صغيرة، المهم أن نبدأ وأن نتقدم، وأن تكون إنجازاتنا راسخةً لا تهزها الرياح العاتية.
لا أريد أن أستفيض كثيراً في قصة المونديال، ولكنني أدعو إلى الاستفادة من الروح التي بثها هذا الفوز، وتصديرها إلى مجالات الحياة الأخرى علميةً واقتصاديةً وسياسيةً من أجل إيجاد الإنسان العربي المقبل على الحياة بإيجابية وثقة والذي ستقوم على كتفيه نهضة شاملة تخرجنا من الظلمات إلى النور..

والله غالب على أمره..

[email protected]