برزت إلى السطح في مونديال جنوب أفريقيا الأخير أبواق الفوفوزيلا الصاخبة التي تفوق قوة صوتها قدرة أذن الإنسان على التحمل. وقد أحسن أحد المعلقين الرياضيين في وصفها بأنها ثقافة الضجيج..والسؤال هنا ما الذي يدفع الناس إلى عشق هذا اللون من الصخب والضوضاء، وهل ثمة عنصر جمالي خفي لا نراه في هذه الأصوات المزعجة..
يبدو أن ثمة أسراراً نفسيةً في تكوين الإنسان هي التي تقف وراء ظهور هذه الثقافة المحتفية بالضجيج، وإذا كانت هذه الثقافة قد تجلت في مثالها الأوضح في مونديال جنوب أفريقيا، فهذا لا يعني أنها مشكلة ثقافة معينة، فأكثر الناس من مختلف الثقافات يعشقون حياة الصخب والضوضاء بأقدار متفاوتة. فما هي الأسباب التي تفرز مثل هذا السلوك الغريب في حياة الإنسان..
من أوحى إلي بتناول هذه الفكرة هو صديقي أشرف حين قال لي إنه لاحظ من خلال مخالطته للناس طوال سنوات عمله أن الإنسان كلما كان أقل تعلماً كلما كان أكثر ميلاً للصخب والضجيج وتشغيل المذياع بصوت عال.قلت له: يبدو أن كلامك يحتوي على قدر من المنطقية، وقد فكرت في موضوع مشابه حين كنت أستقل سيارة أجرة وكان السائق يستمع إلى أغنية صاخبة وقد أعلى صوت الأسطوانة بدرجة جنونية أزعجت الركاب، مع أنه لا يعي شيئاً من كلمات الأغنية، فكل ما يبحث عنه هو الصوت العالي..
يمكن فهم فلسفة حب الضجيج بنفس الآلية التي نفهم بها شرب الخمر، فهي محاولة للهروب من أعباء الحياة والدخول في حالة ذهول عن الوعي، وهي بذلك حالة لا عقلانية تفقد المرء توازنه، ويكون فيها أشبه بحال السكران، ولنتأمل دقة تعبير القرآن في إطلاق صفة quot;السكرةquot; لوصف حالة الذهول والغياب عن الواقع quot;لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهونquot;، quot;وترى الناس سكارى وما هم بسكارىquot;..
يلجأ الناس إلى حياة الضجيج للهروب من الخلو مع أنفسهم حتى لا يكونوا في مواجهة أسئلتها الحرجة، وحتى لا يفكروا، لأن التفكير يكشف لهم أن هناك تناقضاً بين ما هم عليه وبين ما ينبغي أن يكونوا عليه، فيجهضون أي بادرة للتفكير ليتخلصوا من الإحساس بالتناقض ومن تأنيب الضمير..
إن الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره، وهو يسعى جاهداً لإسكات صوت الفطرة السليمة، فلا يريد أن يتيح لها فرصة التعبير عن نفسها، فيشغل نفسه بأي شيء، يملأ برنامجه بالرحلات والسهرات والولائم، والرقص والصخب، ولا يطيق أن يفارق أصحابه، فإن خلا مع نفسه بعد كل هذا سارع إلى التخلص من هذه الخلوة بالاستماع إلى أغنية أو مشاهدة فيلم، أو برنامج تلفزيوني..
إن البحث عن الضجيج والصخب يكشف عن شعور داخلي بالنقص..وحين يشعر الإنسان بهذا النقص فإنه يسعى لتعويضه بأدوات خارجية، من حفلات ورقصات وتدخين، وحتى المبالغة في الطعام والشراب فإنما تكشف عن فراغ داخلي، وهنا نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأن الكافر يأكل في سبعة أمعاء بينما المؤمن يأكل بمعي واحد، وهو حديث نفهمه في ضوء معرفة أسرار النفس البشرية، فالكافر يشعر بالضياع الداخلي، فهو غير متوازن، ومندفع، يبحث عن ملء وحشته الداخلية بأدوات خارجية..
أما حين يكون الإنسان ممتلئاً علماً وإيماناً فإنه يكون أكثر ميلاً إلى الهدوء والسكينة، لأنه لا يشعر بعقدة نقص تؤرق سكينته، وتطيش سكونه، مثل الحكماء من كبار السن والمتعلمين الذين يتكلمون بصوت هادئ لكنه يفيض بالحكمة والإقناع، بينما الفارغون يصرخون بأصوات عالية دون أن يقدموا دليلاً مقنعاً..
إن الضجيج هو وسط مضاد لصوت العقل والحكمة، والأفكار الصحيحة لا يمكن أن تنبت في وسط الصخب واللغو quot;لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبونquot;، والتفكير لا يكون إلا في وسط هادئ، وحين نتأمل سير الأنبياء والفلاسفة فإننا نعجب من التشابه الكبير في نمط حياتهم، فكانوا يبدءون بالانسحاب من معترك الحياة الصاخبة والاختلاء مع الذات في رحلة روحية للتأمل قبل أن يخرجوا إلى العالم بدعواتهم، هذه الخلوة نجدها في حياة سقراط وبوذا وإبراهيم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام..
إن الانخراط في حياة الضجيج التي يلجأ إليها أكثر الناس يقتل ملكة التأمل والتفكير ومراجعة الذات في نفوسهم، ويبقيهم في حالة سكرة وذهول طوال حياتهم..
بينما الانسحاب من ضجيج الحياة هو مقدمة ضرورية للإبداع، والاهتداء إلى الحق والخروج بأفكار جديدة تنفع الناس، ومن هنا كانت دعوة القرآن للمكذبين به هي الخلوة مع أنفسهم quot;أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكرواquot;، لأن وجودهم في حالة الصخب والضجيج واللغو يمنعهم من التفكير الهادئ المتجرد..
إن مئات الآيات في القرآن تدعونا إلى التفكر، وفي الحديث عن النبي فإن تفكر ساعة خير من عبادة سنة، فمن أراد أن ينجو بنفسه، وينقذ إيمانه، وينفع الناس بأفكار إبداعية خلاقة، فإن هذا لن يتأتى له إلا بإبقاء مسافة فاصلة بينه وبين أجواء الصخب والمهرجانات والهتافات التي تحيط به من كل جانب، وتخصيص أوقات يخلو بها مع نفسه ليتفكر ويتأمل ويتدبر، فيهتدي إلى الحق..
والله أعلى وأعلم..
التعليقات